ارشيف من :خاص
الإمام الصدر: إمام الوطن والمقاومة ـ الحلقة الاولى
ليندا عجمي
وعائلة آل الصدر يحفل تاريخها الإيماني الرسالي، بنجوم لامعة من مفاخر المراجع وعلماء الدين الذين حملوا لواء الإسلام وراية المذهب بكل وعي وإخلاص وتفانٍ، وتشهد لهم بذلك ساحات العمل والجهاد في لبنان والعراق وإيران، على وجه الخصوص إسماعيل الصدر، ومحمد باقر الصدر، وموسى الصدر، ومحمد محمد صادق الصدر رموز شامخة وقيادات مجاهدة، من تلك السلسلة العلمائية الطاهرة، التي خدمت الإسلام والمسلمين وهي ما زالت على ذات الدرب الحسيني الخالد ، وهذا ما لا يحلو للعديد من الجهات والقوى المعادية للإسلام والمسلمين، ومن هنا اقتضت مصالحها أن تُغيِّب العالم والقائد المجاهد الإمام موسى الصدر عن ساحة الوجود والنفوذ الكاسح في أوساط الأمة، ووقف مده الثوري، كما فعلت مع أقرانه أمثال آية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر، وآية الله العظمى الشهيد محمد صادق الصدر.
وكان الإمام السيد موسى الصدر قد ولد في 15 نيسان/ أبريل 1928م في مدينة "قم" الإيرانية وتلقى في مدارسها الحديثه علومه الابتدائية والثانوية، كما تلقى دراسات دينية في كلية "قم" للفقه. تابع دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة طهران، وكانت عمّته أول عمامة تدخل حرم هذه الجامعة، وحاز الإجازة في الاقتصاد. أتقن اللغتين العربية والفارسية، وألمّ باللغتين الفرنسية والانكليزية. صار أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق في جامعة "قم" الدينية. انتقل في سنة 1954 إلى العراق، وبقي في النجف الأشرف أربع سنوات يحضر فيها دروس المراجع الدينية الكبرى: السيد محسن الحكيم، الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد أبو القاسم الخوئي في الفقه والأصول. تزوج سنة 1955 (من تروين خليلي) ، ورزق أربعة أولاد صبيين (صدر الدين وحميد) وبنتين (حوراء ومليحة).
في استعادة لبعض محطات تلك المسيرة النورانية المباركة لهذا العالم الرباني، كان لـ"الانتقاد" هذا الحديث مع السيد حسين شرف الدين، القريب من عائلة الإمام الصدر (زوج شقيقة الإمام الصدر، السيدة رباب) الذي عاد بنا إلى أيام ذاك الإمام القادم من الزمن الآخر...
عندما أفلت شمس سماحة المرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين"قده" غروب عام 1957 (30/12/1957) كان لا بد لبدرٍ جديدٍ أن يولد ولفجرٍ جديدٍ أن ينبلج، فالثلمة التي يتركها العالمِ بفراغه لا يسدها شيء، اللهم إلا عالمٌ آخر يكمل الدرب ويتابع المشوار...
بعد وفاة السيد شرف الدين، تعاقب أكثر من إمام على مسجد صور، ولكن ما كان الانسجام ليحصل بين المؤمنين وعالم الدين الوافد، فالمؤمنون في صور اعتادوا نمط التعاطي مع السيد الراحل على مدى نصف قرن من الزمان، اعتادوا اسلوب الخطاب وطريق الوعظ وطريقة التوجيه، اعتادوا إمامته لجماعتهم وإشرافه على مناسباتهم الدينية، باختصار اعتاد المؤمنون طريقته في إدارة حياتهم الدينية.. وألفوه وألفوها.
وكان الإمام الصدر قد قدم إلى لبنان ـ أرض أجداده ـ أول مرة عام 1955، فتعرف إلى أقاربه وأنسبائه في صور وشحور ، وحل ضيفاً في دار السيد شرف الدين الذي تعرف إلى شخصية الإمام الصدر وخصائصه ومواهبه ومزاياه، وأبدى إعجابه به في مجالسه بما أوحى برضاه عنه وقناعته بجدارته في أن يخلفه في مركزه بعد وفاته ليكمل مسيرته..
بعيد ذلك، كتب السيد عبدالله شرف الدين إلى السيد موسى (وهو زوج ابنة خالة السيد موسى، وعديل أخيه السيد رضا) يدعوه لقضاء عطلة الصيف في لبنان، وهو الذي كان قد زار لبنان لسنتين خلتا. صحيحٌ أن الكتاب كان مجرد دعوة لقضاء عطلة في لبنان ولم يحمل دعوة رسمية للعيش فيه. إلاّ أن الهدف الحقيقي من دعوة السيد الصدر كان إقناعه بالقدوم إليه والبقاء فيه..
لم تكن هذه رغبة المرجع الديني السيد عبد الحسين وبعده أبناء السيد (الذين كانوا يقيمون في النجف) فحسب، بل إن جمعاً من أهل وأنسباء وأصدقاء (بينهم علماء دين) الإمام أيضاً كانوا يصرون عليه أيضاً للعيش في لبنان ويشجعونه وينصحونه..
وفعلاً، في عام 1959 حضر الإمام الصدر إلى لبنان، ونزل في دار السيد عبد الحسين شرف الدين (التي كان يسكنها نجل العلامة السيد جعفر) في صور، ليقضى فيها شهراً استطلع خلاله أجواء الناس واطلع على واقعهم وأحوالهم وعايش همومهم وشجونهم، التقاهم في مناسبات العزاء وغيرها من اللقاءات والأوقات، كذلك كان مضيف الإمام السيد جعفر يدعو إلى منزله بعضاً من المعارف والأصدقاء والوجهاء، والتجار والسياسين والحزبيين، وغيرهم من فعاليات المجتمع ونخبه للتعرف الى الإمام والحديث والنقاش.. وفي نهاية ذلك الشهر عاد الإمام إلى إيران طالباً مهلةً للتدبر والتفكير واتخاذ القرار، ولاستمزاج رأي العائلة، مدركاً أهمية وتاريخية هذا القرار المفصلي الخطير ..
عشية عام 1959 كان رأي الإمام الصدر قد استقر على البقاء في لبنان لأداء المهمة التي رأها تكليفاً شرعياً واعتبرها واجباً مقدساً، فأتى لبنان وحل مجدداً ضيفاً كريماً في منزل السيد عبد الحسين شرف الدين"قده" في غرفة خصصت له في انتظار تجهيز المنزل المناسب له ولعائلته..
المؤمنون الذين افتقدوا السيد عبد الحسين شرف الدين ونهجه، وما ألفوا من خلفوه من أئمة وعلماء (رغم قصر تلك الفترة)، وجدوا في الإمام الصدر ضالتهم، ورأوا فيه خشبة خلاصهم ومقصد بوصلتهم ومرسى سفينتهم، واستمراراً لنفس النهج وإكمالاً لذات المسيرة، وهو الأمر الذي حرص الإمام على تأكيده من خلال مواقفه وسلوكاته وأفعاله، لقد آنسوا منه هدياً ورشداً، ومنحوه حباً وطوعاً وولاءً، فمنحهم وداً واهتماماً وعزاً وعلواً.
حرص الإمام الصدر في بداية مشواره على إكمال طريق المرجع شرف الدين، وقد أبدى رغبة كبيرة في تظهير هذا الموقف وتأكيد هذا المعنى، فما كان الإمام يأتي بفعلٍ إلا ويؤكد هذا المعنى وهذا الموقف.. لقد أبقى الإمام الصدر عائلته وأخواته – بعد حضورهم إلى لبنان – في دار السيد شرف الدين، رغم أن المنزل الذي خصص له كان قد أنجز واكتمل تجهيزه.. وكأنه كان يريد القول بأن هنا تكون البداية، ومن هذا الدار نكمل المشوار ..
في جامع صور ألقى السيد الصدر خطبه ووجه نصحه والتوجيهات، وفي نادي الإمام الصادق أقام احتفالاته وأحيا المناسبات، وفي المدرسة الجعفرية قدم محاضراته وأعطى الدورس، وفي الجمعية الخيرية (جمعية البر والإحسان) واصل العمل وأكمله..
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل الى ما هو أبعد من ذلك، فالمؤسسات التي أقامها الإمام الصدر بجهد خاص (بيت الفتاة، المؤسسة الاجتماعية، المدرسة المهنية، مدرسة التمريض...) أكد أنها من بركات وإلهامات السيد شرف الدين، مشيراً الى أن السيد شرف الدين كان صاحب أفكار أعماله، ولكن الظروف حالت دون تنفيذها، ولا فضل له في كل تلك الانجازات، لأنه يتابع مسيرة ويكمل أعمالها.
لقد ركز الإمام الصدر على بناء الإنسان الرسالي المؤمن، على بناء البشر، قبل إعمار الحجر، فبالإنسان وحده تكون عمارة الأرض وخيرها وصلاحها، والله رب العالمين حين استخلف البشر في أرضه لعمارة الكون وإنمائه واستغلال كنوزه وثرواته أمره بحسن التدبير والتقدير، ووعده بالسؤال والحساب يوم المعاد ليكون له العقاب أو حسن المآب، والمؤمن الحق هو من يقوم بصرف ثروات الأرض وإنفاق المال في موارده الصحيحة، دون إسراف أو تقتير، وهذا كان دأب الإمام وديدنه، فهو كان قد حرص على إحياء العبادات والمناسبات بطريقة تذهب إلى ما هو أبعد من ظاهرها والتفاصيل، كما ولم يكن الإمام ليقبل بصرف ما هو خارج إطار الحاجة الفعلية والمصلحة الحقيقية أو أكثر منها، بل على العكس من ذلك كان يؤكد على عدم القيام به والنهي عن إتيانه، ليوجه الجهود والإمكانات إلى مسارات بديلة حيث الحاجة والمصلحة الأكيدة. لقد أرسى الإمام مبدأ أن لا خير في أمر لا حاجة إليه، ولا مصلحة في الزيادة عليه.
فعلى سبيل المثال، كان قد عُرف عن الإمام شدة حرصه على أداء الصلاة وإقامتها في وقتها، دون أن يشغله ما يحيط بها من ثانويات أو تفاصيل، فهو أدرك أن الصلاة صلة للمؤمن بربه يقيمها أينما شاء والمهم فيها التقرب لله وإخلاص النية، لذا لم ينشغل بتشييد المساجد الفخمة أو الحسينيات الضخمة، بل كان صاحب اجتهاد خاص في بناء المساجد والحسينيات والمنشآت الدينية، فلو علم نية أحد في بناء مسجد أو حسينية قصد بلدته للسؤال والاستطلاع، فإن كان المسجد أو الحسينية ما زال يفي بحاجة البلدة وأهلها، أقنعهم بصرف عزمهم عما كانوا قد نووه، مؤكداً بأن لله طرقاً عديدة يصل المؤمنون وأصحاب الأيدي البيض من خلالها إليه، لا تقتصر على بناء مسجد أو إقامة حسينية.
في إحدى زيارته إلى المغرب حيث كان يتم تشييد مسجد كبير هناك، حان وقت صلاة الجمعة التي يحرص الإمام على إقامتها ـ ككل صلاة ـ في وقت فضيلتها ورغم أن لا وجود لمسجد قريب في ذاك المكان، لم يكثرت الإمام بذلك، بل قال نصلي على التراب أو الحجار، لا همَّ، المهم أن نؤدي الصلاة، وبالفعل أقام الصلاة وأمّ المصلين بعد أن خطب فيهم ناصحاً وموجهاً. وبعيد تلك الصلاة سأل أحد اللبنانين (من صور) الإمام رأيه في بناء مسجد مماثل للمسجد الذي يتم تشييده في المغرب، يحاكيه في الفخامة والعظمة والبهاء، مبدياً استعداده وإخوانه المهاجرين بتأمين التمويل اللازم، فرد الإمام بأن لا حاجة لذلك... ولتمتلئ قاعات المسجدين الصغيرين الموجودين حالياً (حينها) في صور بالمصلين والمؤمنين، وبعدها نبحث بإمكانية إقامة مسجد ثالث ورابع؛ فما دامت مساجد صور فارغة إلا من ثلة قليلة مؤمنة تقصدها لصلاة صبح أو ظهر، فلا حاجة لذلك.. الحاجة الأولى والأكيدة هي في السعي لملء المساجد والساحات بجموع المؤمنين والملتزمين، وبعدها يتم التفكير ببناء مسجد آخر أكبر وأضخم، والله هو من يؤمن تمويل المشاريع.. وما كان لله ينمو.
لقد اهتم الإمام بالشأن العام وانشغل بتلبية مطالب المجتمع وأفراده وما يسد ثغراته ويلبي حاجاته، فبدأ بإعداد دراسة اجتماعية اقتصادية لمجتمع صور، بالاعتماد على الطاقات والقدرات المحلية، ولتكون صور نقطة الانطلاق إلى بقية المناطق للسير بعملية التغيير الاجتماعي والاقتصادي الأوسع والشامل لباقي المناطق اللبنانية، فأنشأ مؤسسات عامة تعنى بالشؤون التربوية، المهنية، الصحية، الاجتماعية والدينية... لقد أعاد تنظيم "جمعية البر والاحسان" وأنشأ مدرسة داخلية خاصة للبنات باسم "بيت الفتاة"، ثم مؤسسة اجتماعية، ثم مدرسة فنية عالية باسم "مدرسة جبل عامل المهنية"، ثم مدرسة فنية عالية للتمريض.. وكذلك أنشأ "معهد الدراسات الاسلامية"..
بعد أن تولى الإمام الصدر نظارة الجمعية عمل على إعادة تنظيم هيكلها الإداري وتعديل نظامها الداخلي، مضفياً عليها طابع العمل الاجتماعي المؤسساتي، فأدخل المرأة إلى ميدانها، مستغرباً إقصاء النساء عن أعمال البر والخير، وإبعادها عما يحقق طاعة الله وقربته ورضاه، وهي نصف المجتمع وإحدى ركيزتيه الأساسيتين..
وقبيل إقرار تعديلات القانون الخاص بالجمعية ألّف السيد الصدر هيئة إدارية تضم بين أعضائها ـ إلى جانب سادة مثقفين مؤمنين أخيار ـ مجموعة من السيدات المؤمنات والمعروفات في الوسط الاجتماعي وبين الناس والنساء خصوصاً، وكانت أعمارهن تتراوح بين سن الـ 35 و40. لم تكن تلك السيدات على درجات عالية من التحصيل العلمي، بل إن بعضهن كن أميات يجهلن القراءة والكتابة، ولكنهن تعلمن دروساً من مدرسة الحياة فأتقنّ وأجدن فنون التعامل معها، وكانت السيدة رباب الصدر (شقيقة الإمام) عضواً في مجلس الإدارة وأصغرهن سناً، وكان الإمام قد ترك للسيدات مسؤولية تأسيس مقر للجمعية ووضع المشاريع النسوية، فقررن إقامة مدرسة لمحو الأمية العلمية وتعليم الخياطة وإدارة الشؤون المنزلية، وقد عهد الإمام بهذه المهمة إلى السيدة رباب الصدر، ولا سيما أنها شابة مخلصة ونشيطة وتجيد الحياكة والتطريز...
لم تكن مديرة بيت الفتاة مجازة جامعية أو سيدة متعلمة! بل كانت أمية تجهل الكتابة والقراءة، لكنها بإيمانها وإخلاصها وحماستها ونشاطها (والعاملات معها) تمكنت من تغيير واقع كثيرات ممن استفدن من خدمات هذا البيت، ومن أولئك اللاتي استفدن ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ ثلاث اخوات ولدن في المهجر وتأخرن عن الالتحاق بالصفوف المدرسية النظامية، حيث بلغن أعمار 8 و 9 و10 سنوات دون أن يتعلمن حروف الأبجدية الأولى، ولكن كان لديهن العزم والحماسة والإصرار، ووجدن لدى "البيت" الاحتضان والدعم والاخلاص، فكان أن بدأن في صف محو الأمية ثم أنهين بنجاح صفوف المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية!! من دون أن أن يتوقف مشوارهن عند هذا الحد، بل وصل إلى ما هو أبعد، فتخصصت الأولى في دراسة هندسة التوربينات، والثانية في الهندسة المعمارية، فيما الثالثة تخصصت في علم الاجتماع وتزوجت من أستاذ جامعي!! ...كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.
في فترة ستينيات القرن الماضي لم يكن أحدٌ ليولي الشأن الرعائي للأيتام وذوي الحالات الاجتماعية الصعبة في الجنوب اللبناني خصوصية أو يعيره أهمية، باعتبار أن هذه المؤسسات تحتاج إلى مصادر للتمويل الدائم عبر الهبات والتبرعات وما شاكل، ولكن كان للإمام رأي آخر ونهج مختلف وتوفيق خاص... لقد شغله هاجس الاهتمام بالأطفال اليتامى والمساكين والمحتاجين وتوفير كل ما يتمنون رغم معرفته بصعوبة ما يطلب ويأمل وكلفته العالية والباهظة... لكنه كان يؤمن بأن ما يكون لله وفي سبيل الله يحظى بتوفيق إلهي خاص، ورعاية خاصة من الله وعينه التي لا تسهو ولا تنام..
وكان أن قد حصل نزاع بين مواطِنَيْنِ (الأول من صيدا والثاني من البرج الشمالي) على قطعة أرض في بلدة برج الشمالي، وكان أعضاء جمعية البر والإحسان يصلحون ذات البين، يرأبون الصدع ويقربون وجهات النظر، فكان أن اشتكى أحدهما للإمام بخصوص دعواه، فأبدى الإمام اهتمامه بشراء الأرض لمصلحة أحد أعضاء الجمعية المغتربين، وحين عرض الإمام على هذا الأخير فكرة الشراء، وافق المغترب، بل ووهب قطعة منها للإمام ليبني عليها المؤسسة الرعائية ـ الحلم.
ولتشييد المباني والإنشاءات واستقدام التجهيزات بدأ الإمام اتصالاته بالمتمولين من المغتربين، وقام لهذه الغاية بجولة شملت 8 دول إفريقية، وكانت خلاصة هذه الجولة الافريقية جمع تبرعات أقام بها الإمام مباني المؤسسة وإنشاءاتها، وبقي تجهيز المؤسسة (مفروشات مكتبية وأجهزة معلوماتية وإلكترونية، تجهيز معمل حدادة، نجارة، وكهرباء سيارات..) والتي تفوق قيمتها قدرة فاعلي الخير والمتبرعين.
في فترة انعقاد أحد المؤتمرات حول الاستشراق والاسلام في فرنسا، كان السيد الصدر قد طلب موعداً للقاء رئيس الجمهورية الفرنسية شارل ديغول. في هذا اللقاء طلب السيد من ديغول مساعدة فرنسية بتجهيز المؤسسة الرعائية بالمعدات اللازمة، فقبل الرئيس وتمنى على السيد الصدر بأن يتم التدريس باللغة الفرنسية على أن توفد فرنسا الأساتذة إلى المؤسسة، فقبل الإمام شاكراً ديغول على المساعدة، وبالفعل كان للإمام ما أراد، وأتى الخبراء الفنيون الفرنسيون وعملوا على تجهيز المؤسسة ومرافقها بالمعدات المطلوبة، ودربوا الخبراء اللبنانيين على طرق عملها واستعمالها.
سافر الإمام الصدر إلى عدة بلدان عربية وإسلامية وإفريقية وأوروبية، مشاركاً في المؤتمرات، ومحاضراً في الورش والندوات، ومتفقداً أحوال الجاليات اللبنانية والإسلامية، دارساً مظاهر الحياة الاوروبية وواقع القارة الإفريقية، ومتصلاً بالفعاليات والجهات الرسمية والفئات الشعبية، كل هذا دفعه إلى إنشاء "معهد الدراسات الإسلامية" في صور بعدما استقرأ أوضاع الجاليات الشيعية ولمس حاجتهم الفعلية إلى من يرشدهم ويهديهم سواء السبيل.
أنشأ الإمام معهد الدراسات الإسلامية وبجانبه مساكن للطلبة ومرافق رياضية ترفيهة تضم نادياً رياضياً ومسبحاً. إذ كان يدرس في المعهد طلبة من لبنان وخارجه يترقون في مراحل الدراسة الحوزوية الدينية، وكان الهم الأساسي للإمام إعداد هؤلاء العلماء للقيام بدورهم التوجيهي والإرشادي والتبليغي.
لقد أولى الإمام أهل القارة الإفريقية اهتماماً خاصاً، إذ إنه كان يرى أن جموع المتدينين (من المسيحيين والمسلمين) في غالبية الدول الإفريقية لا تتجاوز ما هي نسبته 5 % ـ في أحسن الأحوال ـ من إجمالي تلك الشعوب، فيما الباقون ملحدون وثنيون لا يعبدون الله ولا يعرفونه!، وهذا ما دفعه إلى إيفاد علماء دين إلى إفريقيا واستقبال طلاب علوم دينية من إفريقيا في معهد الدراسات ـ بشكل خاص ـ للقيام بدور الهداية والتبليغ.
إلى جانب تشجيعه عمل المرأة ودخولها ميدان العمل الخيري والتطوعي الاجتماعي لتصبح عنصراً فاعلاً ومنتجاً في المجتمع معيلة لنفسها لا عالة عليه، وإلى جانب رعايته واهتمامه باليتامى والمساكين وحرصه على تعليمهم حرفة ومهنة محاربةً للبطالة وتحقيقاً للاكتفاء الذاتي، حارب الإمام ظاهرة التسول وحاول القضاء عليها، لأنه كان يرى المتسولين عالة على المجتمع وعبئاً عليه واختلالاً في بنيانه، ولا سيما أن أعدادهم كانت تزداد كل يوم خميس طلباً "للكسب والرزق"، وقد كان أكثر ما يضايق الإمام ويسيئه مشهد المتسولين بعيد كل صلاة جمعة يسألون المصلين صدقة، وما تكاثرهم وتهافتهم بشكل لافت على باب المسجد إلا دليل واضح على اتخاذهم هذه الشعيرة مورداً للكسب ومصدراً للرزق. عندها أفتى الإمام بحرمة التصدق للمتسولين، لأن التسول يستبطن هتك كرامة الإنسان المؤمن الذي أراده الله أن يكون عزيزاً قوياً مقتدراً. بعد ذلك أصدر الإمام قراراً إلى جمعية البر والإحسان يقضي بمنع وجود المتسولين في الأسواق وأمام أبواب المساجد، ففي الوقت الذي يؤم فيه الإمام المصلين ويقوم بينهم خطيباً ينشغل المتسولون خارجاً بالتسول وطلب الحاجة، فلا يكترثون بأداء الصلاة ولا لسماع الخطبة، مستغرباً كيف يريق المتسول ماء وجهه في الوقت الذي يكون قادراً فيه على العمل والانتاج بكرامة وبدون منة من أحد، دون أن يستوجب منهم جزاءاً ولا شكوراً.
لقد شجب الإمام التسول وعارضه ونهى عنه، ونهى عن التصدق للمتسولين في مدينة صور وضواحيها، ولكنه لم يترك الأمور دون علاج، بل وضع الحلول والبدائل، لقد عمل الإمام على إعداد مشروع دعم شامل يتضمن إنشاء صندوق الصدقة وبرامج مساعدات صحية واجتماعية، فقام عبر جمعية البر والإحسان بتوزيع صناديق الصدقة على المحال والأسواق، وأطلق مشروع اشتراك شهري (ليرة واحدة) ووضع مندوباً للجباية وجمع الأموال من الصناديق. كما طلب من أصحاب محال بيع المواد الغذائية تقديم ما يشاؤون من مساعدات غذائية عينية إلى جمعية البر والإحسان التي تقوم بدورها بتوزيعها نهاية كل شهر على المساكين والمحتاجين والعائلات المستورة. بعد إعداد إحصاء شامل لهم لا يقتصر على متسولي الشوارع والأزقة، بل يشمل الفئة الأهم من أصحاب الحاجة وهم من عفت أنفسهم عن مد اليد والسؤال، ولأن الله كرمهم بعفافهم وتعففهم، رأى ضرورة تكريمهم بحفظهم ومدهم بالمساعدة اللازمة دون منة من أحد. وبالفعل أعدت ما كانت تسمى بـ"عائلة الجمعية" دراسة للعائلات المحتاجة حيث وصل عددها إلى ما يزيد عن 210 عوائل، كان يصلهم نهاية كل شهر راتب شهري وحصة مؤونة غذائية.
ولم تقف المساعدات عند هذا الحد، بل شملت الجانب الصحي أيضاً إذ تم الاتفاق مع عدد من الأطباء على عدم تقاضي أي بدل مالي من كل "عائلة الجمعية"، وتم الاتفاق مع الصيدليات على حسم مبالغ معينة من قيمة فاتورة مشتريات الدواء.
بعد انجاز كل هذه الترتيبات أعلن الإمام منع الصدقة لأي فرد خارج إطار الجمعية، وطلب من كل من يريد تقديم الصدقة والتبرعات بأن يدفعها إلى الجمعية التي تعمل بدورها على إيصالها ـ باسم المتبرع ـ إلى الشخص المقصود... كأن الإمام بكل هذا أراد أن يرسي دعائم العمل المؤسساتي والجماعي بعيداً عن الفردية والشخصانية والمبادرات الذاتية.
لقد نال مشروع الإمام استحسان الناس ورضاهم، فلقي تأييداً واستجابة، وامتد إلى خارج حدود الطائفة الشيعية وأحيائها، وهذا ما دفع جماعات أخرى للاستفادة من أسلوب العلاج لآفة التسول وآثارها، فحاولت استنساخ المشروع ومحاكاته .
لقد كان الإمام يعتقد بأنه "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات مسروراً وجاره حزين، من بات صحيحاً وجاره مريض، من بات تحت سقف وجاره بلا سقف..".
لم يكن موسى الصدر سيداً شيعياً حصر نوره في بقعة ضوء في منطقة محدودة جغرافية، بل كان شمساً سطع نورها ليشمل بسناه أرجاء واسعة من المعمورة، فهو لم يَقصر خطابه على أبناء طائفته، بل توجه بقلبه وخطابه إلى شركاء الوطن، والإنسان عموماً.
لقد استطاع بخطابه ونهجه وممارساته تعزيز حضور الدين في تفاصيل المعيش اليومي، دين يختلف عما كان يراه البعض، فأخرج الدين من القالب المتجمد الذي حاول البعض حشره فيه، معتقدين أنه من صفات الدين وسماته. لقد كان الإمام داعياً للدين بغير لسانه وزيناً له لا شيناً عليه، قائداً يقتدى ونموذجاً يحتذى، لقد شكل بحضوره وسلوكه ظاهرة مختلفة، خلق جواً معرفياً ودينياً جديداً، فتأسست حوله جماعة مقتنعة بآرائه مؤمنة بخياراته.
في أحد صفوف المدرسة الجعفرية، كان التلامذة المسيحيون يصرون على حضور درس الإمام الديني، رغم أن إدارة المدرسة كانت تؤكد لهم عدمإلزامية حضورهم، وتمنحهم حق التغيب عنه لأنهم "مختلفون دينياً"، فكانوا يردّون بأن ما يسمعونه من الإمام يستجيب لنداء فطرتهم ويلامس شغاف قلوبهم ويحاكي مطالبهم وأحلامهم وأمانيّهم، وهم الملتزمون مسيحياً، وهذا ما جعلهم يواظبون على حضور الدرس الديني بشغف وشوق..
في أحد أزقة صور، كان "جوزيف أنتيبا" (يوناني الأصل)، يملك محلاً لبيع البوظة على الطريقة العربية القديمة (الدق)، وقد عرف بها واشتهر، وذاع صيته وانتشر، وكان لجوزيف "المسيحي" جار "شيعي" يضاربه في المبيع وينافسه في المهنة، ولكن لم يكن يضاهيه احترافاً ويجاريه جودة إنتاج ولذة مذاق، فلجأ هذا الأخير إلى استدرار العطف الشيعي قاصداً شدّ العصب الديني، فراح يشيع بين الناس حرمة الشراء من "أنتيبا المسيحي" مدعياً نجاسته، داعياً إياهم إلى الشراء من محله حصراً و"قسراً". فما كان من جوزيف إلا أن قصد الإمام عارضاً مشكلته بين يديه، فوعده الإمام خيراً.
بُعيد صلاة الجمعة، طلب الإمام من جماعة من المصلين القيام بجولة معه في أزقة السوق، وما كان من الإمام إلا أن جلس على أحد كراسي محل "أنتيبا"، وطلب إليه توزيع البوظة على الجميع، وعلى حسابه أيضاً وسط دهشة وذهول الحاضرين، وغادر بعد ذلك من دون أن ينطق بكلمة! .
لقد كان هذا التصرف "الصامت" ناطقاً بأكثر من خطاب، حاملاً أكثر من رسالة كان يود السيد إيصالها لمن يعنيهم الأمر، لم تنحصر رسالة الإمام في فتواه بجواز مؤاكلة المسيحي، بل امتدت أبعد من ذلك، فلم يسمح السيد الصدر بايقاظ الفتنة النائمة، بل وأدها في مهدها، ولم يسمح لأصحاب النوايا المغرضة باستغلال الحادثة للصيد في الماء العكر، فقبل أن ينتقل الحدث إلى عظات الأحد ومقالات الجرائد أنهى الإمام سجالاً كان ممكناً أن يحصل بين أبناء الديانتين ويعكر صفو العلاقات الهادئة بين جماعتين.
لقد آمن بأن المسيحيين هم إخوان للمسلمين في الإيمان، وفي الوطن، وفي العروبة، تمسك بأخوّتهم والتزام العلاقات المواطنية الصادقة معهم، واعتبر وجودهم تمايز لبنان وعنوان فرادة.
صاحب السلوك المختلف صورياً ولبنانياً، كان مختلفاً أيضاً في زياراته الخارجية، كان رائداً رياداً في حمل هموم الوطن في الداخل، وأبناء الوطن أينما حلوا، ونموذجاً مشرفاً لعالم الدين العالم والمثقف والمنفتح والمجاهد. كان الإمام في زياراته إلى دول القارة الإفريقية، قد تعرف إلى أوضاع الجاليات اللبنانية الشيعية واطّلع عن كثب على طبيعة حالهم ومعاشهم، ولمس آثار الهجرة والاغتراب التي حفرت عميقاً في حياتهم وطبعت أحوالهم، واكتشف مدى السوء الذي يعيشه بعضهم، فليس كل ما يلمع ذهباً، وليس كل من يهاجر يثرى، فالهجرة ليست دوماً خياراً صائباً وناجحاً، فكان أن أولى عناية خاصة بالواقع الديني للمغتربين والعلاقات الاجتماعية فيما بينهم. لقد أدرك حجم الفارق بين دور المؤسسة الدينية لدى الطائفة المسيحية والطائفة المسلمة ودورها المغيب لدى الطائفة الشيعية!، ففي وقت أنشأ المسيحيون أديرة وكنائس في أماكن وجودهم، ومدّتهم مؤسستهم بالمطارنة والقساوسة، وفي الوقت الذي بقيت مرجعية الأزهر ترعى أبناء الطائفة السنية بتواصلهم مع مشايخ وعلماء دين توفدهم إليهم، لم يكن للشيعة أماكن عبادة خاصة أو علماء دين!.
بعد أن اطّلع الإمام على الأوضاع الإفريقية واطّلع على أوضاع الجاليات فيها وباتت الصورة أكثر وضوحاً..عمل على تفقيه المغتربين بأمور دينهم ودنياهم، فأوضح لهم مسائل العبادات والمعاملات وأحكام الصلاة والصوم والخمس والحقوق الشرعية وحدود الحلال والحرام، وبدأ بنسج شبكة من العلاقات الاجتماعية مع الكنائس والمشايخ وملوك القبائل. لقد حرص الإمام على إقامة أفضل العلاقات بين الأفارقة واللبنانيين المغتربين، ودعاهم إلى تشارك المناسبات الاجتماعية والدينية معاً لرص الصفوف وتوحيدها، وتوثيق الروابط والعرى، فتبادلوا الزيارات وتشاركوا مساجد الصلاة نفسها وأقاموها معاً..
لقد حظي الإمام الصدر باحترام وود كبيرين من سكان القارة السمراء، فالمكان الذي كان يوجد فيه الإمام يصبح مقصد مئات الآلاف، والصلاة التي يؤمها تصبح أشبه بتظاهرة فلا تتسع الأرض للمحبين والأنصار والمؤيدين، والكل يريد التبارك من الإمام والسلام عليه ولمسه والوصول إليه، لدرجة تعجز معها قوى الأمن عن ضبط الحشود وتنظيمها وتهدئة اندفاعتها وشغف شوقها وهيامها...
في ليبيريا، طلب المغاربة من الإمام أن يؤم صلاة عيد الأضحى، ولم يكن يوجد مسجد في تلك المنطقة، سأل الإمام عن مكان واسع فأخبروه، وسأل إن كان مسموحاً الصلاة فيه فأجابوه، وبالفعل أقام الإمام صلاة العيد على شاطىء البحر وصلى الأفارقة والمهاجرون جنباً إلى جنب في العراء تحت السماء.. في أبيدجان حملوا السيارة التي كانت تقل الإمام وعجزت قوات الشرطة عن السيطرة على الجماهير التي اندفعت من كل حدب وصوب لملاقاة الإمام!!.
في كوناكري وداكار تفاعل الأهالي مع مراسم إحياء عاشوراء التي أقامها الإمام بطريقة عاطفية مميزة، كعلاقتهم به التي كانت مميزة، لا فرق عنده بينهم سواء كانوا وزراء وسياسيين، مشايخ وعلماء دين.
كان الإمام ـ طيلة ستة أشهر قضاها في إفريقيا ـ يُمَنِّي النفس بليلة يقضيها دون حشود، أو بوليمة يُدعى إليها لا تمتلىء مائدتها عن آخرها، وكان أن دعاه ـ ذات ليلة ـ رجل من مدينة صور لعشاء عائلي خاص احتفالاً بالانتقال إلى منزله الجديد وطلب حضور الإمام ومباركته، فقبل الإمام الدعوة وطلب أن يكون العشاء عائلياً وألا تحوي مائدته أصناف الاطعام، بل بعضاً من حواضر مطبخ البيت يعيده إلى عشاءات مدينة صور البسيطة..ولماحضر الإمام كانت المائدة قد امتلأت بأصناف الطعام، والكراسي فاضت بما يزيد عن 40 مدعواً أو أكثر.. فغضب الإمام لإخلاف الرجل بوعده،ولكن الرجل أكد له بأنهم أبناء عائلة واحدة أبناء وأحفاد وأقارب وأنسباء حضروا جميعاً للتشرف برؤية الإمام ومطالعة محياه، فابتسم وباركهم جميعاً.
ستة أشهر متواصلة كادت ألا تخلو أيامها ولياليها من دعوات يومية الى فطور أو غداء أو عشاء، كما لم تخلُ من خطبة أو موعظة، أو كلام حسن أو جدال بالتي هي أحسن، كلها برهنت عن حب قلّ نظيره لإمام وهب الإنسانية حباً ووداً، فما خرج من القلب دخل قلوب شتى، ستة أشهر برهنت على استثنائية تلك القامة وذاك الرجل.
لقد شكل حضور الإمام في تلك البلاد علامة فارقة في تاريخها، وترك آثاراً ماثلة في يومياتها وحياة أهلها بقيت إلى حين .