ارشيف من :آراء وتحليلات
الأنظمة المتهاوية: القذافي مثال نافر
لؤي توفيق حسن (*)
ان يكون القذافي من أصول يهودية كما تردد. فالأمر الى هذا الحد لا يمثل نقيصة أو علة. مذكرين بأن إحدى أهم مزايا الإسلام قبوله بالآخر المختلف. وبه شكل وعاءً جامعاً انصهرت فيه اثنيات وشعوب لينبعث منها فيما بعد حضارة اسلامية فذة.
إذاً ان يكون القذافي من أصول يهودية او حتى يهودياً فليست هذه هي المسألة إلا بقدر ما يترتب عليها من خدمات يقدمها للكيان الصهيوني. وهنا فإنا المشهد الأخير يشي بالكثير حين حذر بأن سقوط نظامه سيترتب عليه "تهديداً لأوروبا واسرائيل". ما يؤكد بأن الرجل لعب في أكثر من مكان دور الحارس الأمين للغرب وصنيعته "اسرائيل". والمخفي ستكشفه الأيام لتؤكد بأن ما رشح عن اتصالات بينه وبين هذه الأخيرة كان حقيقة واقعةً. وما طرحه "اسراطين" إلا غطاء من ديماغوجية يفتعلها "العقيد" بخبث ليغلف فيها طروده الملغمة!.
ولكن ماذا عن المشاهد السابقة التي تعود لعقود خلت من حكم "القائد!" تلك التي سرق فيها حياة الشعب الليبي، آماله ومستقبله. لتذهب بطريقة او باخرى رصيداً جديداً لصالح "اسرائيل".
لا يختلف "العقيد" في هذا عن الكثير من الأنظمة العربية. التي خدمت الكيان الصهيوني وكل منها على طريقته. تارة بشكل مباشر، وتارات بشكل غير مباشر.
أما الخدمات المباشرة فالأمثلة عليها شاخصة امامنا من هنا او من هناك. حتى بات هذا الكثير من الأنظمة العربية جزءً من معادلة (الأمن الإسرائيلي)!.
أما الخدمات غير المباشرة فللوقوف عليها نتقفى بوصلة الصراع العربي – الإسرائيلي. وسنجده في الجوهر صراعاً حضارياً بكل ما للكلمة من معنى. وللتدليل على هذا نضرب مثالين من تجربتين متباعدين من حيث الطبيعة والزمن. ولكنهما متقاربتين ريادةً ونبلاً في الهدف.
الأولى: من أيام عبد الناصر. والثانية مع المقاومة في لبنان.
أما الأولى فكانت عام 1955 عندما جاء وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية انطوني ناتينغ الى القاهرة ومنها الى تل أبيب وفيها التقى رئيس وزراء العدو يومها دايفيد بن غوريون ونقل له انطباعاته عن زيارته لمصر قائلاً: "جئتك بنبا جيد. إن عبد الناصر يتعمق في قضية رفع مستوى حياة الشعب المصري ويعتبرها أعلى من الإعداد للحرب مع اسرائيل". فنظر بن غوريون الى تاتينغ سائلاً اياه: "اتعتبر ذلك نبأ جيد؟".
ثم بعد ذلك ما إنفك بن غوريون على وصف عبد الناصر بالرجل "الخطير" والسبب بحسب رأيه "انه يفكر بالصناعة".
أما المثال الثاني فمن انتصار المقاومة التاريخي صيف 2006. وصولاً الى تحقيق توازن الردع مع الجيش الإسرائيلي. أكبر جيوش المنطقة. لكن بيت القصيد هو في ما وراء هذا الإنجاز. وهنا تظهر مبارزة من نوع آخر مع العدو الصهيوني. وهي المبارزة التقنية بكل ما يعنيه التعبير من معنى ودلالات في الإعداد، والتخطيط، والمتابعة، والتنظيم. هذه وغيرها كان وما زال دونها جهدٌ معرفيّ يبحث ويستفيد من علوم العصر في مجالاتها المتنوعة.
ولعل آخر الأمثلة تدليلاً على ما سبق. هو في الإختراق التقني من المقاومة الإسلامية لآلية الإستطلاع الجوي لطيران العدو. وفيه تمكنت من الدخول على موجات بث الصور واستنساخها. هذا ما بات معروفاً بعد ان افصح عنه بالوثائق سيد المقاومة. لكن المخفي أعظم بلا شك.
ذاك وسواه جاء من حزب محاصر بالتعقيدات اللبنانية. لكنه جاد. عاقد العزم على بلوغ أهدافه. فكان له ما أراد. ليس وحسب قوة الردع بل القدرة على نقل المعركة للأرض المحتلة. ظاهرة فريدة وجديدة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي.... فماذا عن الأنظمة العربية التي تمتلك امكانيات أكبر بكثير.. وفسحة اوسع للحركة. او هكذا نفترض.
يبدوا القذافي مثالاً ونموذجاً نافراً للتخريب الحضاري الذي مارسته تلك الانظمة ضد شعوبها وبلدانها.
فعبر طروحاته الملتبسة مثل "الجماهيرية"، "المجالس الشعبية" ضرب بنية الدولة الليبية ومقوماتها.
وبشعاراته الديماغوجية على شاكلة "الزحف الأخضر" تقدم كل ما هو جاهلٌ وتافهٌ على حساب كل ما هو عقلاني أو واعد0وما المشانق التي نصبها قبل عقودخلت في ساحات الجامعات وذهب ضحيتها ألمئات من أبنائها إلا مثالاً من امثلةٍ كثيرة.
وباسم مقولة "الشعب المسلح" جرى سحب السلاح في تقليص متعمد لقدرات الجيش الليبي. ليصبح السلاح فعلياً بيد أزلامه من (الكتائب الأمنية)، وعصابات "اللجان الثورية". والمصير ذاته كان من نصيب ثروات ليبيا. فتحت شعار "السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب" اصبحت السلطة بيد "ملك الملوك!"، والثروة بيد ابنائه وازلامه.
ولمن يريد الوقوف على المزيد من واقع ليبيا فليس عليه إلا بأن يقرأ شعارات القذافي ثم يعكس معانيها.
ليس ما سبق نقلاً عن أي مصدر بل هي شهادة حيث عايشت شخصيأً الواقع الليبي على مدى سنة ونيف من الإقامة في ربوع هذا البلد الشقيق. شاهدنا فيه ما لا يتناسب قط وثروة دولة نفطية غنية. الفقر في كل مكان. تراجع في الخدمات. تخلف في المؤسسات الصحية والتعليمية. هذا الى جانب سوء الإدارة. بل وسرقة (القطاع العام) من ازلام النظام. وبعد ذلك او قبله تعمده اذلال الشعب الليبي احفاد عمر المختار بقبضة أمنية حديدية.
وهكذا وباسم شعارات (الثورة) ارتكب القذافي – على أرض الثورات – كل موبيقاته مسيئاً لمعاني هذه الشعارات ومضامينها الحقيقية. كان من الطبيعي بعدها ترحم الليبيين المخضرمين على الملك والملكية. لذلك لم يفاجئنا الثوار بالعودة لرفع علمها.
أياً كان رأينا بالملكيات فإن الملك السنوسي كان للحق جامعاً للقبائل. وفي ظل عرشه توحدت المقاطعات الليبية الثلاث تحت ما كان يسمى "المملكة الليبية المتحدة". هذا ما فعله الملك "الرجعي" بحسب وصف القذافي له اما هذا الأخير فقد تفنن في تفريق القبائل مثيراً العصبيات فيما بينها سواء بين العربية منها او بين العرب والبربر من جهة أخرى فضلاً عن إثارة النعرات الجهوية. وكل هذا ليظل "القائد"هو اللاعب الأكبر على الساحة.
وها هو الآن يدخل معركته الاخيرة في سبيل البقاء يعزف على أكثر من وتر. إذ سمعنا (داعية القومية العربية!) يحرض الليبيين على عروبتهم باسلوب دنيء بقوله: "العرب لا يحبونكم". "العرب يغارون منكم". وفي الداخل يلعب على موجة تحريض الغرب الليبي على شرقه لذا فقد بات همه الآن هو ضرب معاقل الثوار في (إقليم طرابلس) ليخلق واقعاً يمكّنه من الإفراد بالإقليم المذكور.
ترى بماذا يفترق القذافي عما سواه. أليست هي اللعبة ذاتها في الجوهر التي أخذ بها السادات، ثم مبارك بإثارة النعرات الطائفية – (مسلم – قبطي) – وتجنيد الأصوليين لتفجير الكنائس. أليست هي لعبة ذاتها يلعبها الآن حاكم اليمن، والبحرين، ومجموعات 14 آذار في لبنان!..
ان ما فعلته الأنظمة في سبيل بقائها هو الذي شجع الأمركيين والإسرائيليين على التفكير والعمل على مشروع (الشرق الأوسط الجديد) لتقسيمه على أسس أثنية.
لكن في عصر الثورات ضاقت فرص النجاح أمام هذه المشاريع ليحق فيها القول:
"تخططون وتسخر الأقدار".
(*) كاتب من لبنان
ان يكون القذافي من أصول يهودية كما تردد. فالأمر الى هذا الحد لا يمثل نقيصة أو علة. مذكرين بأن إحدى أهم مزايا الإسلام قبوله بالآخر المختلف. وبه شكل وعاءً جامعاً انصهرت فيه اثنيات وشعوب لينبعث منها فيما بعد حضارة اسلامية فذة.
إذاً ان يكون القذافي من أصول يهودية او حتى يهودياً فليست هذه هي المسألة إلا بقدر ما يترتب عليها من خدمات يقدمها للكيان الصهيوني. وهنا فإنا المشهد الأخير يشي بالكثير حين حذر بأن سقوط نظامه سيترتب عليه "تهديداً لأوروبا واسرائيل". ما يؤكد بأن الرجل لعب في أكثر من مكان دور الحارس الأمين للغرب وصنيعته "اسرائيل". والمخفي ستكشفه الأيام لتؤكد بأن ما رشح عن اتصالات بينه وبين هذه الأخيرة كان حقيقة واقعةً. وما طرحه "اسراطين" إلا غطاء من ديماغوجية يفتعلها "العقيد" بخبث ليغلف فيها طروده الملغمة!.
ولكن ماذا عن المشاهد السابقة التي تعود لعقود خلت من حكم "القائد!" تلك التي سرق فيها حياة الشعب الليبي، آماله ومستقبله. لتذهب بطريقة او باخرى رصيداً جديداً لصالح "اسرائيل".
لا يختلف "العقيد" في هذا عن الكثير من الأنظمة العربية. التي خدمت الكيان الصهيوني وكل منها على طريقته. تارة بشكل مباشر، وتارات بشكل غير مباشر.
أما الخدمات المباشرة فالأمثلة عليها شاخصة امامنا من هنا او من هناك. حتى بات هذا الكثير من الأنظمة العربية جزءً من معادلة (الأمن الإسرائيلي)!.
أما الخدمات غير المباشرة فللوقوف عليها نتقفى بوصلة الصراع العربي – الإسرائيلي. وسنجده في الجوهر صراعاً حضارياً بكل ما للكلمة من معنى. وللتدليل على هذا نضرب مثالين من تجربتين متباعدين من حيث الطبيعة والزمن. ولكنهما متقاربتين ريادةً ونبلاً في الهدف.
الأولى: من أيام عبد الناصر. والثانية مع المقاومة في لبنان.
أما الأولى فكانت عام 1955 عندما جاء وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية انطوني ناتينغ الى القاهرة ومنها الى تل أبيب وفيها التقى رئيس وزراء العدو يومها دايفيد بن غوريون ونقل له انطباعاته عن زيارته لمصر قائلاً: "جئتك بنبا جيد. إن عبد الناصر يتعمق في قضية رفع مستوى حياة الشعب المصري ويعتبرها أعلى من الإعداد للحرب مع اسرائيل". فنظر بن غوريون الى تاتينغ سائلاً اياه: "اتعتبر ذلك نبأ جيد؟".
ثم بعد ذلك ما إنفك بن غوريون على وصف عبد الناصر بالرجل "الخطير" والسبب بحسب رأيه "انه يفكر بالصناعة".
أما المثال الثاني فمن انتصار المقاومة التاريخي صيف 2006. وصولاً الى تحقيق توازن الردع مع الجيش الإسرائيلي. أكبر جيوش المنطقة. لكن بيت القصيد هو في ما وراء هذا الإنجاز. وهنا تظهر مبارزة من نوع آخر مع العدو الصهيوني. وهي المبارزة التقنية بكل ما يعنيه التعبير من معنى ودلالات في الإعداد، والتخطيط، والمتابعة، والتنظيم. هذه وغيرها كان وما زال دونها جهدٌ معرفيّ يبحث ويستفيد من علوم العصر في مجالاتها المتنوعة.
ولعل آخر الأمثلة تدليلاً على ما سبق. هو في الإختراق التقني من المقاومة الإسلامية لآلية الإستطلاع الجوي لطيران العدو. وفيه تمكنت من الدخول على موجات بث الصور واستنساخها. هذا ما بات معروفاً بعد ان افصح عنه بالوثائق سيد المقاومة. لكن المخفي أعظم بلا شك.
ذاك وسواه جاء من حزب محاصر بالتعقيدات اللبنانية. لكنه جاد. عاقد العزم على بلوغ أهدافه. فكان له ما أراد. ليس وحسب قوة الردع بل القدرة على نقل المعركة للأرض المحتلة. ظاهرة فريدة وجديدة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي.... فماذا عن الأنظمة العربية التي تمتلك امكانيات أكبر بكثير.. وفسحة اوسع للحركة. او هكذا نفترض.
يبدوا القذافي مثالاً ونموذجاً نافراً للتخريب الحضاري الذي مارسته تلك الانظمة ضد شعوبها وبلدانها.
فعبر طروحاته الملتبسة مثل "الجماهيرية"، "المجالس الشعبية" ضرب بنية الدولة الليبية ومقوماتها.
وبشعاراته الديماغوجية على شاكلة "الزحف الأخضر" تقدم كل ما هو جاهلٌ وتافهٌ على حساب كل ما هو عقلاني أو واعد0وما المشانق التي نصبها قبل عقودخلت في ساحات الجامعات وذهب ضحيتها ألمئات من أبنائها إلا مثالاً من امثلةٍ كثيرة.
وباسم مقولة "الشعب المسلح" جرى سحب السلاح في تقليص متعمد لقدرات الجيش الليبي. ليصبح السلاح فعلياً بيد أزلامه من (الكتائب الأمنية)، وعصابات "اللجان الثورية". والمصير ذاته كان من نصيب ثروات ليبيا. فتحت شعار "السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب" اصبحت السلطة بيد "ملك الملوك!"، والثروة بيد ابنائه وازلامه.
ولمن يريد الوقوف على المزيد من واقع ليبيا فليس عليه إلا بأن يقرأ شعارات القذافي ثم يعكس معانيها.
ليس ما سبق نقلاً عن أي مصدر بل هي شهادة حيث عايشت شخصيأً الواقع الليبي على مدى سنة ونيف من الإقامة في ربوع هذا البلد الشقيق. شاهدنا فيه ما لا يتناسب قط وثروة دولة نفطية غنية. الفقر في كل مكان. تراجع في الخدمات. تخلف في المؤسسات الصحية والتعليمية. هذا الى جانب سوء الإدارة. بل وسرقة (القطاع العام) من ازلام النظام. وبعد ذلك او قبله تعمده اذلال الشعب الليبي احفاد عمر المختار بقبضة أمنية حديدية.
وهكذا وباسم شعارات (الثورة) ارتكب القذافي – على أرض الثورات – كل موبيقاته مسيئاً لمعاني هذه الشعارات ومضامينها الحقيقية. كان من الطبيعي بعدها ترحم الليبيين المخضرمين على الملك والملكية. لذلك لم يفاجئنا الثوار بالعودة لرفع علمها.
أياً كان رأينا بالملكيات فإن الملك السنوسي كان للحق جامعاً للقبائل. وفي ظل عرشه توحدت المقاطعات الليبية الثلاث تحت ما كان يسمى "المملكة الليبية المتحدة". هذا ما فعله الملك "الرجعي" بحسب وصف القذافي له اما هذا الأخير فقد تفنن في تفريق القبائل مثيراً العصبيات فيما بينها سواء بين العربية منها او بين العرب والبربر من جهة أخرى فضلاً عن إثارة النعرات الجهوية. وكل هذا ليظل "القائد"هو اللاعب الأكبر على الساحة.
وها هو الآن يدخل معركته الاخيرة في سبيل البقاء يعزف على أكثر من وتر. إذ سمعنا (داعية القومية العربية!) يحرض الليبيين على عروبتهم باسلوب دنيء بقوله: "العرب لا يحبونكم". "العرب يغارون منكم". وفي الداخل يلعب على موجة تحريض الغرب الليبي على شرقه لذا فقد بات همه الآن هو ضرب معاقل الثوار في (إقليم طرابلس) ليخلق واقعاً يمكّنه من الإفراد بالإقليم المذكور.
ترى بماذا يفترق القذافي عما سواه. أليست هي اللعبة ذاتها في الجوهر التي أخذ بها السادات، ثم مبارك بإثارة النعرات الطائفية – (مسلم – قبطي) – وتجنيد الأصوليين لتفجير الكنائس. أليست هي لعبة ذاتها يلعبها الآن حاكم اليمن، والبحرين، ومجموعات 14 آذار في لبنان!..
ان ما فعلته الأنظمة في سبيل بقائها هو الذي شجع الأمركيين والإسرائيليين على التفكير والعمل على مشروع (الشرق الأوسط الجديد) لتقسيمه على أسس أثنية.
لكن في عصر الثورات ضاقت فرص النجاح أمام هذه المشاريع ليحق فيها القول:
"تخططون وتسخر الأقدار".
(*) كاتب من لبنان