ارشيف من :خاص

"ويكيليكس": وثيقة وفاة سياسييّ 14 آذار

"ويكيليكس": وثيقة وفاة سياسييّ 14 آذار
بثينة عليق
تجاوزت أهمية وثائق "ويكيليكس" بُعدها الفضائحي لتشكّل مادةً للتاريخ يمكن الاعتماد عليها لقراءة وتحديد معالم المشهد السياسي في لبنان، وواقع الطبقة السياسية خلال حقبة حسّاسة وخطيرة جرت خلالها أحداثٌ مصيرية ومفصلية تركت الأثر الكبير على لبنان والمنطقة.

"ويكيليكس": وثيقة وفاة سياسييّ 14 آذارولعلّ هذا ما دفع البعض إلى ممارسة لعبةٍ اعتاد عليها اللبنانيون وهي تحويل الحقائق إلى وجهات نظرٍ في إطار تمييع وتضييع ما تحويه هذه الحقائق من إدانات. وفي حقيقة الأمر أنه لو تمّ التفكير بمضمون هذه الحقائق بشكلٍ هادئ وبعيداً عن العصبيات الطائفية والحزبية، لأمكننا تخطّي العديد من نقاط الانقسام، ولأمكننا الانتقال إلى مشروع الدولة الحقيقي الذي يحاسب فيه المواطن كلّ من أساء الاستفادة من السلطة، وضيّع مقدّرات الوطن ومكتسباته في متاهات البحث عن المزيد من السلطة والتسلّط.
وفي هذا السياق يمكن فهم عجز اللبنانيين عن كتابة تاريخٍ موحّد يقدّم إلى أبنائهم ويرتكزون عليه في فهم الحركة التاريخية لنشوء دولتهم ووطنهم. كما يمكن معرفة بعض الأسباب التي منعت إجراء مراجعات حقيقية للأداء الذي أنتج الإخفاقات والمآسي. اليوم تشكّل مدلولات حقائق وثائق "ويكيليكس" استمراراً في إضعاف وتهميش مشروع الدولة التي تقوم بالأساس على مبدأ تأمين متطلّبات الشعب من السيادة والاستقلال والأمن والازدهار. هذه المدلولات التي يجب التأمّل فيها وطرحها بشكلٍ جديّ وهادئ ومن دون أيّ مكابرة أو تجاهل، لأنها الطريقة التي تؤمّن العبور إلى الدولة الحديثة والقوية.
وفي هذا الإطار يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

أولاً: لقد أظهرت التقارير المنشورة أن سياسييّ 14 آذار الذين ادّعوا أنهم يتوقون إلى التخلّص من الوصايات الأجنبية، كانوا في حقيقة الأمر من مدمني التبعيّة، وانتقلوا من تبعية إلى أخرى وفقاً لموازين القوى الإقليمية والدولية. وهدفهم الثابت هو المحافظة على دورهم في السلطة، وهذا ما يجعل كل الارتكابات التي تحصل مبرّرة في نظر أولئك لأنها تقع في حكم الضرورة. وعندما تنتفي هذه الضرورة لا تجد هذه الطبقة السياسية أيّ ضير في المسارعة إلى تبرير ما حصل بحجة أنه كان تحت الضغط والإكراه.

ثانياً: تظهر الوثائق المنشورة أنّ الشخصيات التي تآمرت وتواطأت مع الأميركيين ومن خلفهم الإسرائيليين كان همّها الوحيد هو مشروع الشخص لا الدولة. الجميع كان يقول أعطوني الفرصة كي أفعل كذا وكذا. فقد طلب جعجع السلاح لـ"ميليشياته"، ومروان حمادة المال لتمويل حملته الانتخابية، وإلياس المر كلّ أنواع الدعم. كلّ واحد من هؤلاء كما كلّ المجموعة أراد أن يظهر بمظهر المطّلع والمحلّل والعارف بخبايا الأمور والأكثر استشرافاً للمستقبل ( إلا أنهم بغالبيتهم لم يقنعوا الطرف الآخر بدليل الأحكام التي أطلقها عزيزهم جيف بحقّهم).

لقد أرادوا الظهور بمظهر" السوبر مان" على الطريقة الأميركية. أما الدولة اللبنانية ومصالحها فهي الغائب الأكبر عن تفكير وهموم هؤلاء. لا بل يمكن الاستنتاج بأن الدولة عندما حضرت فعلى شكل الكعكة التي يتمّ قضمها لينتفع الأشخاص بها وتتحقّق حيثيّاتهم الذاتية.

"ويكيليكس": وثيقة وفاة سياسييّ 14 آذارثالثاً: أظهرت الوثائق أن هذه الطبقة عاجزة عن قيادة لبنان القويّ. فهي لا تمتلك أيّ رؤية حول دور لبنان وموقعه. هذه الطبقة لا تميّز بين العدو والصديق أو بين الحليف والمعادي. هي الطبقة السياسية التي لا يمكن لأدائها إلا أن يأخذ لبنان من ضعفٍ إلى آخر. وهذا ما يؤدّي إلى تراكم الأخطاء التي تنتج الانقسام الوطني لمصلحة دول الوصاية.

رابعاً: التعامل بخفّة واستهتار مع قضايا خطيرة وحسّاسة، والتصرّف بطرق ملتوية ومتلوّنة إلى درجةٍ دفعت كتّاب تقارير "ويكيليكس" إلى وصف العديد من السياسيين اللبنانيين بالكاذبين والمدّعين وعديمي الذكاء. لقد كشفت التقارير مدى انكشاف أولئك السياسيين أمام الدبلوماسيين الأميركيين، ما أدّى إلى تلاعب هؤلاء برجال الدولة المفترضين، وتجيير حراكهم السياسي لمصلحة المشاريع الأميركية، حتى بات السفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان بمثابة المايسترو الحقيقي لفريقٍ سهل الانقياد والتحريك.

خامساً: تبيّن من خلال ما نُشر أن مشاعر الكراهية حاضرة داخل نفوس الفريق السياسي، وأن عامل الثقة معدوم في ما بينهم إلى الحدّ الذي دفعهم لبثّ الشكوى من بعضهم البعض أمام معلّمهم الأميركي، وهو ما عبّر عنه فيلتمان عندما تحدّث عن مشاعر الغيرة التي يحملها الحريري إزاء السنيورة والعكس صحيح، وتلك التي يشعر بها المرّ تجاه جعجع وجعجع تجاه الجميّل...
إن هذه الاستنتاجات تقودنا إلى فهمٍ أكثر دقّة لسلوك جماعة 14 آذار السياسي، فالحالة المعقّدة عند هذا الفريق والموسومة بالارتهان والتبعية، بالإضافة إلى فقدان البعد السياسي والرصانة في الأداء، كذلك تهاوي المعايير الأخلاقية، كلها لن تؤدّي إلا إلى تضييع مقدّرات الوطن، وهذا ما يظهر جليّاً من خلال محاربة هذا الفريق لسلاح المقاومة والإساءة إلى حلفاء لبنان الحقيقيين وإشغال الوطن بالانقسامات ومخاطر الفتن. إنّ هذه المجموعة السياسية بكلّ شعاراتها وأدائها باتت تشكّل خطراً حقيقياً على السلامة الوطنية التي لا يمكن حمايتها إلا عبر محاسبة قضائية جادة تردع النفوس الضعيفة من التلاعب بالوطن والمصير.
2011-04-12