ارشيف من :خاص
الإمام الصدر: إمام الوطن والمقاومة ـ الحلقة الثانية
.. من المشروع الرسالي ومحاربة الظلم والفقر إلى الاختطاف
حوار: ليندا عجمي
هوية وبطاقة تعريف
الإمام السيد موسى الصدر عالمٌ رباني ومفكرٌ رسالي، وقائدٌ قدوة ومجاهدٌ مؤمن، نذر عمره وحياته في خدمة الإسلام والإيمان، داعي الحوار ورسول المحبة والسلام، مؤسس ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وزعيم الطائفة الاسلامية الشيعية فيه، وأبرز قادتها وأشهر علمائها، مؤسس حركة المحرومين والمدافع الأول عن المستضعفين، مطلق شرارة المقاومة والنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي ورائد مسيرتها الجهادية الطويلة، المنفتح على الاختلاف والمجدد للتأصيل، هو من عائلة عريقة تضرب جذورها عميقاً في التدين والالتزام والتقوى والورع، تعود بداياتها إلى السيد صالح شرف الدين، من قرية شحور العاملية في جنوب لبنان.
وعائلة آل الصدر يحفل تاريخها الإيماني الرسالي، بنجوم لامعة من مفاخر المراجع وعلماء الدين الذين حملوا لواء الإسلام وراية المذهب بكل وعي وإخلاص وتفانٍ، وتشهد لهم بذلك ساحات العمل والجهاد في لبنان والعراق وإيران، على وجه الخصوص إسماعيل الصدر، ومحمد باقر الصدر، وموسى الصدر، ومحمد محمد صادق الصدر رموز شامخة وقيادات مجاهدة، من تلك السلسلة العلمائية الطاهرة، التي خدمت الإسلام والمسلمين وهي ما زالت على ذات الدرب الحسيني الخالد ، وهذا ما لا يحلو للعديد من الجهات والقوى المعادية للإسلام والمسلمين، ومن هنا اقتضت مصالحها أن تُغيِّب العالم والقائد المجاهد الإمام موسى الصدر عن ساحة الوجود والنفوذ الكاسح في أوساط الأمة، ووقف مده الثوري، كما فعلت مع أقرانه أمثال آية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر، وآية الله العظمى الشهيد محمد صادق الصدر.
وكان الإمام السيد موسى الصدر قد ولد في 15 نيسان/ أبريل 1928م في مدينة "قم" الإيرانية وتلقى في مدارسها الحديثه علومه الابتدائية والثانوية، كما تلقى دراسات دينية في كلية "قم" للفقه. تابع دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة طهران، وكانت عمّته أول عمامة تدخل حرم هذه الجامعة، وحاز الإجازة في الاقتصاد. أتقن اللغتين العربية والفارسية، وألمّ باللغتين الفرنسية والانكليزية. صار أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق في جامعة "قم" الدينية. انتقل في سنة 1954 إلى العراق، وبقي في النجف الأشرف أربع سنوات يحضر فيها دروس المراجع الدينية الكبرى: السيد محسن الحكيم، الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد أبو القاسم الخوئي في الفقه والأصول. تزوج سنة 1955 (من تروين خليلي) ، ورزق أربعة أولاد صبيين (صدر الدين وحميد) وبنتين (حوراء ومليحة).
في استعادة لبعض محطات تلك المسيرة النورانية المباركة لهذا العالم الرباني، كان لـ"الانتقاد" هذا الحديث مع السيد حسين شرف الدين في حلقته الثانية:
أنشأ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان
كان همّ الإمام الصدر حفظ حقوق الطائفة الشيعية وإعلاء شأنها وصون كيانها، ومن هنا كانت ولادة حلم تشكيل مجلسٍ إسلامي شيعيٍ أعلى يحفظ للشيعة حقوقهم ويجسدهم مكوناً أساسياً من مكوّنات المجتمع اللبناني، ويثبتهم خيطاً من خيوط نسيجه الوطني أُسوةً ببقية المكوّنات والشرائح... لقد بدأ الإمام بالتمهيد لفكرة إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بنقاشها مع عدد من المقربين إليه، ولكن هذه الفكرة التي بقيت في مهدها راحت تتمظهر ملامحها أكثر فأكثر مع انتقاله إلى بيروت وذياع صيته وانتشار أخباره. إذ شهد عام 1962 رواج أخبار الإمام في الصحف والمجلات اللبنانية التي راحت تتحدث عن المؤسسات الاجتماعية التي أسسها الإمام في مدينة صور، مروراً بمحاربته لآفة التسول وتحصينه الأمن الاجتماعي، وصولاً إلى المحاضرات الدينية التي كان يلقيها في المدرسة الجعفرية في صور أو الثانوية العاملية في بيروت وغيرها من النشاطات الأخرى المختلفة...
حينها، لم يعد الإمام مشهوراً في الوسط الشيعي فقط، بل صار معروفاً في الوسط الفكري اللبناني المثقف (على مختلف مذاهبه)، وهذا ما دفع مؤسس "الندوة اللبنانية" ميشال أسمر (الذي كان معجباً كثيراً بالإمام) إلى الاتصال به والطلب إليه تقديم محاضرة في "الندوة اللبنانية" يعرّف فيها عن نفسه والشيعة، وقد وجد الإمام في هذا الطلب فرصة مناسبة للتعريف عن نفسه والشيعة، فبعد أن أسس لحالة دينية واجتماعية راقية في مدينة صور، حيث المهمة كانت أسهل والبيئة أكثر جهوزيةً وتقبلاً، بات لزاماً عليه الانتقال إلى بيروت لنشر أفكاره والعمل على تحقيق أحلامه حيث البيئة مختلفة والجمهور أكبر والمهمة أصعب... وهذا ما كان، فالإمام هو طليعة القادة وحامل الأمانة...
حاضر الإمام الصدر في "الندوة اللبنانية" عام 1965 بوجود عدد كبير من وجوه الثقافة والفكر اللبنانيين في السياسية والاجتماع والتاريخ والأدب والفلسفة... من بينهم شارل الحلو وكمال جنبلاط وصائب سلام وغيرهم ممن عُرف عنهم علو كعبهم وطول باعهم في مجالات الفكر والسياسة...
لقد شكلت هذه الفترة مرحلة انتقال الإمام من العمل الاجتماعي الشعبوي في مدينة صور إلى الحوار الفكري النخبوي المثقف والمعاصر في بيروت، فبعد محاربته للتسول في مجتمع صور راح يحارب جهل مجتمع بطائفة من طوائفه، ومُكوِّنٍ من مكوِّناته وبجمع من أبنائه... ولكن انتقال الإمام إلى مرحلة نشر الأفكار عن التشيع والإسلام في وسطٍ نخبوي مثقف لم يمنعه من إكمال العمل الاجتماعي والتبليغي الديني في وسطه الشعبي العادي...
صحيحٌ أن الإمام "الشيعي" كان معروفاً لكثيرين من خلال أخباره ونشاطاته التي كانت تنشرها وسائل الإعلام وصحفٌ ومجلات... إلا أنها بقيت معرفة محدودة لا ترقى إلى جوهر فكر الإمام "المجدد" وعمق المبادئ التي يحملها والمفاهيم التي جسدها والطائفة التي يمثلها... لذا حرص على اطلاق الحوار ولقاء الآخر للتعريف بالشيعة وعقائدهم... والحديث عن مشاكلهم وهمومهم، وما كتاب "أبجدية الحوار" (وهو أول نتاج صدر شاملاً لخطب ومحاضرات الإمام، ويعد ألف باء الحوار في كل حين ومكان) ومحاضرته المهمة التي ألقاها في الرابع والعشرين من أيار عام 1965 تحت عنوان "الإسلام وثقافة القرن العشرين" (التي تُرجمت إلى اللغة الفرنسية) إلا خير دليل على هذا التوجه وذاك السعي.
قدمت أولى المحاضرات الإمام الصدر كمفكر شيعي مجدد، بل كمفكرٍ إسلامي متميز.. فتحدث عن الشيعة وثقافة التشيع وتراثهم العقائدي، فأوضح بأن الشيعة هم الذين يموتون لأجل السنّة ولأجل الإسلام والقضايا الإسلامية.. وفي محاضرته الثانية عرّف الإمام الإسلام وثقافته، فأجاد وأبدع وظهر كقامة عملاقة بدا الدين معها مختلفاً ومتجدداً، وهذا ما دفع المستشرق الفرنسي البروفسور هنري كوربان إلى الطلب منه كتابة مقدمة كتابه "تاريخ الفلسفة الاسلامية" عن الفكر الشيعي لأنه خير مَن مثّل هذا الفكر وفَهِمَه.. ومعها بدأ انتشار الحديث عن الإمام في كتب المفكرين والأدباء...
وتتويجاً للنشاطات والمحاضرات التي نظمتها "الندوة اللبنانية" عن المسيحية والإسلام وقّّع الإمام الصدر مع رفاقه المطران جورج خضر والأب يواكيم مبارك والشيخ صبحي الصالح وحسن صعب والأب فرنسوا دوبره لاتور ويوسف أبو حلقة ونصري سلهب في الثامن من تموز عام 1965 بياناً تحت عنوان "المسيحية والإسلام في لبنان" يعتبر النواة الحقيقية للحوار الإسلامي المسيحي ونقطة بدايته الفعلية والأساسية لما حواه من تأكيد على الثوابت المشتركة في المسيحية والاسلام ومساحات اللقاء المتقاطعة...
في موازاة عمله الفكري الحواري أكمل الإمام الصدر عمله التبيلغي الرسالي بين الناس، لقد كان مقتنعاً بأن للإيمان بُعدين اثنين: بعدٌ إلى السماء، وبعدٌ إلى الأرض، وبأنه لا يكون بالاعتكاف في المساجد والجوامع والتعبد في الصوامع، بل هو ممارسة يومية مَعيشة تتجلى في الاهتمام بشؤون الناس وحمل هموم المحرومين وأحلام وآمال الآخرين من دون تفريق أو تمييز.. لذا راح الإمام ينتقل بين القرى والمدن اللبنانية من دون التفات إلى انتماء ناسها وديانة أهاليها، فكان يزور الشيعة ويسأل عن السّنة ويلتقي بالمسيحيين، وهذا ما أكسبه حباً ووداً واحتراماً لدى جموع واسعة من اللبنانين على اختلاف مذاهبم ومشاربهم، فهو ما دخل قرية أو مدينة إلا ودخل حبه قلوب أبنائها، لأنه مارس حقاً قناعتة بأن خدمة الإنسان هي خدمة لله، وخدمة لمحمد (ص) والمسيح (ع)... ذات مرة زار الإمام منطقة الأشرفية (بناءً على دعوة عدد من الأصدقاء المحبين هناك) فتهافت عليه الجيران (المسيحيون) من المباني المجاورة للتعرف إليه والسلام عليه، ولطرح ما حوت جعبة أسئلتهم، وهو يقابلهم بالفرح ويجيبهم بكل محبة وسعادة. لقد كان يلبي الدعوات التي تأتيه من جهات ومناطق مختلفة بلا تردد وبلا تمييز..لتشكل هذه الزيارات والجولات واللقاءات جسور التواصل والاتصال بين الإمام وأبناء الوطن، وليظهر الإمام مع كل ذلك كعلامة فارقة في الحياة اللبنانية، وشخصية دينية مختلفة عمّن سبقها وعمّن سيليها، ولينال بحق إمامُ الوطن لقبَ إمام الحوار والدعوة إلى كلمة سواء. فجميع الأنبياء رسل رب واحد يدعون إلى رسالة واحدة هي رسالة الله.
في تلك الفترة استأجر الإمام الصدر شقة صغيرة في منطقة رأس النبع لمزيد من مأسسة العمل وتنظيمه، استكمل هناك الاجتماعات واللقاءات، وهمّه ما زال تشكيل البنيان الشيعي وتركيز دعائمه.. فالسيد عبد الحسين شرف الدين الذي اعتذر عن تولّي وظيفة الافتاء الشيعي للجمهورية اللبنانية لأن العرض أتى من المحتل الفرنسي الذي كان (السيد) يناهضه ويقارعه، ويرفض أي تواصل معه، ناهيك عن أن الإفتاء والاجتهاد الفقهي عند الشيعة ليس بوظيفة يتولاها إمام أو عالم لدى جمهورية أو نظام، فكيف يكون الحال بتوليها في ظل احتلال أو انتداب، إنما هو مسيرة جهادية عند الله، ولكل مجتهد الحرية المطلقة في الإفتاء، والرادّ عليه كالرادّ على الله ورسوله... وإن كان التشريع نظرة إلى الأرض فإن الاجتهاد انتباه إلى السماء..
السيد عبد الحسين شرف الدين ـ الذي بلغ مرتبة الاجتهاد في سنّه الثانية والثلاثين ـ قاد حركة النضال من أجل التشيّع ورفض التعاون مع المحتل الفرنسي وترك تأثيره الكبير على الواقع السياسي والاجتماعي في جبل عامل جنوب لبنان، ومهد الأرضية المناسبة لحركة الإمام السيد موسى الصدر.. فصحيحٌ أن الشيعة كانوا ممثلين في الحكومة، إلا أنه لم يكن لديهم هيئة رسمية يتبعون لها، ومن هنا بدأ الإمام مطالبته بشكل جدي من الدولة اللبنانية لمنح ترخيص بإنشاء مجلس ينظم أمور الطائفة الشيعية ويهتم بأحوالها، مستغرباً الاصرار على تهميش الشيعة فيما لجميع الطوائف اللبنانية مجالس خاصة، وحتى اليهود لديهم مجالس فيما لم يكن للشيعة مجلسهم.
كان الهمّ الاساسي للامام خلق شخصية معنوية وقانونية للشيعة، تتكلم باسمهم وتحمل صفتهم التمثيلية، تجمع علماء الدين والمدنيين من سياسيين ومثقفين ومفكرين (أي الشخصيات الملتزمة وغير الملتزمة) ضمن إطار هيكلية واحدة في مجلس ملّي، فالطائفة الشيعية تضم شخصيات كبيرة، منها رؤساء ونواب وأطباء ومحامون ومديرون... ولا يجوز اختزال الشيعة واختصارهم ببعض قيادات إقطاعية تنطق باسم الشيعة ولا تمثل كل أطيافهم وألوانهم ولا تحمل همومهم وآمالهم...
أما المجلس الإسلامي الموحد الذي كان قائماً آنذاك فقد اقتصر التمثيل الشيعي فيه على عضوين اثنين من مجموع أعضائه الاثني عشر، وهو ما رفضه الإمام، إذ لا يجوز اختصار تمثيل الشيعة بنسبة السدس من مجموع المسلمين برغم مجموعهم العددي الكبير، مع العلم أن صلاحيات هذا المجلس لم تكن تتعدى صلاحيات جمعية خيرية.
لم تكن العقبات الوحيدة التي واجهت الإمام في تشكيل المجلس ضغوط القيادات الاقطاعية الشيعية، بل بعض المتضررين من أن يكون للشيعة وجود كياني ودور ريادي، وليس نشر جريدة المحرر برقية تتهم فيها علماء لبنان المسلمين والإمام الصدر بتأييد الحكم الاشتراكي للرئيس العراقي السابق عبد السلام عارف إلا واحدة من تلك التلفيقات والشائعات التي واجهت الإمام، إلا أنه واجهها بحزم ونجح في دحضها وتكذيبها...
نظم الإمام مؤتمراً صحافياً طرح فيه فكرة إنشاء المجلس الشيعي، طالباً من عامة الناس بعث العرائض الخطية الى رئيسي الجمهورية والحكومة والهيئات الرسمية ونُسخ عنها إلى مكتب المتابعة، وقد لبى الناس تلك الدعوة التي اعتبرت بمثابة تفويض شعبي كامل للإمام ورضىً تامّ عن مطلبه المحق...
بعد هذا التفويض الشعبي أقرت الدولة اللبنانية رسمياً قانون إنشاء المجلس الشيعي، وقد اعتُبر ذلك بمثابة تفويض رسمي للإمام، وعندما بادر المرجع الشيعي السيد محسن الحكيم إلى إرسال برقية تهنئة للإمام والشعب بانشاء المجلس الذي سيمثل الشيعة ويتحدث باسمهم للمرة الاولى في تاريخهم، اعتبرت هذه التهنئة بمثابة تفويض شرعي جديد للإمام، وبهذا حصل الإمام على تفويض من أعلى سلطة شرعية إضافة إلى التفويضين الحكومي والشعبي.. ليُصار بتاريخ 23/05/1969 إلى انتخاب الإمام السيد موسى الصدر أول رئيس للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وكانت ولاية الرئيس قد حُددت بموجب قانون إنشاء المجلس بست سنوات.. ثم جرى تعديل هذه المدة لاحقاً بحيث أصبحت لغاية إتمامه الخامسة والستين من العمر. وتم هذا التعديل وفقاً للأصول بعد موافقة الهيئة العام للمجلس بالاجماع بتاريخ 29/03/1975.
مع بداية ولايته في رئاسة المجلس عمل الإمام الصدر على تأمين مقر للمجلس الإسلامي الشيعي الاعلى يقع في محلة الحازمية بضاحية بيروت الشرقية الجنوبية، في بناءٍ لائقٍ يتألف من أربعة طوابق، ويقوم على عقار مساحته 6375 متراً مربعاً، ويحتوي على قاعات واسعة للاجتماعات العامة، وقد سجلت ملكية هذا العقار باسم أوقاف الطائفة الإسلامية الشيعية.
برنامج المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى
أعلن الإمام الصدر برنامج عمله لتحقيق أهداف المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، في خطاب ألقاه يوم انتخابه، وفي كلمته الترحيبية برئيس الجمهورية اللبنانية عندما قدم لتهنئته، وفي البيان الأول الذي أصدره بتاريخ 10/06/1969. وقد تضمن هذا البرنامج العناوين الرئيسة الآتية: • تنظيم شؤون الطائفة الشيعية وتحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية.
• القيام بدور إسلامي كامل، فكراً وعملاً وجهاداً.
• عدم التفرقة بين المسلمين، والسعي للتوحيد الكامل.
• التعاون مع الطوائف اللبنانية كافة، وحفظ وحدة لبنان.
• ممارسة المسؤوليات الوطنية والقومية، والحفاظ على استقلال لبنان وحريته وسلامة أراضيه.
• محاربة الجهل والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي والفساد الخلقي.
• دعم المقاومة الفلسطينية والمشاركة الفعلية مع الدول العربية الشقيقة لتحرير الأراضي المغتصبة.
وهكذا يتضح لنا أن الإمام وإن وضع في أولويته هموم الشيعة، إلا أنه لم يغفل عن هدف التأليف بين المسلمين والتوحيد بين اللبنانيين، وحتى تحرير فلسطين.
سعى لحماية جنوب لبنان وتثبيت صمود أهله
اعتبر الإمام الصدر الجنوب أرض الحضارات، وينبوع الثقافات، ومعلّم الأبجديات، اعتبره أرض الإنسان والإيمان، وأعلن لأجل ذلك استعداده الصادق لتقديم حياته كي تتوقف الآلام فيه، وكانت قد شهدت الأشهر الأولى من بداية ولايته في رئاسة المجلس اعتداءات إسرائيلية وخروقاً طاولت الحدود الجنوبية، فكان أن أطلق حملة طالب فيها السلطة اللبنانية بحماية وتحصين قرى الجنوب الحدودية، معتبراً أن من واجب كل إنسان في لبنان، أرادت السلطة أم لم ترد، أن يتهيأ، وأن يتدرب، وأن يتسلح لحماية لبنان من الأخطار والأطماع الإسرائيلية.. إذ لا كرامة للبنان ولا سلامة له بدون الجنوب..وجاء اتفاق القاهرة عام 1969 لغرض تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان ليزيد من حالة غياب الدولة عن المشهد الجنوبي، بعد إفراغ المناطق الحدودية من الدولة ومؤسساتها وتجميد كل المشاريع الإنمائية فيها، لتجعل الجنوبيين والفلسطينيين وجهاً لوجه في مواجهة مباشرة، تكون فيها "إسرائيل" أكبر الرابحين وأكثر الفرحين لصراع الأشقاء على أرض الجنوب..
ولكن الإمام الصدر عمل على تفويت تلك الفرصة على الإسرائيلي ومن يتربصون شراً بالجنوب وبناسه، وقد أكد في إفطار نظم لدعم المقاومة، بأنه لن يوجه سلاحه إلى الداخل اللبناني إلا إن حاول البعض تقسيم لبنان، أو محاصرة الوجود الفلسطيني والتضييق عليه، من دون أن يعترف بقوات المقاومة الفلسطينية قوات بديلة عن الجيش اللبناني.
فإلى جانب وقوفه إلى جانب الفلسطيني، قام الإمام بحملة توعية وتحذير من خطر تفريغ القرى الحدودية اللبنانية إعادةً لسيناريو تهجير الفلسطينيين من مدنهم وقراهم في نسخة لبنانية هذه المرة، فنهى الناس عن النزوح من أرضهم، مشدداً على دور الدولة وضرورة حضورها الدائم بجيشها ومؤسساتها في الجنوب ودعم قراه وأهله. لقد آمن الامام بضرورة بناء مجتمع مقاوم يرتكز على استراتيجية وطنية مضادة للمشروع الاسرائيلي الاستيطاني التوسعي، سعياً لمواجهة الاجتياحات المتكررة للحدود ولمقاومة الاحتلال المتوقّع للأرض اللبنانية.
عندما قصفت قوات العدو الإسرائيلي ذات مرة بلدة عيترون في الجنوب اللبناني سارع الإمام إلى زيارة البلدة وتفقد أهلها، ودعاهم إلى الثبات والصمود وعدم ترك أرضهم وديارهم، وكذا فعل عندما قُصفت بلدة كفرشوبا ومسجدها، حينها هرع الإمام لمساعدة أهالي البلدة ومواساتهم والشد من عزيمتهم، وقد أدى صلاة الجماعة في المسجد المتضرر، إلا أنه بعد اشتداد القصف لجأوا إلى الكنيسة..
كان الإمام يحرص في جميع المناسبات والأعياد على زيارة كافة المناطق الجنوبية بغية تشجيع الناس ودعمهم وتقويتهم وشحذ هممهم، فقد كان يحذر من مخطط تفريغ منطقة الليطاني من الجنوبيين على غرار نكبة اغتصاب أراضي الـ 48 في فلسطين.
كان هم الامام عدم التخلي عن الدولة والجيش وعدم تكريس غيابهما واقعاً دائماً، فدعا إلى سن قانون خدمة العلم، وطالب بتدريب شباب الجنوب وتسميتهم بأنصار الجيش في إشارة واضحة إلى إصراره الكبير على جلب الدولة وإبقائها في الجنوب..
وقد أثمر سعيه هذا وضغطه المتواصل قراراً حكومياً من مجلس الوزراء اللبناني عام 1970 قضى بوضع خطة عامة لتعزيز أوضاع مناطق الجنوب الحدودية.
أنشأ مجلس الجنوب
لأن الدين ـ بفهمه ـ لا ينفصل عن الاهتمام بشؤون الناس المَعيشة، ولأن الإيمان بالله ـ برأيه ـ هو الإيمان الذي يجعل الإنسان لا يرتاح أمام عذاب المعذّبين، ولأن وضع الجنوب إدانة للجميع، وسوف يحكم التاريخ من خلاله، ومن خلال المواقف تجاهه، ولأنه كان يرى بعينيه أن الجنوب في خطر، وهذا الخطر يستدعي منه البدء بكتابة الحرف الأول في مواجهته، وهو موته في هذا السبيل، إن تطلب منه ذلك. واصل الإمام جولاته ـ من دون كلل أو ملل ـ على المناطق اللبنانية شارحاً ومحاضراً عن وضع الجنوب وأهله، داعياً إلى تعبئة عامة لأجل الجنوب ليُيمِّمَ الوطن كله وجهه ناحية جنوبه.وعندما تعرضت القرى الحدودية لعدوان إسرائيلي جديد منتصف عام 1970 أدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات ونزوح الآلاف من سكان ثلاثين قرية حدودية، دعا الإمام الصدر رؤساء الطوائف الدينية في الجنوب لاجتماع عاجل، وأسس "هيئة نصرة الجنوب"، وقد تولى ـ بناءً لطلب أعضائها ـ رئاستها، فيما عُين المطران أنطونيوس خريس نائباً له، وقد وضعت هذه الهيئة ـ بناء لرؤية الإمام ـ مجموعة من المطالب لحماية الجنوب وتنميته. وعندما لم تستجب السلطة السياسية لتلك المطالب تمت الدعوة إلى إضراب وطني سلمي عامّ من أجل الجنوب، وقد كان التجاوب اللبناني مع تلك الدعوة عاماً وعارماً في مختلف المناطق ولدى جميع الطوائف، ومساء يوم الإضراب ذاك، أقر المجلس النيابي مشروعاً قضى بإنشاء مؤسسة عامة تحت اسم "مجلس الجنوب" استجابةً لمتطلبات وحاجات منطقة الجنوب ودعماً لأهلها، وللتعويض عن أضرار الاعتداءات الإسرائيلية والانفاق على مشاريع وخدمات إنمائية عامة في المنطقة.
أسس حركة المحرومين
اعتبر الإمام بأن الرسل الذين اختارهم الله للتغيير الشامل كانوا ـ غالباً ـ من المحرومين المعذبين، واعتبر أن مسؤولية علماء الدين في هذا الميدان كبيرة ودقيقة، لأنهم أمناء على خدمة الأمة وأبنائها، لا سيما المحرومين منهم، ولأنهم وحدهم يتمكنون من إعطاء صورة صحيحة عن نضال المحرومين والمظلومين داخل المجتمعات؛ ومن هنا أولى الإمام الفقراء والمحرومين والمهمشين عناية خاصة واهتماماً أكبر، لأن الدّين يعتبر أبناء مجتمع يموت فيه الفقير قَتَلَة، داعياً إلى تلبية مطالب المحرومين وتنمية المناطق المحرومة..وكان عام 1971 وما بعده قد شهد استمرار الاعتداءات الإسرائيلية وتكرارها على السيادة اللبنانية، استمر معها الإمام مطالباً بحقوق هذه المنطقة وبواجبات الدولة الغائبة عنها تجاهها، مؤكدأ أن انهيار الجنوب يعني الانهيار الكامل للبنان، مجدداً دعوته بفرض التجنيد الإلزامي وتحصين القرى وتشييد الملاجئ وتأمين مقومات الصمود والدفاع.
كذلك طالب الإمام السلطة اللبنانية بتنفيذ سياسة إنمائية متوازنة لا تضع العاصمة وحدها في سلّم أولوياتها وتهمش باقي المناطق الطرفية، فلكي يكتمل مشهد الوحدة اللبنانية كاملاً لا بد أن يبنى الوطن بكامل مناطقه، داعياً إلى إنماء المناطق وإلغاء التمييز الطائفي، وعدم تهميش الشيعة في المناصب الوزارية والوظائف الإدارية العامة وموازنات المشاريع الإنمائية برغم أنهم كانوا دائماً من أكثر المواطنين ولاءً وإطاعة للحاكم الوطني، ومن أقلهم إزعاجاً للسلطات.
ولكن هذه السلطات تجاهلت مجدداً تلك المطالب والدعوات، فصرح الإمام عندها بمعارضة حكام لبنان لتجاهلهم حقوق المحرومين والفقراء، وواجب إنماء المناطق الفقيرة المهمشة، وقام بتصعيد حركته الاحتجاجية من أجل المحرومين عبر مهرجانات شعبية حاشدة أضخمها مهرجانا بعلبك وصور، والتي زاد عدد الحضور فيها عن مئة ألف، عاهدوا الإمام على متابعة الحملة وعدم الركون والهدوء حتى تحقيق المطالب.. وهكذا ولدت "حركة المحرومين" من رحم الشعب ومعاناته وحرمانه، وأعلنت في مبادئها التمسك بالإيمان بالله والإنسان والحرية والكرامة، ورفض الظلم والطائفية، ومحاربة الاستبداد والاقطاع، والتمسك بالسيادة الوطنية وسلامتها ومحاربة الاستعمار والاعتداءات والمطامع..
لاحقاً شكلت قيادة الجيش اللبناني لجاناً لدراسة مطالب حركة المحرومين والاتفاق على آليات تنفيذها، ولكنها بقيت حبيسة الأوراق وأسيرة الأدراج، عندها دعا الإمام الصدر علماء الطائفة الشيعية إلى تأييد المطالب وعدم إهمالها.. ثم دعا الهيئة العامة للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي ضم أكثر من ألف شخصية شيعية أيدت جميعها مطالب الإمام، واستنكرت موقف الدولة وفوضته استكمال كافة الخطوات مانحة إياه دعمها الكلي والكامل.. فكان أن استقالت الحكومة، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة الرئيس رشيد الصلح أعطت للإمام تعهداً بدراسة إيجابية للمطالب.. إلا إنها ما لبثت أن استقالت مع بدايات انطلاق شرارة الحرب اللبنانية..
أنشأ أفواج المقاومة اللبنانية "أمل"
مع إيمانه بأن "علينا الوثوق بالله وحده، والرجوع إليه وحده، لأن الله يدافع عن الذين آمنوا".. ومع إيمانه بأن رجال محمد (ص) لم يكونوا يملكون من أسباب النصر سوى الإيمان بقضيتهم العادلة، وبقيادتهم المخلصة، وبأن النصر من عند الله، إلا أنه أدرك أن هذا النصر لا يكون إلا بالأخذ بأسبابه، لذلك دعا الإمام الصدر مبكراً إلى قيام المقاومة المسلحة وتشكيل مقاومة لبنانية تواجه العدوان الإسرائيلي ومؤامراته وأطماعه، ورفض الانتظار حتى تُحتل الأرض وتُدمر البيوت ويُشرد الناس وُتنتهك الكرامة، وبعد ذلك تُؤسس المقاومة لاستعادة الأرض المحتلة وإعادة الناس إليها، معتبراً أن الدفاع عن النفس حقٌ بل واجب كل مواطن لا يمكن منعه عنه، ولا يحتاج إلى اتخاذ قرار، ولا يحتاج إلى خطة، ولا يحتاج إلى تفكير، ولا يحتاج إلى استشارة، لأن الوطن يُحفظ بالجهاد، والكرامات تحفظ بالشهادة، داعياً إلى المرابطة لأنها مقصد إسلامي وواجب وطني، وهذا وقت المرابطة والاستشهاد في وجه العدو بعدما تخلّت السلطة عن واجباتها.مجّد الإمام الصدر عمل المقاومة، فرأى أن المقاومين هم الذين يطبّقون شرعة الإنسان، ويؤتمنون على صيانة الأخلاق والمثل، وينفذّون إرادة المسيح(ع) وإرادة محمد(ص)، رأهم أبطالاً كباراً لا يحتاجون إلى تكبّر وعظماء دون مزايدة، رابطاً بين الدين والجهاد، وبين الحرب والصلاة، واعتبر العمل المقاوم استمراراً لعبادة الله في ساحات الحروب والفداء مثلما تكون العبادة في محاريب المساجد وفي مجالات خدمة الخلق.
وقد أعلن الإمام الصدر عام 1975 عن ولادة أفواج المقاومة اللبنانية "أمل"، مؤكداً وجوب وقوف هذه الوقفة التاريخية بكل الجهود والامكانيات، حفاظاً على الشرف والوجود ومستقبل البلاد والأجيال، وأداءً للدور التاريخي، مع علمه الأكيد بأن النضال شاق وطويل، وأن عدو الإنسانية قوي وشرس، وأن الزاد قليل، إلا إن توكله على الله كان عظيماً لا يبليه الزمان، فدعا إلى تقدّيم كل يوم مجاهد وشهيد وقضية وتضحية، لأن الثوار مثل موج البحر، إذا ما توقفوا انتهوا، نافياً أن تكون أعمال المقاومين لازعاج "إسرائيل" فحسب، فالمقاومون أصحاب حق ومظلومون، وأن هذا الجهاد ليس ثورة شعب مضطهد فحسب، بل إنّها ثورة أمّة على ماضيها القريب والبعيد.
استحضر القدس في وجدانه
اعتبر الإمام الصدر القدس قبلة المسلمين وملتقى قيمهم وتجسيد وحدتهم ومعراج رسالتهم، اعتبرها قضيته الخاصة والمقدسة، وجهاد الفلسطينيين في سبيل تحريرها جهاده الشخصي وجهاد الناس جميعاً ومسؤوليتهم المشتركة، لأن هذه الأرض المقدسة ينبوع الرسالات السماوية وأصل مهد الأديان والحضارات الإنسانية جمعاء، وأرض باركها الله وما حولها، وأن شرفها يأبى أن تتحرر إلا على أيدي المؤمنين وعلى أيدي المجاهدين، ومن يتنازل عن هذه الأرض المطهرة ـ مسلماً كان أم مسيحياً ـ فإنما يتنازل عن دينه ويفرط به، مستغرباً جمود الناس وقعودهم عن القيام والنهوض والتحرك لاسترجاع فلسطين وطرد الصهاينة الغزاة وقد انتهكت المحارم ودنست المقدسات، فيما الواجب يقتضي العودة إلى العزة والكرامة، إلى الفصح والقيامة، إلى المولد والهجرة والإسراء..حارب تهويد القدس واستنكر إهانة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، ونشر الفساد في المدينة العتيقة بما يحمل ذلك من تشويه وطمس للمعالم والمفاهيم المسيحية والإسلامية.. وتعهد بحفظ المقاومة الفلسطينية وصونها وحمايتها.. وكرر القول بأنه من دعاة دعم المقاومة الفلسطينية، والعاملون في سبيل هذا الهدف في مختلف أشكاله وأساليبه..وقد أراد صونها محفوظة الجانب ومطمئنة البال، غير معرضة للاعتداء متفرغة لقضية التحرير.
لقد أعلن الإمام صراحة بأنا سنبقى "حاملي لواء العودة إلى القدس، حاملي لواء الدفاع عن المحروم كل محروم، حتى يكون لنا الشرف في أن نكون ثأر الله وابن ثأره".
موقفه من الحرب الداخلية في لبنان
مع بداية الحرب اللبنانية عام 1975 وتحزّب المحاربين في خنادق المواجهة والقتال سعى الإمام لدى مختلف الأفرقاء لوأد الفتنة وخنقها، وقد دعا المتصارعين إلى التنبه لمخططات الخارج لأن السلاح الفعال الوحيد بيد العدو الإسرائيلي ليس سلاح الطائرات ولا الصواريخ ولا حتى القنابل، ولكنه في دس سم الخلاف في صفوف العرب وبزرع بذور الفتنة والشقاق بين اللبنانيين، مؤكداً ضرورة صون الوطن اللبناني والثورة الفلسطينية معاً، فإن كان السلاح زينة الرجال، فهو كذلك عندما يكون في وجه العدو، أما السلاح في وجه الصديق، في وجه الجار، فهو ليس سلاحاً ولا زينةً ولا زيناً... لقد طالب الإمام بإنهاء الاقتتال الداخي ونقل أسلحة المعارك إلى الجنوب والدفاع هناك حيث البوصلة الحقيقية للسلاح وأصل استعماله. شكل الإمام مع مجموعة من اللبنانيين "لجنة التهدئة الوطنية" للاجتماع بممثلي المقاومة الفلسطينية لمباشرة تهدئة الأوضاع ووضع نقاط التلاقي المشترك المتمثلة بحفظ العيش بين الطوائف واعتماد الحوار لتحقيق الاصلاح ورفض القهر الطائفي والمحافظة على التعايش اللبناني ـ الفلسطيني..
ولما لم تفلح تلك المساعي في وقف الاقتتال اعتصم الإمام في الكلية العاملية متعبداً صائماً مطالباً بتشكيل حكومة وطنية تعيد السلام وتقيم المصالحة بين المتقاتلين معلناً بقاءه في الدرب، وإصراره على المواقف، إلى أن تتطهر الأرض وتقتلع الأشواك، وإلى أن يطلع الفجر، وينتشر السلام في وطنه.. وقد لاقى اعتصامه هذا استحساناً شاملاً لدى مختلف الشرائح والطوائف دينياً وشعبياً وسياسياً.. وعند تأليف الحكومة التي أخذ منها وعداً بالعمل على إقامة المصالحة أنهى اعتصامه.
لم ير الإمام في الحرب الدائرة رحاها على الأرض اللبنانية إلا شراً أكيداً سيلحق بالوطن اللبناني والمقاومة الفلسطينية والجار السوري وبالقضية العربية إجمالاً، وخيراً واعداً لكيان العدو الإسرائيلي، لأن السلاح الذي يستعمل داخل لبنان ـ أياً كان حامله ـ تستفيد منه إسرائيل، أي طلقة تطلق في لبنان، كأنها تطلق من جبهة "إسرائيل" على الجسم اللبناني.
شجب الإمام الصدر قتل المدنيين الأبرياء، ولم يقبل بالرد بالمثل، والأخذ بالجريرة، فبعد قتل العشرات من أبناء الطائفة الشيعية وتدمير مساكن آخرين والاعتداء عليهم وتهجيرهم ضمن مناطق ذات أكثرية مسيحية، أكد على وجوب حماية الأقليات المسيحية المقيمة في مناطق إسلامية، محذراً من الاعتداء والانتقام من الأبرياء، إلى جانب استمراره بتوجيه النداءات لوقف القتال وإنهاء الحرب والعودة إلى الحوار والتلاقي.
إلى جانب مساعيه لتقريب وجهات النظر بين اللبنانيين والفلسطينيين، وبين اللبنانيين أنفسهم، أدى الإمام دوراً هاماً في تقريب وجهات النظر بين قيادة المقاومة الفلسطينية وسوريا، وأمّن لقاءً لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات مع الرئيس السوري حافظ الأسد بحضوره... واستأنفها غير مرة.
شجب الإمام الصدر أعمال تكوين فيدراليات طائفية، أو ما عرف بـ"الكونتنات" المذهبية، حيث أنشأ كل طرف إدارة محلية ودويلة على قياسه لتكون بديلاً عن الإدارات الرسمية والوجود الرسمي للدولة الجامعة..
عمل على محاولات إنهاء الحرب الأهلية في لبنان
لأن إنهاء الحرب اللبنانية كان يتطلب وفاقاً وطنياً لبنانياً واتفاقاً عربياً مشتركاً على هذا الوقف، كان الإمام الصدر يتنقل بين العواصم العربية بين دمشق والقاهرة وبين الرياض والكويت ورئاسة الجمهورية اللبنانية وقيادة المقاومة الفلسطينية مجتهداً في إقناع القادة والمسؤولين لتوحيد المواقف من حرب الفتنة بهدف وقف نزيف الدم المستمر في لبنان، وساعياً لتوحيد الرأي على إنهاء الحرب المستعرة في البلاد.. وبقي الإمام الصدر يعيش أمل الفجر إلى أن أنتجت هذه الجهود مع آخرين قراراً بإنهاء الحرب اللبنانية عبر قوات الردع العربية.لاحقاً أعلن الإمام ضرورة الخروج من الحرب وأتونها والعودة إلى التمسك بشرعية الدولة والمؤسسات متمسكاً بوحدة لبنان الواحد الموحد، وحماية سيادته وحريته واستقلاله، وإعادة إعمار ما تدمر وبناء ما تهدم ووصل ما انقطع ورتق ما فتق مشدداً على التعايش المشترك والنهائي بين ألوان وأطياف لبنان وطوائفه، مقترحاً الامتناع عن إقحام لبنان في الأزمات الإقليمية الكبرى، وإبطال مفاعيل اتفاق القاهرة، ووضع صيغة جديدة منظمة للعلاقة بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلطسينية..
بقي الجنوب هو العنوان
مع دخول قوات الردع العربية إلى لبنان هدأت الأوضاع، إلا في الجنوب الذي بقي خارج سيادة الدولة اللبنانية ومهام قوات الردع العربية، واستمر الصراع على أرضه بين قوى وفئات عدة، واشتدت به الأزمة وازدادت خطورةً وسوءاً وتعقيداً، حتى بات مصير الجنوب كله مهدداً بمؤامرات تحاك ضده وبمكائد تنصب له.. ولكن الإمام الصدر ما انفك يسعى جاهداً مع المسؤولين اللبنانيين والعرب لشرح خطورة الوضع في الجنوب وخطورة تحويله هدفاً للاحتلال الاسرائيلي أو التوطين الفلسطيني، وكان أن نفذ الكيان الصهيوني اجتياحاً برياً واسعاً عام 1978 عرف بعملية الليطاني، وكان الهدف المعلن إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية شمال النهر.. استقر الاحتلال بعدها في منطقة عرفت باسم الشريط الحدودي.. جال الإمام مجدداً على عددٍ من الدول العربية (سوريا، الأردن، الجزائر...) شارحاً أوضاع منطقة الجنوب اللبناني والقوى المتصارعة على أرضه، مطالباً بفك ارتباط لبنان عن محاور الخلاف العربي والاقليمي، داعياً جامعة الدول العربية إلى عقد مؤتمر للقمة العربية يدرس مسألة احتلال الجنوب وسبل انقاذه وتحريره.
أُخفي في ليبيا
بناءً على دعوة من العقيد الليبي معمر القذافي، وعلى إشارة من الرئيس الجزائري بومدين، سافر الإمام الصدر إلى ليبيا بتاريخ 25/08/1978 برفقة الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين.وكان الإمام الصدر قد بات آخر لياليه في لبنان في منزل شقيقته السيدة رباب الصدر، وحاول كثيرون ـ يومذاك ـ ثنيه ومنعه عن هذه الزيارة، إلا أن الإمام أعلن عزمه على السفر إلى ليبيا لعقد اجتماع مع العقيد القذافي.
لم تغطِ وسائل الإعلام الليبية تفاصيل أخبار الإمام في ليبيا ووقائع زيارته إليها، ولم تشر إلى أي لقاءات عقدها الإمام مع المسؤولين الليبيين، وانقطعت أخبار الإمام فجأة ظهر يوم 31 آب 1978، فيما أعلنت السلطات الليبية سفر الإمام الصدر ورفيقيه من طرابلس الغرب مساء ذلك اليوم إلى إيطاليا، وقد وُجدت الحقائب في فندق "هوليداي إن" في روما.
وبنتيجة التحقيق الواسع الذي أجراه القضاء الايطالي في قضية اختفاء الإمام توصل المدعي العام الاستئنافي في روما إلى التثبت من أن الامام الصدر ورفيقيه لم يدخلوا الأراضي الايطالية، ولم يمروا بها "ترانزيت"، وجزم ببقائهم في ليبيا، وتم إبلاغ ذلك رسمياً إلى حكومات لبنان وسوريا وإيران والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
حاولت الحكومة اللبنانية عبر بعثة أمنية أوفدتها إلى ليبيا استجلاء الحقيقة، إلا أن السلطات الليبية لم تسمح لها بدخول البلاد، وقد توصلت هذه البعثة بعيد التحقيقات الدقيقة التي أجرتها في إيطاليا إلى نفس النتيجة التي كان قد أعلن عنها القضاء الإيطالي وأبلغها لبنان.
تم تحميل العقيد معمر القذافي مسؤولية إخفاء الإمام الصدر ورفيقيه منذ ذلك الحين.
قال الإمام الصدر: "لا خلاص لكم مني أيها المسؤولون، لا خلاص لكم مني ومن شبحي المزعج الذي يقض مضاجعكم، إلا بالموت أو العجز"، و"لن يتمكنوا من تركيع الجنوب، لن يتمكنوا من إذلال هذا الشعب الحسيني، الذي تمنى أن يكون مع الحسين(ع) منذ ألف سنة".. وهذا ما كان، فلأن شبحه أزعجهم وأقضّ مضاجعهم، ولأنهم أرادوا تركيع الجنوب وأهله حاولوا إخفاء الإمام لعلهم ينالون ما أرادوا، ولكن هيهات... هيهات أن ينال الظالم مبتغاه. فلا من يقدر على تغييب الإمام ولا من يقدر على تركيع الجنوب.