ارشيف من :خاص

نهاية امبراطورية الخوف

نهاية امبراطورية الخوف
عبد الحسين شبيب
تروي الدكتورة بيان نويهض الحوت زوجة القيادي الفلسطيني الراحل شفيق الحوت والاكاديمية اللبنانية الفلسطينية قصة تأليف عملها التوثيقي الضخم عن مجزرة صبرا وشاتيلا، فتتحدث عن الظروف الصعبة التي رافقت مراحل الكتاب الاولى عندما نزلت الى الارض واجرت مقابلات مسجلة بالصوت مع شهود العيان ممن قدر لهم ان ينجوا من السفاحين، ثم طلبت من احدى صديقاتها ان تقوم بتفريغ المقابلات وطباعتها على الدكتيلو، حيث لم يكن الحاسوب عام 1982 قد اصبح في متناول اليد، لكن صديقتها اعتذرت منها بعد قليل من مباشرتها العمل وبدئها الطباعة على آلة الدكتيلو قائلة لها: "ان جارتي في الشقة المجاورة عندما تسمع صوت الدكتيلو ستسألني عما اطبع ولا اريد ان يعرف احدٌ انني اطبع شهادات ناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا، لان ذلك قد يشكل خطراً على حياتي".
تعكس هذه الرواية حجم الخوف الذي انتهى اليه الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 ودخوله بيروت وارتكابه تلك المجزرة المروعة في مخيمين فقيرين يضمان فقراء لبنانيين ولاجئين فلسطينيين جُردوا من سلاحهم وُتركوا عزلاً، الى درجة ان صوت آلة الدكتيلو قد يشكل خطراً على صاحبتها. هذه الرواية ضرورية لمعرفة اهمية ما فعله عدد من الشبان اللبنانيين عندما شرعوا في تنفيذ عمليات ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي ادت الى انسحابها من بيروت سريعاً. لكن الحدث الاهم الذي كان ضروريا لكسر شوكة الخوف هو قيام شاب لبناني من قرية في اقصى الجنوب اسمه احمد قصير في العشرينيات من عمره بتفجير نفسه بمقر الحاكم العسكري الاسرائيلي في مدينة صور والحاقه اكبر عدد من الخسائر البشرية والمعنوية دفعة واحدة في تاريخ الجيش الاسرائيلي.
كانت تلك العملية ضرورية للقضاء على اعشاب الخوف التي بدأت تعشش في نفوس اللبنانيين جراء منسوب ارهاب العدو الاسرائيلي وحليفه الذي تبدّى في مجزرة صبرا وشاتيلا كترجمة نفسية لنتائج الاجتياح والاحتلال حيث قبض العسكر الاسرائيلي على اعناق اللبنانين وسلّم رئاسة الجمهورية اللبنانية الى حليفهم بشير الجميل بعد عملية انتخاب شكلية استخدمت فيها كل اساليب الترويع.
اكمل الشاب العشريني الاخر محمد نجدي كسر منظومة الخوف بعد تصديه وعدد من الشبان والنساء بقيادة علماء الدين في بئر العبد لجيش امين الجميل الموصوف بالانعزالي في حينه، ما ادى الى اسقاط اتفاق السابع عشر من ايار، الذي كانت "اسرائيل" تطمح من خلاله الى أن تحسب لبنان كدولة ثانية التحقت بقطار ما تسميه السلام بعدما سبقتها مصر الى ذلك لتخرج من الصراع العربي ـ الاسرائيلي وتحدث هزة عنيفة في المجتمع العربي.
الخطوة الثالثة كانت قيادة الشيخ راغب حرب لعملية تجييش شعبي واسع ضد الاحتلال تحث على مقاومته بكل الوسائل حتى بالعبوس في وجهه ورفض مصافحته والمجاهرة بالعداء له. حصل ذلك امام مرأى ومسمع الاسرائيليين ولم تنفع كل اساليبهم من المطاردة والاعتقال الى الاغتيال في ثني الشيخ راغب حرب عن موقفه، فولّدت شهادته منظومة رفض اقوى واشد بعدما اتكأت على التضحية التي بدأها احمد قصير ومحمد نجدي ورفاقهما من بقية فصائل المقاومة.
عملية كسر الخوف هذه اسقطت نظام امين الجميل وطردته من جزء مهم من الاراضي اللبنانية تماما كما فعلت مع "اسرائيل" التي تدرّج انسحابها الى ان دُحرت عام الفين ظناً منها انه خاتمة المذلة.
حدث هذا الانجاز لان احدا لم يعد يخاف لا من الانزال الاطلسي بقيادة اميركية في بيروت ولا من المدمرة نيوجرسي، وقد كان صوت صواريخها كافيا لارعاب من لديه استعداد لكي يرتعب. اما من خرج بنفسه ليواجه فذلك المصطلح (الخوف) لم يكن ليعني له شيئاً.
بهذا القدر من الجسارة والارادة انهت المقاومة في لبنان اسطورة الجيش الاسرائيلي التي تمركزت في ادمغة الشعوب العربية بأنه لا يقهر. قُهر بطريقة مذلة بتوصيف الاسرائيليين انفسهم.
لا يوجد افضل من عماد مغنية، صانع الانتصارات، نموذجاً لكي يقدّم صورة ناصعة عن تهزيء مجتمع المقاومة لاسطورة الخوف هذه. لم يجرؤ الاسرائيليون حتى الان على الاعتراف بأنهم هم من اغتالوه بالتواطؤ مع اجهزة استخبارية متعددة الجنسيات. هم يخشونه بعد مماته كما يخشونه في حياته. الاحجام عن الاعتراف احد اسبابه عدم القدرة على تلقي رد الفعل المرتقب. لكن هناك سببا آخر لذلك. كل العالم كان يسمع اسم عماد مغنية وانه ملاحق من حشد من الاجهزة الاستخبارية الدولية والاقليمية والمحلية، لكن الرجل عندما اغتيل كان وحيداً. وحده في الشارع عندما صعد في سيارته بدون اي مرافقة، وهو مصنف بانه المطلوب رقم واحد لاسرائيل وللاستخبارات الاميركية. الى هذا الحد كان عماد مغنية شجاعا ومطمئنا ومستهزئا بذلك المصطلح الذي حكم دولاً بأكملها عقوداً من الزمن، وبكل هذه الاجهزة الامنية التي لن تستطيع في نهاية المطاف ان تفعل معه اكثر مما فعلت.
ما الذي فعله محمد البوعزيزي في تونس؟ انها عملية تمرّد على ذلك الاحساس الذي كان يقبض على انفاس شعب بأكمله بما كان يمكّن حاكماً مثل زين العابدين بن علي ان يمارس فيهم اقسى واقصى انواع القهر والاضطهاد. عندما احرق البوعزيزي نفسه كان يبلغ النهاية المحتمة لكل مخلوق على وجه الارض. عندما يصاحب الانسان الموت ويلاقيه ولا يهاب منه فمعنى ذلك انه يرمي وراء ظهره الخوف مما يمكن أن يخاف منه: نهاية الحياة. هكذا خرج التونسيون الى الشارع بعدما لم يعد امامهم الا خياران: الموت او الحياة مع الظالمين. بضعة ايام فقط كانت كافية لاسقاط حكم مستبد وفاسد. لكن السقوط لم يكن محلياً، بقدر ما كان سقوطاً لذلك البعبع الذي يدغدغ مخيلة الناس في منطقتنا عن انظمة قوية بالبطش وبالرعاية الاميركية الجاهزة للانقضاض على اي ثورة شعبية. انطلقت الثورة وباغتت بن علي وأطاحت عرشه وعرش الخوف من البعبع الاميركي. الكلمات نفسها تكفي لاسقاطها على الحالة المصرية التي دقت مسماراً آخر في نعش هذه الامبراطورية. انتهى كل شيء بسرعة قياسية لا تقاس بالمدى الزمني من استبداد عمره ثلاثون عاما حكم به حسني مبارك وفريقه شعب مصر.
كان اسحاق رابين يقول في معرض تعليقه على العمليات الاستشهادية والجدل الاسرائيلي في كيفية مواجهتها بالقول: اذا كان واحدهم يأتي ليفجر نفسه فماذا نستطيع ان نفعل معه في حين ان قتله هو اقصى ما يمكن ان نفعله. انتهت اللعبة التي تبين انها مجرد عملية أسطرة وتلاعب بالعقول تحتاج فقط الى جرعة شجاعة حتى ينقضي الامر.
ماذا يجري في ليبيا اليوم؟ انها على الارجح عملية اعادة صناعة الخوف بشكل جديد وبرعاية اميركية واسرائيلية واوروبية وانظمة حليفة لا ترغب بأن يأتي دورها. المطلوب اميركيا وقف تهاوي احجار الدومينو والكف عن تقليد ثورتي تونس ومصر؟ المطلوب العودة الى مربع الخوف، وهذه المرة ينتج على شاكلة حرب اهلية يتم تغذيتها بطرق مختلفة، حتى يقال لمن يهمه الامر ولمن يفكر بالثورة إن اي تجربة جديدة يمكن ان تقود الى حرب اهلية دامية فيها من العنف ما يكفي لكي ينثني من يفكر عن عزيمته. هل ليبيا آخر المطاف؟ وهل تنجح مقولة الحرب الاهلية في التسلل الى عقول من يريد الاميركيون وحلفاؤهم ان تتسلل اليهم حتى لا يثوروا ويهددوا ما تبقى من مصالحها؟ سيحاول الاميركيون وحلفاؤهم كل شيء، لذلك هم يفضلون اليوم تسليح الثوار بذريعة دعمهم ويعرقلون مشرع قرار فرض حظر جوي دولي فوق ليبيا لمنع طائرات القذافي من قصف المتظاهرين، وسيبذل الاميركيون ما بوسعهم حتى تتوقف فكرة الثورة عن النمو وحتى تعود الشعوب الى امبراطورية الخوف فيقبض على انفاسها ويبقيها في جحر الاستبداد والفساد عقودا جديدة.
لكن عندما تكون الكلمة الأخيرة للشعوب ما عسى الإمبراطوريات ولواحقها أن تفعل؟؟
2011-03-10