ارشيف من :أخبار لبنانية
"إسرائيل" أمام الثورات العربية
باغتت الثورات العربية القيادة الإسرائيلية، في توقيتها واتساعها والدول التي اندلعت فيها. ولما زالت الدهشة أعقبتها الصدمة والخوف من عالم عربي يولد تحظى فيه الشعوب العربية بقدر أوسع من المشاركة في صناعة القرار السياسي.
فسارعت حكومة نتنياهو ومراكز التفكير الإسرائيلي تستعرض البدائل لمواجهة بيئة جديدة ستكون ضاغطة على إسرائيل.
ومن أجل تحليل الموقف الإسرائيلي من الثورات العربية ننشر ورقتين،الأولى لوليد عبد الحي عن "إسرائيل: حيرة أمام الثورات العربية المعاصرة"، والثانية لفراس أبوهلال عن "الموقف الإسرائيلي من الانتفاضة العربية الكبرى".
وقد تكون نظرية ليون فيستنغر حول عدم الاتساق المعرفي، والتي سبق للباحث الإسرائيلي يهودا بن مائير أن طبّقها على السلوك السياسي الإسرائيلي، هي الأكثر قدرة على تفسير الموقف الصهيوني من الثورات العربية المعاصرة.
وتقوم نظرية فيستنغر على فكرة أساسية هي أن الفرد يميل للتحايل المعرفي إذا تناقض الواقع مع مكونات المنظومة المعرفية التي يعتنقها، بأن يقوم " بصناعة " تفسير للظاهرة يتسق مع نظريته.
وعند نقل هذه النظرية للثورات العربية المعاصرة، نجد أن الفكر الصهيوني من خلال ما كتبه أغلب الباحثين الإسرائيليين في مراكز دراساتهم أو التحليلات الصحفية والتلفزيونية أو على مواقع الانترنت، كان مستبعدا حدوث الثورات أولا، ومستبعدا انتشار هذه الثورات ثانيا، ومشيرا إلى أن الحركات الإسلامية وإيران هي التي تقف وراء هذه الثورات (بعد حدوثها)، مستفيدة من اضطهاد سياسي وفقر اقتصادي ثالثا.
ومن خلال تتبعي بشكل وثيق لما ينتجه الكتاب الإسرائيليون، تبين لي بشكل تام بأن تقديرات هؤلاء الباحثين وتقديرات المخابرات الإسرائيلية عند بداية الاضطرابات قامت على فرضية راسخة هي أن النظام المصري قادر على البقاء وتجاوز الأزمة. ففي اليوم الذي بدأت فيه المظاهرات في مصر كان رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أفيف كوشافي(Aviv Kochavi ) يخبر لجنة الدفاع والشؤون الخارجية في الكنيست الإسرائيلي بأن "حكومة الرئيس مبارك ليست عرضة للتهديد، وأن المظاهرات تحت السيطرة، وليس لدينا شكوك في استقرار النظام"، وعندما راجعه عضو الكنيست أريه إلداد، من حزب الاتحاد الوطني، بعد أيام، قال: "من الصعب التنبؤ بمثل هذه الأحداث"، ويبدو أن الإسرائيليين نقلوا هذا التقدير إلى الولايات المتحدة التي تحدثت وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون في بداية الثورة عن "استقرار النظام المصري".
ويبدو أن الفكر الصهيوني كان أسير صورة رسمها للمظاهرات العربية السابقة وقدرة الأنظمة العربية في الغالب على كبحها، دون إدراك عمق التراكمات المتمثلة في التغيرات التي أصابت المجتمع العربي خلال الفترة من 1973 إلى الآن، (وهي إشكالية يبدو أن الكثير منا أيضا لم يتمكن من تلمسها بشكل دقيق).
وأوغل الفكر الصهيوني في عدم اتساقه المعرفي في المرحلة الثانية من الثورات العربية، إذ توقعت الاستخبارات الإسرائيلية وبعض مراكز الأبحاث مع بداية الأزمة أن الجيش المصري سيتولى الحكم ولن يكون هناك تغيير دراماتيكي في السلطة، واتفق اغلب الباحثين مع التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية بأن الأمر سيؤول إلى عمر سليمان، لكن الجيش بدأ ينحاز إلى مطالب شباب الثورة بعد أن حسمت معركة الشارع، وقد تبين ذلك من قول السفير الإسرائيلي السابق في مصر زيفي مازل(Zvi Mazel ) في بداية الثورة، بأن العالم العربي في " شبه ثورة، وأن المصريين يرجمون القارب لكنهم لن يغرقوه"، أي أن ما يجري هو تغير سطحي، وأن الأمر لن يصل لتغير جذري في بنية السلطة.
وعند الانتقال إلى المستوى الخارجي لسلوك النظام المصري الجديد بشكل خاص والنظم العربية الجديدة بشكل عام، نجد بول ريفين (paul rivlin)، من مركز موشي دايان للدراسات الشرق الأوسطية والإفريقية، يرى أن أي نظام سياسي جديد في مصر سيكون معني بالوضع الاقتصادي ومتابعة قضايا الفساد أولا قبل العناية بالقضايا السياسية الخارجية على المدى القصير وربما المتوسط، وهو ما يعني أن إسرائيل ستكون قادرة على استثمار هذه الفترة الفاصلة لصالحها.
ويعود الخوف الصهيوني بشكل رئيسي إلى إدراك تغير وزن الشارع العربي في القرار السياسي الرسمي العربي، فقد كان هذا القرار يتشكل بفعل عوامل عديدة أقلها أهمية هو رد الفعل الشعبي أو موقف الرأي العام العربي، غير أن الثورات الأخيرة جعلت موقف الشارع أكثر وزنا في حسابات الأنظمة، وترافق مع ذلك قلق الحكام العرب من تخلي أمريكا عنهم على غرار التخلي عن بن علي ومبارك الأمر الذي سيجعل هؤلاء الحكام أكثر استجابة لتطلعات شعوبهم، وكما يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف Tom Segev أن سلام إسرائيل كان مع " أشخاص حكام" وليس مع الشعوب. ولما كانت إسرائيل تدرك أن موقف الرأي العام العربي أبعد كثيرا عن التطابق مع رأي الأنظمة، فإنها بدأت تتحسس الآثار المحتملة على تسارع العلاقات العربية الإسرائيلية، بل احتمالات تراجعها، أي أن وتيرة التطبيع ستتراجع، كما أن أية علاقة مع إسرائيل ستكون محفوفة بالمخاطر في المدى الزمني المنظور.
وذهب بعض الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها( شاه إيران، بن علي، مبارك، وإبعاد الحريري عن رئاسة الوزراء اللبنانية) قد يتكرر مع إسرائيل إذا كان هناك ضغط على الولايات المتحدة، وهو ما دعا الاستراتيجي الإسرائيلي رون بن يشاي Ron Ben –Yishai ليقول في يديعوت احرنوت أن " على إسرائيل أن تصبح أكثر اعتمادا على ذاتها لأن هناك دليلا متزايدا على أن بعض الأمريكيين يرون إسرائيل كعبء"، وهو ما سبق وأن عبّر عنه الخبير الاستراتيجي الأمريكي أنتوني كوردسمان في نيويورك تايمز في الثاني من حزيران/ يونيو 2010.
وتعمّق الخوف الإسرائيلي كما رأى ألوف بين(Aluf Benn) في هآرتس ببعض المظاهر الرمزية مثل تهديد حزب الله باحتلال الجليل، أو تعبير حماس عن ثقة أكبر بالمستقبل، وعبور السفن الإيرانية قناة السويس متجهة إلى الموانئ السورية.
ويشير "ألوف بن" إلى التداعي السريع وانتقال الثورة من منطقة لأخرى، إذ أن انتقال الثورة من بلد عربي لآخر بهذه السرعة، وبقدر من الإيقاع المتشابه، يؤكد من وجهة نظر بعض الباحثين الإسرائيليين أن فكرة العروبة بالمعنى الثقافي والإيديولوجي ما تزال حية، وأن انتقال نموذج التغيير الناجح لم ينتقل إلا للجوار العربي دون الإفريقي أو الأسيوي( تشاد أو النيجر أو مالي أو السنغال أو إيران..الخ).
وثمة قلق إسرائيلي آخر يتمثل في احتمال استفادة الإسلاميين من التغيير لأنهم الأكثر تنظيما وخبرة في العلاقة مع المجتمع بفعل ملكيتهم للجمعيات والمستشفيات والنوادي، ثم إن أغلب استطلاعات الرأي تعطيهم الوزن الأكبر قياسا لغيرهم، لكن الشعب لن يقبل(من وجهة نظر إسرائيلية) تسليم الحكم لديكتاتورية دينية جديدة، لاسيما أن الجيل الجديد الذي يمثل بوصلة الثورة هم أقل تدينا بدليل(طبقا للتصور الصهيوني) عدم ظهور إسرائيل بشكل بارز في الثورة.
وهنا تبرز إشكالية الفكر الاستراتيجي الصهيوني، فمن ناحية كانت آلة الدعاية الصهيونية تقوم على فرضية أن مشكلة إسرائيل مع الدول العربية هي في طبيعة النظم الديكتاتورية في هذه الدول، غير أن الثورات الديمقراطية العربية المعاصرة جعلت إسرائيل أكثر قلقا من احتمالات دمقرطة العالم العربي، وتبين لها أن أنسب الأوضاع لها هي في استمرار النظم الديكتاتورية، كما أن اتساع قاعدة الديمقراطية العربية سيفقد إسرائيل شعار أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
وشكل استمرار معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية نقطة التوافق الأكبر بين الباحثين الإسرائيليين، معتمدين في تفسيرهم على نقطة مركزية هي عمق التبعية الاقتصادية والعسكرية المصرية للولايات المتحدة، واعتبار ذلك ضمانا لعدم قدرة مصر على فك هذه التبعية في مدى زمني متوسط على أقل تقدير.
تداعيات الثورة على التوازنات الإسرائيلية؟
ما أن بدأ غبار الصراع في ميدان التحرير في القاهرة ينجلي تدريجيا، حتى بدأ الكتاب الإسرائيليون يشيرون إلى أن غياب الرئيس مبارك يعني فقدان ما سماه بنيامين بن اليعازر الرصيد الاستراتيجي لإسرائيل لأنه كان يمثل الكابح لحركة حماس، وقوة قادرة على التضييق على الدبلوماسية الإيرانية، إلى جانب دوره كوسيط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
كذلك ربط المفكرون الإسرائيليون بين زلزال الثورات العربية وبين الخلل الاستراتيجي الذي أصاب المنطقة بعد الثورة الإيرانية عام 1979، ثم تنامي الحركات الشعبية المسلحة لاسيما حزب الله، ثم انتكاس العلاقات الإسرائيلية التركية، وأخيرا التململ الأوروبي من "الرعونة" الإسرائيلية في مجال التسوية السياسية من ناحية، وآثار الأزمة الاقتصادية العالمية على عدد من الدول أهمها الولايات المتحدة من ناحية ثانية، وتكاد تكون زاوية الرأي في صحيفة هآرتس الأكثر تمثيلا لهذا التوجه.
أما على المستوى الإسرائيلي المباشر، فقد تمحورت المناقشات الصهيونية حول فترة ما بعد الثورات العربية في ثلاثة أبعاد:
1. البعد الاقتصادي: يرى الباحثون الاقتصاديون الإسرائيليون أن خروج مصر من الصراع العربي الصهيوني منذ 1977 قلّص الإنفاق الدفاعي الإسرائيلي من 24% من إجمالي الناتج المحلي في ثمانينات القرن الماضي إلى 7% حاليا، وهو ما عبرت عنه صحيفة ماركر(Marker) الإسرائيلية، وترى الصحيفة أن هذه الثورات قد تغير المناخ السياسي للمنطقة بشكل قد يقود إلى " كارثة اقتصادية" لأن إسرائيل ستعيد توزيع مواردها بين الدفاع والاقتصاد السلمي، واعتبرت (يديعوت أحرنوت) أن ذلك سيؤدي إلى "إعادة هيكلية الموازنة الإسرائيلية" بشكل كامل، وهو ما سينعكس على مستوى الرفاه العام للمجتمع وقدرة الدولة على تسوية المشكلات الاجتماعية.
2. البعد السياسي، وتتعدد زواياه: فمن جانب يسعى بعض الكتاب الصهاينة إلى التأكيد على أن "الاضطرابات" في العالم العربي تعزز الفكرة القائلة بأن القضية الفلسطينية ليست هي السبب في عدم الاستقرار في الشرق الأوسط بل الاستبداد السياسي والفقر، الأمر الذي يستدعي أن تتوجه الدبلوماسية الصهيونية إلى تكريس هذه الفكرة، لاسيما أن القضية الفلسطينية من وجهة النظر هذه لم تكن بارزة في شعارات هذه الثورات كما رأت افتتاحيات بعض الصحف مثل (الجروزلم بوست).
غير أن الثورات طرحت بعض الاحتمالات التي تاه الفكر الصهيوني في ملابساتها، واتضح ذلك في قدر كبير من عدم التوافق حولها مثل:
* تراكم الضغوط الدبلوماسية على إسرائيل للتعجيل بالتسوية مع كل من سوريا والفلسطينيين، وهو الرأي الذي يتبناه العسكريون ودوائر الاستخبارات الصهيونية، إذ أن الثورات العربية ستجعل الأنظمة السياسية العربية أقل خضوعا للمطالب الصهيونية بفعل تنامي وزن الشارع العربي في القرار السياسي، وهو أمر قد يخلق حالة من الاضطراب الواسع في المنطقة بشكل يؤثر على الولايات المتحدة وأوروبا في ظل أوضاع اقتصادية دولية خانقة، ويرى الدكتور ديفيد بوكاي( David Bukai) من جامعة حيفا أن ما حدث يشير إلى " مرحلة عنف وعدم استقرار ستعم الشرق الأوسط"، وهو أمر قد يدفع الولايات المتحدة وأوروبا للضغط على إسرائيل للتجاوب مع الجهود الدولية لتسوية الصراع على أساس حل الدولتين. ويرى إيلان مزراحي(Ilan Mizrahi)، نائب رئيس الموساد السابق والمستشار الأمني السابق لرئيس الوزراء السابق أولمرت، أن" التسوية مع سوريا ستساعد على إضعاف إيران من خلال فك التحالف بين الطرفين"، وبالتالي إضعاف القوى الدينية في المنطقة، مع ضرورة التنبه إلى أن إسرائيل فقدت تركيا بعد إيران، وهي الآن قلقة من فقدان الدور المصري ككابح لحركة حماس وإيران، كما أشرنا سابقا.
غير أن تيارا آخر يقوده بنيامين نتنياهو يرى أن الثورات الديمقراطية سيخطفها الإسلاميون، مما يجعل إسرائيل أكثر حذرا في موضوعات التسوية، لأن المنطقة مقبلة على حالة من عدم الاستقرار، وهو ما أكده نتنياهو في خطابه أمام رجال القانون في الثاني من فبراير/شباط، ويساند هذا الرأي تصور لدى بعض الكتاب الإسرائيليين أن علينا أن ننتظر لعل موجة "الدمقرطة" العربية تطال سوريا وإيران مما يفتح مجالا أوسع للدبلوماسية الإسرائيلية ويجعل الضغط علي..
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
فسارعت حكومة نتنياهو ومراكز التفكير الإسرائيلي تستعرض البدائل لمواجهة بيئة جديدة ستكون ضاغطة على إسرائيل.
ومن أجل تحليل الموقف الإسرائيلي من الثورات العربية ننشر ورقتين،الأولى لوليد عبد الحي عن "إسرائيل: حيرة أمام الثورات العربية المعاصرة"، والثانية لفراس أبوهلال عن "الموقف الإسرائيلي من الانتفاضة العربية الكبرى".
إسرائيل: حيرة أمام الثورات العربية المعاصرة
إعداد: وليد عبد الحي ـ خبير في الدراسات المستقبلية.
تشير الأدبيات السياسية الصهيونية في نظرتها التاريخية إلى الحركات السياسية العربية إلى نوع من التعالي وطغيان فكرة القصور المجتمعي العربي عن الفعل الإيجابي. ويمكن اعتبار كتاب العقل العربي لرفائيل باتاي المرجع المثالي في هذا الجانب. فهذه الحركات العربية في منظور الفكر الصهيوني ليست إلا حركات إما "إرهابية" أو "رجعية" أو " يسارية متطرفة" أو "ليبرالية " ضيقة، ويطوقها مجتمع عربي متخلف، وتحركها قوى خارجية ( السوفييت في السابق، وإيران في الوقت الراهن)، والمجتمع العربي لا يستطيع أن يكرر نموذج ثورات أوروبا الشرقية نظرا للتباينات العرقية والمذهبية والقبلية التي تمزق هذه المجتمعات وتحول دون قدرتها على بناء حركة مجتمعية واسعة تعبر حدود هذه الثقافات الفرعية.إعداد: وليد عبد الحي ـ خبير في الدراسات المستقبلية.
وقد تكون نظرية ليون فيستنغر حول عدم الاتساق المعرفي، والتي سبق للباحث الإسرائيلي يهودا بن مائير أن طبّقها على السلوك السياسي الإسرائيلي، هي الأكثر قدرة على تفسير الموقف الصهيوني من الثورات العربية المعاصرة.
وتقوم نظرية فيستنغر على فكرة أساسية هي أن الفرد يميل للتحايل المعرفي إذا تناقض الواقع مع مكونات المنظومة المعرفية التي يعتنقها، بأن يقوم " بصناعة " تفسير للظاهرة يتسق مع نظريته.
وعند نقل هذه النظرية للثورات العربية المعاصرة، نجد أن الفكر الصهيوني من خلال ما كتبه أغلب الباحثين الإسرائيليين في مراكز دراساتهم أو التحليلات الصحفية والتلفزيونية أو على مواقع الانترنت، كان مستبعدا حدوث الثورات أولا، ومستبعدا انتشار هذه الثورات ثانيا، ومشيرا إلى أن الحركات الإسلامية وإيران هي التي تقف وراء هذه الثورات (بعد حدوثها)، مستفيدة من اضطهاد سياسي وفقر اقتصادي ثالثا.
ومن خلال تتبعي بشكل وثيق لما ينتجه الكتاب الإسرائيليون، تبين لي بشكل تام بأن تقديرات هؤلاء الباحثين وتقديرات المخابرات الإسرائيلية عند بداية الاضطرابات قامت على فرضية راسخة هي أن النظام المصري قادر على البقاء وتجاوز الأزمة. ففي اليوم الذي بدأت فيه المظاهرات في مصر كان رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أفيف كوشافي(Aviv Kochavi ) يخبر لجنة الدفاع والشؤون الخارجية في الكنيست الإسرائيلي بأن "حكومة الرئيس مبارك ليست عرضة للتهديد، وأن المظاهرات تحت السيطرة، وليس لدينا شكوك في استقرار النظام"، وعندما راجعه عضو الكنيست أريه إلداد، من حزب الاتحاد الوطني، بعد أيام، قال: "من الصعب التنبؤ بمثل هذه الأحداث"، ويبدو أن الإسرائيليين نقلوا هذا التقدير إلى الولايات المتحدة التي تحدثت وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون في بداية الثورة عن "استقرار النظام المصري".
ويبدو أن الفكر الصهيوني كان أسير صورة رسمها للمظاهرات العربية السابقة وقدرة الأنظمة العربية في الغالب على كبحها، دون إدراك عمق التراكمات المتمثلة في التغيرات التي أصابت المجتمع العربي خلال الفترة من 1973 إلى الآن، (وهي إشكالية يبدو أن الكثير منا أيضا لم يتمكن من تلمسها بشكل دقيق).
وأوغل الفكر الصهيوني في عدم اتساقه المعرفي في المرحلة الثانية من الثورات العربية، إذ توقعت الاستخبارات الإسرائيلية وبعض مراكز الأبحاث مع بداية الأزمة أن الجيش المصري سيتولى الحكم ولن يكون هناك تغيير دراماتيكي في السلطة، واتفق اغلب الباحثين مع التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية بأن الأمر سيؤول إلى عمر سليمان، لكن الجيش بدأ ينحاز إلى مطالب شباب الثورة بعد أن حسمت معركة الشارع، وقد تبين ذلك من قول السفير الإسرائيلي السابق في مصر زيفي مازل(Zvi Mazel ) في بداية الثورة، بأن العالم العربي في " شبه ثورة، وأن المصريين يرجمون القارب لكنهم لن يغرقوه"، أي أن ما يجري هو تغير سطحي، وأن الأمر لن يصل لتغير جذري في بنية السلطة.
وعند الانتقال إلى المستوى الخارجي لسلوك النظام المصري الجديد بشكل خاص والنظم العربية الجديدة بشكل عام، نجد بول ريفين (paul rivlin)، من مركز موشي دايان للدراسات الشرق الأوسطية والإفريقية، يرى أن أي نظام سياسي جديد في مصر سيكون معني بالوضع الاقتصادي ومتابعة قضايا الفساد أولا قبل العناية بالقضايا السياسية الخارجية على المدى القصير وربما المتوسط، وهو ما يعني أن إسرائيل ستكون قادرة على استثمار هذه الفترة الفاصلة لصالحها.
مصادر القلق الصهيوني
من الطبيعي أن لا ينظر الخبراء والمسئولون الإسرائيليون إلى كل الثورات العربية بالقدر ذاته من القلق، إذ بدا بعض القلق مما جرى في تونس، ولكن ذلك تحول لنوع من الخوف بعد نجاح الثورة الشعبية في مصر.ويعود الخوف الصهيوني بشكل رئيسي إلى إدراك تغير وزن الشارع العربي في القرار السياسي الرسمي العربي، فقد كان هذا القرار يتشكل بفعل عوامل عديدة أقلها أهمية هو رد الفعل الشعبي أو موقف الرأي العام العربي، غير أن الثورات الأخيرة جعلت موقف الشارع أكثر وزنا في حسابات الأنظمة، وترافق مع ذلك قلق الحكام العرب من تخلي أمريكا عنهم على غرار التخلي عن بن علي ومبارك الأمر الذي سيجعل هؤلاء الحكام أكثر استجابة لتطلعات شعوبهم، وكما يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف Tom Segev أن سلام إسرائيل كان مع " أشخاص حكام" وليس مع الشعوب. ولما كانت إسرائيل تدرك أن موقف الرأي العام العربي أبعد كثيرا عن التطابق مع رأي الأنظمة، فإنها بدأت تتحسس الآثار المحتملة على تسارع العلاقات العربية الإسرائيلية، بل احتمالات تراجعها، أي أن وتيرة التطبيع ستتراجع، كما أن أية علاقة مع إسرائيل ستكون محفوفة بالمخاطر في المدى الزمني المنظور.
وذهب بعض الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها( شاه إيران، بن علي، مبارك، وإبعاد الحريري عن رئاسة الوزراء اللبنانية) قد يتكرر مع إسرائيل إذا كان هناك ضغط على الولايات المتحدة، وهو ما دعا الاستراتيجي الإسرائيلي رون بن يشاي Ron Ben –Yishai ليقول في يديعوت احرنوت أن " على إسرائيل أن تصبح أكثر اعتمادا على ذاتها لأن هناك دليلا متزايدا على أن بعض الأمريكيين يرون إسرائيل كعبء"، وهو ما سبق وأن عبّر عنه الخبير الاستراتيجي الأمريكي أنتوني كوردسمان في نيويورك تايمز في الثاني من حزيران/ يونيو 2010.
وتعمّق الخوف الإسرائيلي كما رأى ألوف بين(Aluf Benn) في هآرتس ببعض المظاهر الرمزية مثل تهديد حزب الله باحتلال الجليل، أو تعبير حماس عن ثقة أكبر بالمستقبل، وعبور السفن الإيرانية قناة السويس متجهة إلى الموانئ السورية.
ويشير "ألوف بن" إلى التداعي السريع وانتقال الثورة من منطقة لأخرى، إذ أن انتقال الثورة من بلد عربي لآخر بهذه السرعة، وبقدر من الإيقاع المتشابه، يؤكد من وجهة نظر بعض الباحثين الإسرائيليين أن فكرة العروبة بالمعنى الثقافي والإيديولوجي ما تزال حية، وأن انتقال نموذج التغيير الناجح لم ينتقل إلا للجوار العربي دون الإفريقي أو الأسيوي( تشاد أو النيجر أو مالي أو السنغال أو إيران..الخ).
وثمة قلق إسرائيلي آخر يتمثل في احتمال استفادة الإسلاميين من التغيير لأنهم الأكثر تنظيما وخبرة في العلاقة مع المجتمع بفعل ملكيتهم للجمعيات والمستشفيات والنوادي، ثم إن أغلب استطلاعات الرأي تعطيهم الوزن الأكبر قياسا لغيرهم، لكن الشعب لن يقبل(من وجهة نظر إسرائيلية) تسليم الحكم لديكتاتورية دينية جديدة، لاسيما أن الجيل الجديد الذي يمثل بوصلة الثورة هم أقل تدينا بدليل(طبقا للتصور الصهيوني) عدم ظهور إسرائيل بشكل بارز في الثورة.
وهنا تبرز إشكالية الفكر الاستراتيجي الصهيوني، فمن ناحية كانت آلة الدعاية الصهيونية تقوم على فرضية أن مشكلة إسرائيل مع الدول العربية هي في طبيعة النظم الديكتاتورية في هذه الدول، غير أن الثورات الديمقراطية العربية المعاصرة جعلت إسرائيل أكثر قلقا من احتمالات دمقرطة العالم العربي، وتبين لها أن أنسب الأوضاع لها هي في استمرار النظم الديكتاتورية، كما أن اتساع قاعدة الديمقراطية العربية سيفقد إسرائيل شعار أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
وشكل استمرار معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية نقطة التوافق الأكبر بين الباحثين الإسرائيليين، معتمدين في تفسيرهم على نقطة مركزية هي عمق التبعية الاقتصادية والعسكرية المصرية للولايات المتحدة، واعتبار ذلك ضمانا لعدم قدرة مصر على فك هذه التبعية في مدى زمني متوسط على أقل تقدير.
تداعيات الثورة على التوازنات الإسرائيلية؟
ما أن بدأ غبار الصراع في ميدان التحرير في القاهرة ينجلي تدريجيا، حتى بدأ الكتاب الإسرائيليون يشيرون إلى أن غياب الرئيس مبارك يعني فقدان ما سماه بنيامين بن اليعازر الرصيد الاستراتيجي لإسرائيل لأنه كان يمثل الكابح لحركة حماس، وقوة قادرة على التضييق على الدبلوماسية الإيرانية، إلى جانب دوره كوسيط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
كذلك ربط المفكرون الإسرائيليون بين زلزال الثورات العربية وبين الخلل الاستراتيجي الذي أصاب المنطقة بعد الثورة الإيرانية عام 1979، ثم تنامي الحركات الشعبية المسلحة لاسيما حزب الله، ثم انتكاس العلاقات الإسرائيلية التركية، وأخيرا التململ الأوروبي من "الرعونة" الإسرائيلية في مجال التسوية السياسية من ناحية، وآثار الأزمة الاقتصادية العالمية على عدد من الدول أهمها الولايات المتحدة من ناحية ثانية، وتكاد تكون زاوية الرأي في صحيفة هآرتس الأكثر تمثيلا لهذا التوجه.
أما على المستوى الإسرائيلي المباشر، فقد تمحورت المناقشات الصهيونية حول فترة ما بعد الثورات العربية في ثلاثة أبعاد:
1. البعد الاقتصادي: يرى الباحثون الاقتصاديون الإسرائيليون أن خروج مصر من الصراع العربي الصهيوني منذ 1977 قلّص الإنفاق الدفاعي الإسرائيلي من 24% من إجمالي الناتج المحلي في ثمانينات القرن الماضي إلى 7% حاليا، وهو ما عبرت عنه صحيفة ماركر(Marker) الإسرائيلية، وترى الصحيفة أن هذه الثورات قد تغير المناخ السياسي للمنطقة بشكل قد يقود إلى " كارثة اقتصادية" لأن إسرائيل ستعيد توزيع مواردها بين الدفاع والاقتصاد السلمي، واعتبرت (يديعوت أحرنوت) أن ذلك سيؤدي إلى "إعادة هيكلية الموازنة الإسرائيلية" بشكل كامل، وهو ما سينعكس على مستوى الرفاه العام للمجتمع وقدرة الدولة على تسوية المشكلات الاجتماعية.
2. البعد السياسي، وتتعدد زواياه: فمن جانب يسعى بعض الكتاب الصهاينة إلى التأكيد على أن "الاضطرابات" في العالم العربي تعزز الفكرة القائلة بأن القضية الفلسطينية ليست هي السبب في عدم الاستقرار في الشرق الأوسط بل الاستبداد السياسي والفقر، الأمر الذي يستدعي أن تتوجه الدبلوماسية الصهيونية إلى تكريس هذه الفكرة، لاسيما أن القضية الفلسطينية من وجهة النظر هذه لم تكن بارزة في شعارات هذه الثورات كما رأت افتتاحيات بعض الصحف مثل (الجروزلم بوست).
غير أن الثورات طرحت بعض الاحتمالات التي تاه الفكر الصهيوني في ملابساتها، واتضح ذلك في قدر كبير من عدم التوافق حولها مثل:
* تراكم الضغوط الدبلوماسية على إسرائيل للتعجيل بالتسوية مع كل من سوريا والفلسطينيين، وهو الرأي الذي يتبناه العسكريون ودوائر الاستخبارات الصهيونية، إذ أن الثورات العربية ستجعل الأنظمة السياسية العربية أقل خضوعا للمطالب الصهيونية بفعل تنامي وزن الشارع العربي في القرار السياسي، وهو أمر قد يخلق حالة من الاضطراب الواسع في المنطقة بشكل يؤثر على الولايات المتحدة وأوروبا في ظل أوضاع اقتصادية دولية خانقة، ويرى الدكتور ديفيد بوكاي( David Bukai) من جامعة حيفا أن ما حدث يشير إلى " مرحلة عنف وعدم استقرار ستعم الشرق الأوسط"، وهو أمر قد يدفع الولايات المتحدة وأوروبا للضغط على إسرائيل للتجاوب مع الجهود الدولية لتسوية الصراع على أساس حل الدولتين. ويرى إيلان مزراحي(Ilan Mizrahi)، نائب رئيس الموساد السابق والمستشار الأمني السابق لرئيس الوزراء السابق أولمرت، أن" التسوية مع سوريا ستساعد على إضعاف إيران من خلال فك التحالف بين الطرفين"، وبالتالي إضعاف القوى الدينية في المنطقة، مع ضرورة التنبه إلى أن إسرائيل فقدت تركيا بعد إيران، وهي الآن قلقة من فقدان الدور المصري ككابح لحركة حماس وإيران، كما أشرنا سابقا.
غير أن تيارا آخر يقوده بنيامين نتنياهو يرى أن الثورات الديمقراطية سيخطفها الإسلاميون، مما يجعل إسرائيل أكثر حذرا في موضوعات التسوية، لأن المنطقة مقبلة على حالة من عدم الاستقرار، وهو ما أكده نتنياهو في خطابه أمام رجال القانون في الثاني من فبراير/شباط، ويساند هذا الرأي تصور لدى بعض الكتاب الإسرائيليين أن علينا أن ننتظر لعل موجة "الدمقرطة" العربية تطال سوريا وإيران مما يفتح مجالا أوسع للدبلوماسية الإسرائيلية ويجعل الضغط علي..
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات