ارشيف من :ترجمات ودراسات

الأسباب "الخفية" للثورات العربية... لا من وجهة نظر فريدمان!

الأسباب "الخفية" للثورات العربية... لا من وجهة نظر فريدمان!
عقيل الشيخ حسين
كأنه يضم صوته إلى صوت من قال بأن "ثورة الأرز" هي  التي افتتحت عصر الثورات التي يشهدها العالم العربي في هذه الأيام. إنه توماس فريدمان المعروف بصهيونيته المتشددة وببراعته في فن التأفيك.
نشر قبل أيام مقالة في "نيويورك تايمز" عرض فيها لما أسماه "قوى غير مرئية" غذت ـ إلى جانب الأسباب المعروفة ـ حركة الاحتجاجات في المنطقة العربية.
وبنظره، تتمثل هذه القوى بخمسة عوامل. أولها باراك أوباما : وصوله إلى منصب الرئاسة في أميركا دفع الشباب العرب إلى التماهي به إنطلاقاً من قواسم مشتركة عديدة : أصله الإفريقي، اسم أبيه، موقعه المتواضع في السلم الاجتماعي.
ثانيها خرائط "غوغل": بفضلها، تمكنت المعارضة البحرينية من اكتشاف وجود أراض شاسعة غير مستغلة في البحرين، بينما تعاني بعض مناطق البحرين من كثافة سكانية خانقة.
ثالثها هو محاسبة "إسرائيل" لمسؤوليها السياسيين. رابعها أولمبياد بكين الذي دفع الشباب العرب إلى التساؤول : لماذا هم وليس نحن ؟
وخامسها أجملها : سلام فياض: حكومته ألهمت الجماهير و"فلسفته" التي أطلق عليها فريدمان اسم "الفياضية" تدعو الناس إلى تقييم حكومته على أدائها من ناحية تقديم الخدمات واستحداث فرص عمل، لا على مستوى معاداتها الغرب ومقاومتها لـ "إسرائيل".
لا مكان في المشهد البائس للثورة الإسلامية  في إيران، ولانتصارات المقاومة فيي لبنان وفلسطين، ولانهيار المشاريع الصهيوـ أميركية على خطوط الممانعة والتصدي. وللمعين الزاخر المتمثل بالوحي الإلهي.   
ومع هذا تتمتع نظرية فريدمان ـ في تفسير الثورات العربية ـ بالكثير من الأهمية بما تقدم نموذجاً من نماذج السعي إلى اختطاف الثورات العربية عبر تمييعها بنسبتها إلى مثل هذه العوامل المذكورة. ولها أهمية أخرى : تفتح باب البحث، طالما أنه تكلم عن غير المرئي، في الأسباب العميقة للثورات العربية.
باب واسع بالطبع، يمكن ولوجه عبر التساؤل عما يسمى بـ "الثورات الثقافية"، ذلك التغير الثوري على مستوى أنماط التفكير وأشكال تصور العالم، والذي يبدأ بإسقاط أنظمة وحضارات لبناء أنظمة وحضارات أكثر قابلية للحياة.
الحق يقال أن عالمنا العربي لم يعرف، في نهضته الأخيرة، أمثال روسو ومونتسكيو وفولتير، أو تولستوي ودوستويفسكي وغوركي، ممن كان لهم أبلغ الأثر في إطلاق الثورة الثقافية التي أفضت إلى الثورتين الفرنسية والبلشفية. أقصى ما عرفه في هذا المجال أفكار في نقد الواقع المتخلف (بلغة ذلك الزمان)، وأفضلها تلك التي انتقدت غياب الدين عن المسرح لصالح فقهاء السلاطين الذين تمرسوا طويلاً في شرعنة ذلك الواقع، وحاولت رغم نزوعها إلى التحرر من الاستعمار، إصلاح أوضاع الديار الإسلامية على صورة الغرب المستعمر.
وكانت النتيجة فشلاً ماحقاً. لا تحديث ولا ديموقراطية ولا إسلام في ظل الأنظمة "الاستقلالية" التي أوصلت العالم العربي إلى ما هو عليه من المهانة والذل على جميع المستويات.
والأكيد أن السبب هو غياب الثورة الثقافية، أو صحوة الوعي الحقيقية. وهنا نحط بسلام على الأرضية "الخفية" لا بالمعنى الذي يتكلم عنه فريدمان.
لا أحد، خارج من يقرأون الطبري واليعقوبي والمسعودي وابن هشام، يمكنه الزعم بأنه ملم بتاريخ الإسلام وثقافته بالمستوى اللازم لإخراج الجماهير الإسلامية العريضة عن حالة "الغفلة" التي تعيشها عن تاريخها.
وإنه لمن الإنصاف المطلوب أن نقر بأن صحوة الوعي الحالية على الإسلام وتاريخه وحضارته، من قبل الجماهير الإسلامية العريضة مدينة بشكل خاص لفيلم "الرسالة" الذي أخرجه مصطفى العقاد، رحمه الله. وإلى جانبه فيلم "أسد الصحراء"، للعقاد أيضاً، والذي يروي قصة حياة عمر المختار وجهاده واستشهاده.
ولأن الله تعالى ينصر دينه بشرار خلقه في ظروف معينة، حدث أن معمر القذافي كان هو من مول إنتاج هذين الفيلمين قبل أن يتقهقر إلى وضعه الحالي.  
وإذا ما شئنا التوغل أكثر في أعماق التاريخ، لا يمكننا إلا أن نلاحظ، إذا كنا من أولئك الذين تدفعهم لحظة ضجر، أو حب اطلاع على عملية بناء الوعي الجماهيري، إلى الإمساك بالريموت كونترول واستعراض المواد التي تقدمها للمشاهدين القنوات الفضائية... لا يمكننا إلا أن نلاحظ بين ما لا يحصى من برامج ومسلسلات مشينة، أن هنالك مواد تبعث على الاطمئنان : المسلسل الإيراني "يوسف الصديق" ما زال يعرض على أكثر من قناة، ما يدلل على شعبيته الواسعة. وعلى تاثيره الأكيد في وعي الجماهير.
العبد الفقير شاهد معظم حلقات هذا المسلسل الذي يستوحي القرآن الكريم ليقدم، في إطار فني رفيع، نموذجاً ضخماً من نماذج الصراع بين قوى الاستكبار والطغيان وبين المستضعفين الذين لا يملكون إلا قوة إيمانهم، والذي ينتهي كما تنتهي جميع الصراعات المشابهة بانتصار الدم على السيف.
ومع كل وصلة من وصلات المسلسل، كان العبد الفقير يستشف من خلال المسلسل الإيراني "يوسف الصديق"، مصر الحاضر، وبقية الأمصار العربية، وهي تستعيد ذاكرتها ووعيها وتخرج من غفلتها لتعيد بناء نفسها على صورة مصر الماضي التي أخرجها يوسف بن يعقوب (ع) من سنواتها العجاف.
وسواء تعلق الأمر بهذا المسلسل أم بفيلمي العقاد، أم بالسيرة الحسينية، فإن تاريخنا بحر تتلاطم فيه أمواج الثورات "المدارس والشخصيات" المدارس التي تتطلب الخروج من "الخفاء"، بعيداً عن مخفيات فريدمان البائسة، في أعمال فنية وغير فنية ضرورية لاستكمال الثورة الثقافية الضرورية بدورها لاستكمال الثورات المطلبية أو السياسية المتفجرة في عالمنا العربي في هذه الأيام.     
2011-03-07