ارشيف من :آراء وتحليلات
الثوار الليبيون: حربان في وقت واحد!
كانت الثورة الليبية تقاتل عدواً واحداً هو نظام القذافي فأصبحت، مع التدخل العسكري من قبل التحالف الغربي ـ العربي، في وضع يلزمها، إذا كانت حريصة على أن تظل وفية لطموحها التحرري، أن تقاتل عدوين لا يقل أحدهما شراسة عن الآخر.
فتبعاً للترسيمة الظاهرية لمجريات الأحداث، هنالك الآن صراع بين طرفين : نظام القذافي من جهة، والتحالف الغربي ـ العربي والثورة الليبية من جهة ثانية.
والتصور السائد هو أن قوات التحالف ستقضي على نظام القذافي خلال أيام أو أسابيع، ثم تسلم السلطة إلى المجلس الوطني الليبي، وتعود من حيث أتت مكتفية بكلمة "شكراً"، وستكلل رأسها بالغار بعد أن تكون قد قامت بدورها "أمام التاريخ"، على ما ورد في كلام للرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي.
لكن ذلك لا يعدو كونه تصوراً بائساً يجهل أو يتجاهل حقيقة الدوافع والأهداف الكامنة وراء التدخل الغربي. فسواء سمي هذا التدخل صليبياً أم لا، وسواء تم بطلب من العرب أم بغير طلب، وسواء تم تحت شعار حماية الشعب الليبي أم تحت أي شعار آخر، فإن مئات الطائرات والصواريخ والأساطيل التي تضرب ليبيا اليوم لا تفعل، تحديداً، غير ما قاله ساركوزي في لحظة سهو أو صلف: الدور الاستعماري التاريخي.
إنه، في ما يخص العالم العربي والإسلامي، الدور نفسه الذي لعبته فرنسا في الجزائر عندما قتلت ثلث سكانها لغرض استعماري بحث، يوم لم تكن القريحة الاستعمارية قد تفتقت بعد عن فكرة حماية المدنيين من هذا الدكتاتور أو ذاك، كوسيلة فضلى لتمرير الهدف الاستعماري.
والدور نفسه الذي يلعبه الغرب وربيبته الصهيونية في إبادة وتشريد الشعب الفلسطيني... وفي العدوان الثلاثي على مصر، وفي الحرب على أفغانستان والعراق ولبنان...
مع فارق مهم للأسف هو أن جنون العقيد القذافي قد منح الدوائر الاستعمارية الغربية فرصة ذهبية للظهور بمظهر ناصر المظلومين والمدافع عن حقوق الشعوب المضطهدة.
آخر تصريحات الجنرال الأميركي مايك مولن تؤكد بأن هدف الحرب ليس إقصاء العقيد القذافي. وبأن النتيجة غير مؤكدة، وقد تنتهي إلى طريق مسدود.
ووزير الخارجية البريطاني يؤكد، من جهته، أن العملية العسكرية في ليبيا صعبة وخطيرة. وهنالك خصوصاً أن ما يجري في ليبيا هو قصف تحت القصف: قوات التحالف تقصف كتائب القذافي، وكتائب القذافي تقصف الثوار الليبيين. والتقارير تؤكد أن أكبر المذابح والإبادات التي تعرض لها الشعب الليبي خلال ثورته قد نفذها نظام القذافي بالتوازي مع الهجوم الذي تشنه على قواته مئات الطائرات والسفن والصواريخ الغربية.
وهنالك أيضاً تقارير غربية تعرض بين الفينة والفيينة جردات بالأسلحة والصواريخ والمضادات التي تمتلكها قوات القذافي، في لعبة مكشوفة للفت من عضد الثوار وترهيبهم بهدف ابتزازهم وإخضاعهم لأنواع من الشروط التي تفرغ ثورتهم من مضمونها.
كل شيء يجري في ظل معادلة يشتم منها، بعيداً عن مزاعم حماية الشعب الليبي أو إسقاط نظام القذافي، أن المقصود هو في الحقيقة إدارة الحرب بين النظام والثوار لدفعها باتجاه حرب أهلية طويلة الأمد، على ما توقعته وزيرة الخارجية الأميركية، أو نحو الديموقراطية بالمعنى الأميركي الذي يضمن تحويل ليبيا المتحررة من قبضة القذافي إلى جمهورية موز.
إنها إدارة للحرب، إذ رغم كل الكلام الغربي عن ضرورة تنحي القذافي لم يمنع من حصوله على السلاح والمرتزقة من مصادر في مقدمتها بلدان غربية.
أحد المتكلمين ـ من إحدى العواصم الغربية ـ باسم الثورة الليبية، توقع انهيار نظام القذافي خلال ساعات نظراً، بالحرف الواحد، لـ "ضخامة" القوة الضاربة التي تمتلكها قوات التحالف. وها هم المسؤولون الغربيون يقولون بالتلميح وبالتصريح عن الهجمة الحالية بأنها مرحلة أولى من عدة مراحل، ويتكلمون عن الصعوبات وعن مساحة ليبيا الشاسعة واستحالة مراقبتها، وخصوصاً عن "التكلفة" المادية، أي عن الثمن الذي ينبغي للثوار دفعه لكي تتمكن قوات التحالف من مواصلة العمليات الحربية ضد قوات القذافي.
وما الذي يمكن لهذا الثمن أن يكون غير تسليم مفاتيح ليبيا لقوات التحالف؟ والحقيقة أن قوات التحالف المهتمة بتسلم المفاتيح لا يهمها أن تستلمها من الثوار أو من العقيد القذافي، وإلا فما الذي يعنيه كلام مولين عن عدم إقصاء القذافي، إن لم يكن عرضاً صريحاً بالاستعداد للتفاوض معه حول ترتيب مناسب للوضع الليبي؟
وما الذي تعنيه كل هذه العربدة العسكرية فوق ليبيا طالما أنها لم تمنع قوات القذافي من الاستمرار، بل حتى من تصعيد الهجوم على مصراتة وبنغازي وغيرهما من المدن والمناطق الغربية؟
وبالتوازي مع هذا الرهان الغربي المزدوج على الفريقين المتصارعين، فإن الغرب هو حتى الآن أكبر الرابحين. فمن مصلحته أن يلقى أكبر عدد ممكن من القذائف على ليبيا، وأن تستمر الحرب لأطول فترة ممكنة. لأن أموال ليبيا والعرب جاهزة لدفع تكاليف الحرب، طالما أن العرب ساهموا في باريس باتخاذ قرار الحرب!
والشركات الغربية جاهزة للبدء، عندما تضع الحرب أوزارها، أياً كان المنتصر، للاستثمار المربح في إعادة إعمار ليبيا. وكل هذا يضع الثورة الليبية أمام المهمة الصعبة: خوض حربين في وقت واحد: ضد قوات القذافي وقوات التحالف.