ارشيف من :آراء وتحليلات
روبرت غيتس يخلط الأوراق في بغداد!
يبدو ان زيارة وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس الأخيرة الى بغداد، اثارت موجة من اللغط والجدل فاقت في حدتها ووضوحها ما كانت تثيره زيارات مماثلة قام بها مسؤولون اميركيون كبار من بينها الرئيس السابق جورج بوش والرئيس الحالي باراك اوباما.
هناك أكثر من عامل ساهم في حدة اللغط متجاوزاً حدوده ومستوياته المعتادة منها:
التوقيت
إن توقيت الزيارة جاء محسوبا بدقة، وربما أرادت واشنطن من خلاله توجيه رسالة، أو رسائل عدة الى الساسة العراقيين، اذ ان غيتس جاء الى بغداد في خضم الاحتقان السياسي بين الفرقاء حول الوزارات الأمنية التي تأخر أمر تعيين من يتولاها جراء الاخفاق في التوصل الى اتفاق للخروج من المأزق بين رئيس الوزراء نوري المالكي من جهة والقائمة العراقية بزعامة إياد علاوي من جهة اخرى.
وكان مسؤول رفيع المستوى في وزارة الحرب الاميركية (البنتاغون) قال عشية الزيارة إلى بغداد "ان غيتس سيؤكد خلال محادثاته مع كافة المسؤولين العراقيين، دعمه لكي يكملوا عملية تشكيل الحكومة وخصوصا الحقائب الامنية" في اشارة الى عدم اتفاق الكتل السياسية على تعيين وزراء للدفاع والداخلية والامن الوطني حتى الان. واضاف "انه سيؤكد كذلك دعمه لهم ليستمروا قدما في تنفيذ الاتفاقات السياسية التي تم ابرامها في مدينة اربيل بين كبار القادة وما زال اغلب بنودها حبراً على ورق"!.
أما الجانب الآخر المتعلق بالتوقيت، فهو تزامنها مع الذكرى السنوية الثامنة للاطاحة بنظام صدام حسين عبر عملية عسكرية واسعة قادتها الولايات المتحدة الاميركية وقوبلت بمواقف دولية واقليمية ومحلية متباينة ما بين الرفض والتحفظ والقبول.
ولعل الوزير الاميركي اراد من خلال زيارته في هذا الوقت بالذات ان يقول ان واشنطن لم تخطئ في تعاملها مع العراق، وخصوصا ان النظام الديكتاتوري الشمولي استبدل بنظام ديمقراطي تعددي برغم أنه ما زال غير مكتمل حتى الان.
وهو بالفعل أشار إلى ذلك امام مجموعة من الجنود الاميركيين في قاعدة "ليبرتي" جنوبي بغداد حيث قال "ان تطور الاوضاع في العراق يثير الدهشة، وان الديموقراطية في هذا البلد تعتبر مثالا للمنطقة، رغم انها غير مكتملة، واذا نظرنا الى الاضطرابات التي تعم المنطقة، فإن كثيرين من هؤلاء الاشخاص سيشعرون بالسرور اذا كان بإمكانهم الوصول الى حيث يوجد العراق اليوم".
وتجدر الاشارة إلى ان بغداد وعددا من المحافظات العراقية شهدت تظاهرات ومسيرات حاشدة طالبت بانسحاب القوات الاميركية من العراق، واعتبرت ان عام 2011 هو عام الاستقلال باعتبار انه من المقرر ان يشهد اكتمال انسحاب القوات الاميركية بصورة نهائية وفق الاتفاقية المبرمة بين بغداد وواشنطن نهاية عام 2008.
السياقات الدبلوماسية
وفي ما يتعلق بالطريقة التي جاء بها وزير الحرب الاميركي الى العراق، فقد اعلنت الاوساط السياسية ووسائل الاعلام ان الزيارة لم تكن معلنة وكانت مفاجئة، وهذا امر ليس بالجديد، ولكنه من الطبيعي ان يثير جملة تساؤلات ويخلق ردود افعال مختلفة منها ما عبر عنه النائب في التحالف الكردستاني محمود عثمان حينما سأل "لماذا يأتي رئيس الوزراء التركي والرئيس الايراني ورئيس الوزراء الاردني ورئيس الوزراء الكويتي وغيرهم بصورة علنية، وتجرى لهم مراسم استقبال وتوديع رسمية بدءا من هبوط طائراتهم في المطار حتى اقلاعها، بينما يأتي وزير الدفاع الاميركي والمسؤولون الاميركيون بطريقة مختلفة وكأن العراق تابع للولايات المتحدة؟.
وبتعبير اخر قال النائب عثمان "إن الزيارات المفاجئة للمسؤولين الأمريكيين للعراق تؤكد أن اواشنطن لا تعترف بالعراق كدولة، وأن أمريكا لو كانت تعترف بالعراق كدولة لأبلغته بزيارات مسؤوليها عبر إرسال مبعوثين، كما تفعل بقية بلدان العالم".
وبحسب المعلومات فإن الوزير غيتس وصل الى بغداد مساء الاربعاء الماضي قادما من المملكة العربية السعودية بواسطة طائرة عسكرية حيث هبط في احدى القواعد العسكرية الاميركية في بغداد وكان في استقباله عدد من كبار القيادات العسكرية الاميركية، وانه اجتمع بعيد وصوله مع كل من قائد القوات الاميركية في العراق لويد اوستن والسفير جيمس جيفري، وفي وقت لاحق التقى بالمسؤوليين العراقيين كرئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس الجمهورية جلال الطالباني ليتوجه فيما بعد الى اربيل حيث التقى هناك رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني ورئيس الحكومة المحلية برهم صالح.
وتنقل بعض المصادر المطلعة ان المالكي علم بزيارة غيتس الى بغداد قبل ساعات عدة من وصوله، اما الطالباني فقد علم بها بعد وصول غيتس، وعلق بطريقته الساخرة "اهلا بصديقنا غيتس فقد اشتقنا اليه كثيرا، اذ لم نلتق به منذ فترة"!.
وربما لا يعرف الكثيرون ان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون مكافحة المخدرات وتطبيق القانون ويليام براونفيلد، كان قد زار بغداد في الخامس عشر من شهر اذار/مارس الماضي لمدة ثلاثة ايام بحث خلالها مع المسؤولين العراقيين استعدادات الولايات المتحدة للانتقال ببرنامج المساعدة القضائية الجنائية من الإدارة العسكرية إلى المدنية.
واذا كانت الحكومة العراقية قد حاولت تصوير زيارة وزير الحرب الاميركي بأنها جاءت ضمن سياقاتها الطبيعية والصحيحة، وانها لم تكن مفاجئة، بل كانت غير معلنة لوسائل الاعلام، فإن التيار الصدري اعتبر زيارة غيتس شؤما على العراق، وهذا ما جاء على لسان القيادي في التيار الشيخ مهند الغراوي الذي طالب بانسحاب سريع للقوات الاميركية من العراق.
مستقبل الوجود الاميركي
وعلى الرغم من تأكيد المتحدث باسم الحكومة العراقية علي الدباغ بأن رئيس الوزراء نوري المالكي أبلغ اليوم الوزير غيتس بأن الحكومة العراقية لا تريد أن ترى أي وجود أميركي أو أجنبي على الأراضي العراقية"، معتبراً أن " هذا الوجود ليس مناسباً للعراقيين ويسبب مشاكل داخلية ومشاكل في المنطقة الإقليمية"، الا ان هناك مؤشرات في الافق تذهب باتجاه اخر، من بينها تصريح غيتس "ان الولايات المتحدة ستكون مستعدة لبحث تمديد الوجود العسكري الامريكي في العراق بعد نهاية هذا العام". واشارة قائد القوات الاميركية الجنرال لويد اوستن الى ان تأخر تسمية الوزراء الامنيين عطل قيام العراق باتخاذ قرار طلب التمديد للقوات الاميركية. وكذلك ما قاله مصدر مسؤول في وزارة الدفاع الاميركية لم يكشف عن هويته من ان "خطة الجنرال اوستن تتلخص بالاحتفاظ بوجود قوي مع القوات العراقية، اطول فترة ممكنة".
هذه الاشارات لا يمكن بأي حال من الاحوال المرور عليها مرورا عابرا، ولا سيما ان هناك اطرافا عديدة تتحمس وتدعو الى تمديد بقاء القوات الاميركية فترة اخرى، ارتباطا بحسابات سياسية خاصة، في ذات الوقت الذي نجد فيه ان هناك مناخا شعبيا عاما تسانده توجهات قوى سياسية معينة، يرفض بشدة بقاء القوات الاميركية فترة اطول بعد انتهاء مهلة نهاية وجودها عام 2011 وفقا للاتفاقيات المبرمة.
وهذا يعني ان المشهد السياسي العراقي مفتوح خلال الأشهر المقبلة وحتى نهاية العام الجاري على خيارات واحتمالات عديدة، قد يصعب التنبؤ بإيقاعاتها ومساراتها من الان، فغيتس جاء الى بغداد ليخلط الأوراق من جديد أكثر مما هي مختلطة ومبعثرة.