ارشيف من :خاص
"الإعلام الجديد".. ما بين الثورة والحرب النفسية
علي شهاب
منذ اليوم الأول لبدء الثورة التونسية، لا المصرية، بدأت اجهزة الإستخبارات الأجنبية في مراجعة آليات التقدير المتبعة، بعد أن فشلت في توقع مجريات ما حصل، بحسب ما تذكر صراحة عشرات التقارير والدراسات الغربية.
تستمد الشبكات الاجتماعية، التي تّشكل عصب الثورات التي حصلت حتى الآن، قوتها من ثلاثة عناصر رئيسية تتلخص في كونها تمثّل بحد ذاتها:
ـ سلاحا: تجمع الشبكات الاجتماعية بين عدة مفاهيم عسكرية؛ القيادة، التحكم، الاتصالات، الاستخبارات، الرصد والاستطلاع. وهي جميعها مفاهيم طبّقها الملايين من مستخدمي الانترنت والمتظاهرين في تونس ومصر وليبيا.
ـ تهديدا: باتت الشبكات الاجتماعية تشكل تهديدا حقيقيا، بسبب بنيتها المفتوحة، ما يزيد من تأثيرها وفعاليتها. برزت خطورة هذا المفهوم حين نسّق الثوار تحركاتهم عبر الانترنت بالتوازي مع مواكبة الحملات الإعلامية.
ـ هدفا: تحولت الشبكات الاجتماعية نفسها الى ساحات للصراع بين معارضي ومؤيدي الحكومات.
ولئن كان استخدام الإعلام الجديد، بكافة أدواته التي تُعدّ بالمئات، لا يزال في بداياته في العالم العربي نسبيا، حيث يحظى فايسبوك وتويتر ـ عربيا ـ بين بقية الأدوات بالشهرة الأعلى، فإن مفهوم هذا الإعلام قد تطور منذ أكثر من عقدين من الزمن، بالتزامن مع تبلوّر العولمة كظاهرة شاملة.
وإن كان الخوض في تاريخ الإعلام الجديد وتشكّل كلٌ من ادواته الرئيسية يحتاج الى معالجة مطولة ومعمقة، فإن تسليط الضوء على التجارب الأخيرة يؤشر الى أهمية وخطورة هذا المجال، علمًا أن التجربة الأغنى تبقى حكرا على الولايات المتحدة وبريطانيا. أما في ما يخص المنظمات والحركات المسّلحة فقد برعت فصائل أجنبية عديدة في الاستفادة من ادوات الإعلام الجديد، كما فعلت حركة التحرير اليسارية المكسيكية المعروفة باسم جيش التحرير الوطني "الزاباتيستا" في العام 1994، بإطلاق قيادتها نظرية تستحق الدراسة مفادها أن "اهمية الإعلام الجديد تكمن في كونه يسمح لأي جهة بصناعة حدث بدلا من الحدث نفسه".
نتيجة نشر عباس وغيره من المدونين (بلوغرز) لأفلام فيديو ملتقطة بالهاتف الخليوي، حُكم على ضابطي شرطة بثلاث سنوات سجن في تشرين الثاني/ نوفمبر، 2007 لتعذيبهم سائق سيارة شحن صغيرة في القاهرة.
كذلك، يستخدم الصحفيون وغير الصحفيين عبر العالم خدمة الرسائل القصيرة (SMS)، وكاميرات الفيديو الصغيرة في الهواتف الخليوية لجمع ونشر المعلومات بطرق لم تكن مُمكنة حتى قبل عقد واحد. ولا تتيح هذه التكنولوجيا، التي أصبحت رائجة في كل مكان اليوم، حتى في الدول الفقيرة، تحقيق تدفق أكثر حرية للمعلومات وحسب، بل تشجع أيضاً المواطنين، الذين كانوا يشعرون في السابق بالعجز، على القيام بدور لإحداث تغييرات في مجتمعاتهم.
وإذا ما تخطينا البحث في الدور الحقيقي للإعلام الجديد في التغييرات الحاصلة في العالم العربي، بسبب استمرار هذا التغيير وعدم اتضاح نتيجته النهائية بعد، فإن نماذج عدة دولية قد تكون أكثر وضوحا في تقييم هذه الظاهرة.
على سبيل المثال، في بورما، كان للتكنولوجيا دور فعال في الإعلام بمظاهرات الاحتجاج في آب/ أغسطس ـ أيلول/ سبتمبر 2007 ضد النظام العسكري، حين استُخدمت الهواتف الخليوية للإعلام بالأمكنة التي سيتجمع فيها المتظاهرون وحول سبل تجنّب إلقاء القبض عليهم. أمّا في خارج بورما، فقد عُرضت على الإنترنت صوراً ملتقطة بواسطة الهواتف الخليوية لمظاهرات الاحتجاج التي قادها الرهبان ورد الحكومة العنيف عليها، فخلق ذلك وعياً بما يحدث أدى إلى تعرض نظام الحكم العسكري البورمي إلى المزيد من الضغوطات السياسية. علما أن ذلك ما كان ليحصل من دون جهود المواطنين الذين تحولوا بفضل التقنيات الجديدة الى صحفيين، بعد أن حظرت الحكومة دخول جميع الصحفيين الأجانب إلى البلاد.
مثال أخر، في الصين حيث أرسل "لي داتونغ"، رئيس تحرير ملحق الصحيفة الصينية الواسعة الانتشار "شاينا يوث دايلي"، مذكرّة بالبريد الإلكتروني إلى فعاليات مهمة في العام 2006 يُهاجم فيها سياسة الصحيفة الجديدة المتمثلة بتخفيض أجور المراسلين الذين يكتبون مقالات تُزعج المسؤولين في الحزب الشيوعي.
وما هي إلا دقائق، حتى كانت المذكرة قد عرضت على مواقع الإنترنت في جميع أنحاء البلد، فسارع المسؤولون عن الرقابة إلى إصدار الأوامر بإزالة المذكرة، إلاّ أن الرقابة لم تتمكن من التحرّك بسرعة كافية لوقف انتشار القصة. ورغم أن "لي داتونغ" نفسه طُرد من وظيفته، إلا أن الحكومة اضطُرت إلى إلغاء سياسة تخفيض أجور الصحفيين.
ولا تتفوق على الصين سوى الولايات المتحدة من حيث عدد مستعملي الإنترنت فيها، وتخوض السلطات في بكين معركة خاسرة أثناء محاولتها السيطرة على نوع المعلومات التي يستطيع الشعب الصيني الوصول إليها عبر الإنترنت.
الفليبين هي أيضا من الأمثلة الشهيرة على سقوط نظام حكم بسبب التقنيات الإعلامية الجديدة؛ فقد ساعد استخدام الرسائل الهاتفية قصيرة النص في حشد المواطنين للانطلاق في الاحتجاجات الجماهيرية، التي أدّت في عام 2001 إلى سقوط رئيس الجمهورية آنذاك جوزيف إسترادا. كان استرادا قد تمكن من الإفلات من الإدانة من قبل مجلس الشيوخ الفليبيني، رغم البراهين التي أثبتت أنه يسيطر على حسابات مصرفية تبلغ أرصدتها 71 مليون دولار من الأرباح المُحققة بطرق غير مشروعة، الى أن تجمّع مئات الألوف من المواطنين للاحتجاج على قرار مجلس الشيوخ بعد أن تلقوا رسائل هاتفية نصية قصيرة استحثتهم، تقول: "اذهبوا إلى جادة إدسا" (G0 2 EDSA)، و"ارتدوا الملابس السوداء حداداً على الديمقراطية"، و"توقعوا حدوث اضطرابات". وعندما قررت المحكمة العليا أن "الشعب قال كلمته"، وافق إسترادا أخيراً على التنحي عن منصب الرئاسة.
هناك أمثلة أخرى كثيرة على "الديمقراطية الجوالة". فقد استخدمت النساء في الكويت رسائل نصية عبر الهاتف الخلوي لتنظيم اجتماعات حاشدة ناجحة طالبت بحق التصويت والترشّح للانتخابات.
وحثّ شباب من كوريا الجنوبية، ممن يدركون قوة التكنولوجيا، 800 ألف مقترع في حملة آخر لحظة من الرسائل القصيرة (SMS) على الإدلاء بأصواتهم، فأدى ذلك إلى فوز مرشحهم في الانتخابات المحلية.
تُظهر كافة هذه الأمثلة قدرة التكنولوجيا الجديدة على دفع الناس إلى النزول إلى الشوارع. ومن اللافت أنه في الدول النامية، غالبا ما يتركز الاعتماد على الرسائل الهاتفية القصيرة كوسيلة ناجعة في حشد الجهود، ربما بسبب عدد توفر خدمة وثقافة الانترنت بشكل كبير نسبيا في هذه الدول.
كما تجدر الإشارة الى أن استخدام هذه التقنيات لا يقتصر على "اسقاط الانظمة"، ففي تيمور الشرقية مثلا، استعملت مجموعات من اللصوص خدمة الرسائل النصّية لتنظيم عمليات شغب.
الاستخدام الخاطئ لهذه التقنيات يفتح الباب امام اشكالية التأكد من مصداقية المُرسل او مستخدم هذه التقنيات. في حالة ارسال فيديو مثلا، كيف يمكن التأكد من أنه لم يتم التلاعب بالصور رقمياً، وهل نستطيع الوثوق بمعلومات مصدرها أناس يناصرون قضاياهم؛ لا صحفيون مدربون وغير منحازين؟ عشرات النماذج المشابهة حصلت مثلا خلال الأحداث الأخيرة التي واكبت الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وللتدليل على أهمية الفرع الجديد، تطرق الناطق بلسان الجيش إلى دور الانترنت في الأحداث التي شهدتها تونس و مصر وكذلك ما سبق وشهدته الجمهورية الاسلامية الايرانية عقب الانتخابات الرئاسية، فأشار الى أن "لا يمكننا عدم التأثر واخذ الانطباعات حول قدرة التكنولوجيا التي جرى تطويرها في الغرب على التأثير وضرب الدول التي تقع على الطرف الآخر من العالم، مثل إيران، وكيف تستطيع كاميرا مثبته على جهاز هاتف خلوي إلحاق الضرر بنظام أكثر من أي جهاز استخبارات".
لم يكن الإعلان عن توجه الجيش الاسرائيلي لدخول ميدان "الإعلام الجديد" مؤشرا جديدا على تلمّس تل أبيب لأهمية هذا القطاع. بدأت اولى استخدامات هذا "السلاح" عقب حرب تموز 2006، ثم لاحقا إبّان العدوان على غزة، لتتلاحق تباعا تصريحات مسؤولين في المؤسستين الامنية والعسكرية حول استحداث اقسام جديدة متخصصة في "الإعلام الجديد".
قبل إعلان الجيش الأخير، كان لبنيامين نتنياهو أبرز المواقف الاسرائيلية حول ضرورة استخدام السلاح الجديد. تحديدا بُعيد التداعيات التي بدأت بالبروز على الساحة الإيرانية عقب الإنتخابات الرئاسية، حين تحدثّ نتنياهو عن "قوة الانترنت التي ستهزم النظام الإيراني". في حين خرج قائد جهاز الاستخبارات العسكرية آنذاك الجنرال عاموس يدلين بتصريح لافت لصحيفة الجيش قال فيه ان "شبكة الانترنت اصبحت تشكل البعد الرابع في الصراع مع الفلسطينيين والعرب، الى جانب المواجهة على الارض وفي البحر والجو".
مرّت هذه المواقف مرور الكرام، ولم تحظ بكثير من التركيز. على الرغم من أن الدور الدعائي والنفسي لأسلوب "ضخ المعلومات" الذي يشكل الإنترنت قالبا مناسبا له قد صار معروفا وواضحا، فضلا عن محاذيره الأمنية.
تختصر كلمات يدلين يومها، في محاضرة في معهد ألقاها في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، رؤية "اسرائيل" ازاء الإعلام الجديد، إذ يقول ان "اسرائيل تملك الوسائل الكفيلة لشن الهجمات الإلكترونية"، كاشفا عن "عجز الشبكات الالكترونية عن الصمود امام محاولات اقتحامها بوصفه من المخاطر القومية التي تضم ايضا المشروع النووي الايراني والمقاتلين السوريين والاسلاميين على امتداد حدود الدولة اليهودية".
وأشار يدلين الى ان "مجال الحرب الالكترونية يناسب تماما عقيدة الدفاع في دولة اسرائيل"، داعيا الى "المحافظة على الريادة في هذا المجال مهمة على نحو خاص في ضوء تغير الايقاع السريع".
صحيفة "هآرتس" علقّت على محاضرة يدلين بالقول إن الجيش "لا يتحدث عادة علنا عن الحرب الالكترونية، بعد أن تحولت الاستخبارات العسكرية الى ذراع منفصلة شبيهة بسلاح البحر والجو"، مضيفة أن جهازين منفصلين خارج جسم الجيش؛ أحدهما الشاباك، يخوضان حربا على الجبهة الالكترونية.
منذ اليوم الأول لبدء الثورة التونسية، لا المصرية، بدأت اجهزة الإستخبارات الأجنبية في مراجعة آليات التقدير المتبعة، بعد أن فشلت في توقع مجريات ما حصل، بحسب ما تذكر صراحة عشرات التقارير والدراسات الغربية.
تستمد الشبكات الاجتماعية، التي تّشكل عصب الثورات التي حصلت حتى الآن، قوتها من ثلاثة عناصر رئيسية تتلخص في كونها تمثّل بحد ذاتها:
ـ سلاحا: تجمع الشبكات الاجتماعية بين عدة مفاهيم عسكرية؛ القيادة، التحكم، الاتصالات، الاستخبارات، الرصد والاستطلاع. وهي جميعها مفاهيم طبّقها الملايين من مستخدمي الانترنت والمتظاهرين في تونس ومصر وليبيا.
ـ تهديدا: باتت الشبكات الاجتماعية تشكل تهديدا حقيقيا، بسبب بنيتها المفتوحة، ما يزيد من تأثيرها وفعاليتها. برزت خطورة هذا المفهوم حين نسّق الثوار تحركاتهم عبر الانترنت بالتوازي مع مواكبة الحملات الإعلامية.
ـ هدفا: تحولت الشبكات الاجتماعية نفسها الى ساحات للصراع بين معارضي ومؤيدي الحكومات.
ولئن كان استخدام الإعلام الجديد، بكافة أدواته التي تُعدّ بالمئات، لا يزال في بداياته في العالم العربي نسبيا، حيث يحظى فايسبوك وتويتر ـ عربيا ـ بين بقية الأدوات بالشهرة الأعلى، فإن مفهوم هذا الإعلام قد تطور منذ أكثر من عقدين من الزمن، بالتزامن مع تبلوّر العولمة كظاهرة شاملة.
وإن كان الخوض في تاريخ الإعلام الجديد وتشكّل كلٌ من ادواته الرئيسية يحتاج الى معالجة مطولة ومعمقة، فإن تسليط الضوء على التجارب الأخيرة يؤشر الى أهمية وخطورة هذا المجال، علمًا أن التجربة الأغنى تبقى حكرا على الولايات المتحدة وبريطانيا. أما في ما يخص المنظمات والحركات المسّلحة فقد برعت فصائل أجنبية عديدة في الاستفادة من ادوات الإعلام الجديد، كما فعلت حركة التحرير اليسارية المكسيكية المعروفة باسم جيش التحرير الوطني "الزاباتيستا" في العام 1994، بإطلاق قيادتها نظرية تستحق الدراسة مفادها أن "اهمية الإعلام الجديد تكمن في كونه يسمح لأي جهة بصناعة حدث بدلا من الحدث نفسه".
تقنيات بسيطة..ومؤثرة
قد تكون أفلام الفيديو غير واضحة وغير متقنة الصنع، ولكنها تبقى واضحة بما يكفي لإحداث تأثير يؤدي الى الإطاحة بنظام حاكم. في مصر مثلا، أفلام الفيديو التي تصور وحشية رجال الشرطة لم تُعرض مُطلقاً على شاشة أي محطة تلفزيونية محلية. بدلاً من ذلك، عرض المدون وائل عباس على موقعه الإلكتروني "مصر ديجيتال" مقطعا قصيرا لنموذج مماثل.نتيجة نشر عباس وغيره من المدونين (بلوغرز) لأفلام فيديو ملتقطة بالهاتف الخليوي، حُكم على ضابطي شرطة بثلاث سنوات سجن في تشرين الثاني/ نوفمبر، 2007 لتعذيبهم سائق سيارة شحن صغيرة في القاهرة.
كذلك، يستخدم الصحفيون وغير الصحفيين عبر العالم خدمة الرسائل القصيرة (SMS)، وكاميرات الفيديو الصغيرة في الهواتف الخليوية لجمع ونشر المعلومات بطرق لم تكن مُمكنة حتى قبل عقد واحد. ولا تتيح هذه التكنولوجيا، التي أصبحت رائجة في كل مكان اليوم، حتى في الدول الفقيرة، تحقيق تدفق أكثر حرية للمعلومات وحسب، بل تشجع أيضاً المواطنين، الذين كانوا يشعرون في السابق بالعجز، على القيام بدور لإحداث تغييرات في مجتمعاتهم.
وإذا ما تخطينا البحث في الدور الحقيقي للإعلام الجديد في التغييرات الحاصلة في العالم العربي، بسبب استمرار هذا التغيير وعدم اتضاح نتيجته النهائية بعد، فإن نماذج عدة دولية قد تكون أكثر وضوحا في تقييم هذه الظاهرة.
على سبيل المثال، في بورما، كان للتكنولوجيا دور فعال في الإعلام بمظاهرات الاحتجاج في آب/ أغسطس ـ أيلول/ سبتمبر 2007 ضد النظام العسكري، حين استُخدمت الهواتف الخليوية للإعلام بالأمكنة التي سيتجمع فيها المتظاهرون وحول سبل تجنّب إلقاء القبض عليهم. أمّا في خارج بورما، فقد عُرضت على الإنترنت صوراً ملتقطة بواسطة الهواتف الخليوية لمظاهرات الاحتجاج التي قادها الرهبان ورد الحكومة العنيف عليها، فخلق ذلك وعياً بما يحدث أدى إلى تعرض نظام الحكم العسكري البورمي إلى المزيد من الضغوطات السياسية. علما أن ذلك ما كان ليحصل من دون جهود المواطنين الذين تحولوا بفضل التقنيات الجديدة الى صحفيين، بعد أن حظرت الحكومة دخول جميع الصحفيين الأجانب إلى البلاد.
مثال أخر، في الصين حيث أرسل "لي داتونغ"، رئيس تحرير ملحق الصحيفة الصينية الواسعة الانتشار "شاينا يوث دايلي"، مذكرّة بالبريد الإلكتروني إلى فعاليات مهمة في العام 2006 يُهاجم فيها سياسة الصحيفة الجديدة المتمثلة بتخفيض أجور المراسلين الذين يكتبون مقالات تُزعج المسؤولين في الحزب الشيوعي.
وما هي إلا دقائق، حتى كانت المذكرة قد عرضت على مواقع الإنترنت في جميع أنحاء البلد، فسارع المسؤولون عن الرقابة إلى إصدار الأوامر بإزالة المذكرة، إلاّ أن الرقابة لم تتمكن من التحرّك بسرعة كافية لوقف انتشار القصة. ورغم أن "لي داتونغ" نفسه طُرد من وظيفته، إلا أن الحكومة اضطُرت إلى إلغاء سياسة تخفيض أجور الصحفيين.
ولا تتفوق على الصين سوى الولايات المتحدة من حيث عدد مستعملي الإنترنت فيها، وتخوض السلطات في بكين معركة خاسرة أثناء محاولتها السيطرة على نوع المعلومات التي يستطيع الشعب الصيني الوصول إليها عبر الإنترنت.
الفليبين هي أيضا من الأمثلة الشهيرة على سقوط نظام حكم بسبب التقنيات الإعلامية الجديدة؛ فقد ساعد استخدام الرسائل الهاتفية قصيرة النص في حشد المواطنين للانطلاق في الاحتجاجات الجماهيرية، التي أدّت في عام 2001 إلى سقوط رئيس الجمهورية آنذاك جوزيف إسترادا. كان استرادا قد تمكن من الإفلات من الإدانة من قبل مجلس الشيوخ الفليبيني، رغم البراهين التي أثبتت أنه يسيطر على حسابات مصرفية تبلغ أرصدتها 71 مليون دولار من الأرباح المُحققة بطرق غير مشروعة، الى أن تجمّع مئات الألوف من المواطنين للاحتجاج على قرار مجلس الشيوخ بعد أن تلقوا رسائل هاتفية نصية قصيرة استحثتهم، تقول: "اذهبوا إلى جادة إدسا" (G0 2 EDSA)، و"ارتدوا الملابس السوداء حداداً على الديمقراطية"، و"توقعوا حدوث اضطرابات". وعندما قررت المحكمة العليا أن "الشعب قال كلمته"، وافق إسترادا أخيراً على التنحي عن منصب الرئاسة.
هناك أمثلة أخرى كثيرة على "الديمقراطية الجوالة". فقد استخدمت النساء في الكويت رسائل نصية عبر الهاتف الخلوي لتنظيم اجتماعات حاشدة ناجحة طالبت بحق التصويت والترشّح للانتخابات.
وحثّ شباب من كوريا الجنوبية، ممن يدركون قوة التكنولوجيا، 800 ألف مقترع في حملة آخر لحظة من الرسائل القصيرة (SMS) على الإدلاء بأصواتهم، فأدى ذلك إلى فوز مرشحهم في الانتخابات المحلية.
تُظهر كافة هذه الأمثلة قدرة التكنولوجيا الجديدة على دفع الناس إلى النزول إلى الشوارع. ومن اللافت أنه في الدول النامية، غالبا ما يتركز الاعتماد على الرسائل الهاتفية القصيرة كوسيلة ناجعة في حشد الجهود، ربما بسبب عدد توفر خدمة وثقافة الانترنت بشكل كبير نسبيا في هذه الدول.
كما تجدر الإشارة الى أن استخدام هذه التقنيات لا يقتصر على "اسقاط الانظمة"، ففي تيمور الشرقية مثلا، استعملت مجموعات من اللصوص خدمة الرسائل النصّية لتنظيم عمليات شغب.
الاستخدام الخاطئ لهذه التقنيات يفتح الباب امام اشكالية التأكد من مصداقية المُرسل او مستخدم هذه التقنيات. في حالة ارسال فيديو مثلا، كيف يمكن التأكد من أنه لم يتم التلاعب بالصور رقمياً، وهل نستطيع الوثوق بمعلومات مصدرها أناس يناصرون قضاياهم؛ لا صحفيون مدربون وغير منحازين؟ عشرات النماذج المشابهة حصلت مثلا خلال الأحداث الأخيرة التي واكبت الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ذراع اسرائيلية جديدة
في مؤتمر "هرتسيليا" الاسرائيلي الحادي عشر للشؤون الامنية والاستراتيجية، الذي عُقد مؤخرا، أعلن المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي أنه تقرر تخصيص ميزانية تقارب الـ170 مليون دولار (6 ملايين شيكل) لإنشاء فرع يتولى مهام مواكبة "الإعلام الجديد"، على أن تتألف تشكيلة هذه القوة من 120 قرصانا الكترونيا "وُلدوا وعاشوا في أروقة العالم الافتراضي لشبكة الانترنت"، مع طلب عسكري رسمي رُفع لرئاسة الوزراء بتعيين وزير للإعلام الالكتروني في الحكومة.وللتدليل على أهمية الفرع الجديد، تطرق الناطق بلسان الجيش إلى دور الانترنت في الأحداث التي شهدتها تونس و مصر وكذلك ما سبق وشهدته الجمهورية الاسلامية الايرانية عقب الانتخابات الرئاسية، فأشار الى أن "لا يمكننا عدم التأثر واخذ الانطباعات حول قدرة التكنولوجيا التي جرى تطويرها في الغرب على التأثير وضرب الدول التي تقع على الطرف الآخر من العالم، مثل إيران، وكيف تستطيع كاميرا مثبته على جهاز هاتف خلوي إلحاق الضرر بنظام أكثر من أي جهاز استخبارات".
لم يكن الإعلان عن توجه الجيش الاسرائيلي لدخول ميدان "الإعلام الجديد" مؤشرا جديدا على تلمّس تل أبيب لأهمية هذا القطاع. بدأت اولى استخدامات هذا "السلاح" عقب حرب تموز 2006، ثم لاحقا إبّان العدوان على غزة، لتتلاحق تباعا تصريحات مسؤولين في المؤسستين الامنية والعسكرية حول استحداث اقسام جديدة متخصصة في "الإعلام الجديد".
قبل إعلان الجيش الأخير، كان لبنيامين نتنياهو أبرز المواقف الاسرائيلية حول ضرورة استخدام السلاح الجديد. تحديدا بُعيد التداعيات التي بدأت بالبروز على الساحة الإيرانية عقب الإنتخابات الرئاسية، حين تحدثّ نتنياهو عن "قوة الانترنت التي ستهزم النظام الإيراني". في حين خرج قائد جهاز الاستخبارات العسكرية آنذاك الجنرال عاموس يدلين بتصريح لافت لصحيفة الجيش قال فيه ان "شبكة الانترنت اصبحت تشكل البعد الرابع في الصراع مع الفلسطينيين والعرب، الى جانب المواجهة على الارض وفي البحر والجو".
مرّت هذه المواقف مرور الكرام، ولم تحظ بكثير من التركيز. على الرغم من أن الدور الدعائي والنفسي لأسلوب "ضخ المعلومات" الذي يشكل الإنترنت قالبا مناسبا له قد صار معروفا وواضحا، فضلا عن محاذيره الأمنية.
تختصر كلمات يدلين يومها، في محاضرة في معهد ألقاها في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، رؤية "اسرائيل" ازاء الإعلام الجديد، إذ يقول ان "اسرائيل تملك الوسائل الكفيلة لشن الهجمات الإلكترونية"، كاشفا عن "عجز الشبكات الالكترونية عن الصمود امام محاولات اقتحامها بوصفه من المخاطر القومية التي تضم ايضا المشروع النووي الايراني والمقاتلين السوريين والاسلاميين على امتداد حدود الدولة اليهودية".
وأشار يدلين الى ان "مجال الحرب الالكترونية يناسب تماما عقيدة الدفاع في دولة اسرائيل"، داعيا الى "المحافظة على الريادة في هذا المجال مهمة على نحو خاص في ضوء تغير الايقاع السريع".
صحيفة "هآرتس" علقّت على محاضرة يدلين بالقول إن الجيش "لا يتحدث عادة علنا عن الحرب الالكترونية، بعد أن تحولت الاستخبارات العسكرية الى ذراع منفصلة شبيهة بسلاح البحر والجو"، مضيفة أن جهازين منفصلين خارج جسم الجيش؛ أحدهما الشاباك، يخوضان حربا على الجبهة الالكترونية.