ارشيف من :أخبار لبنانية
التقدير الاستراتيجي (28): أثر التغيرات في البلاد العربية على القضية الفلسطينية
ملخص التقدير: تمثّل التغيرات في المنطقة العربية أحد أكبر التحولات في التاريخ العربي الحديث والمعاصر. وهي تعبّر بشكل قوي عن إصرار الشعوب على نيل حريتها، وإقامة أنظمة سياسية تعبّر عن إرادتها وتطلعاتها. إذا حققت هذه التغيرات أهدافها واستكملت غاياتها، فإن التطورات التي ستحدث في المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعسكرياً، ستنعكس بشكل إيجابي على القضية الفلسطينية، وستسهم مع الزمن في تقديم فضاءات استراتيجية داعمة للقضية، وقد تؤدي إلى اختلال موازين القوى السائدة حالياً في المنطقة، وهو ما قد يَعدّه الإسرائيليون خطراً وجودياً على المدى المتوسط والبعيد. أما في المدى القريب فقد يشهد الوضع مزيداً من التصلب العربي تجاه مسار التسوية، وتخفيفاً أو فكاً للحصار عن قطاع غزة، وبروداً في تطبيق اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة، وتراجعاً في عملية التطبيع مع "إسرائيل".
غير أنه من المهم الإشارة إلى أن الإسرائيليين والأمريكيين وحلفاءهم لن يبقوا مكتوفي الأيدي، وسيسعون للحفاظ على أمنهم ومصالحهم في المنطقة. لذا فإن عملية التغيير قد تشهد سيناريوهات تؤدي إلى النجاح الكامل أو النجاح الجزئي، وربما الفشل، كما سيحاول الأعداء استغلال الوضع المضطرب لتحقيق مزيد من التفتيت العرقي والطائفي في المنطقة.
تمثل الثورات والتحولات التي تشهدها المنطقة العربية أحد أبرز الأحداث التاريخية في التاريخ الحديث والمعاصر. فلم تكن هذه التحركات مجرد فورات احتجاجية مؤقتة، يقوم النظام الحاكم باستيعابها في النهاية؛ كما لم تقتصر على بلد واحد. فالمظاهرات اتخذت حجماً شعبياً هائلاً أولاً، بمشاركة واسعة من فئة الشباب، ومن الجهات غير المسيسة ثانياً، وتميزت بأنها سلمية و منظمة تنظيماً جيداً ثالثاً، وتجاوزت الأمور المطلبية الفئوية إلى القضايا السياسية الكبرى رابعاً، وتمكنت من جهة خامسة من تحقيق نتائج باهرة في فترات قياسية، فغيرت نظامي الحكم في تونس ومصر، وأحدثت حتى الآن تغيرات كبيرة في اليمن وليبيا (وإن كانت أخذت منحى عسكرياً ثورياً في ليبيا بسبب طبيعة النظام)، كما اضطرت العديد من الأنظمة لرفع سقف الحريات وتقديم تنازلات سياسية... كما في الأردن وسورية والبحرين وعُمان والمغرب والجزائر، فضلاً عن تقديم بلدان أخرى إصلاحاتٍ وإغراءات ذات طبيعة خدمية وإدارية كما في السعودية والكويت. ومن جهة سادسة فإن الجماهير تمكنت من استعمال أساليب إعلامية ووسائل تواصل حديثة (الإنترنت، بما في ذلك الفيسبوك وتويتر... وغيرها)، تجاوزت من خلالها وسائل الأنظمة التقليدية، كما استفادت من التغطية الإعلامية الفاعلة والمؤثرة للقنوات الفضائية وخصوصاً قناة الجزيرة.
لقد تمكن المواطن العربي من كسر حاجز الخوف، ومن إخراج رجل الأمن المغروس في قلبه، وعبر عن مطالبه بشكل حضاري منظم، بينما كشفت العديد من الأنظمة عن وجهها القبيح، من خلال ممارسات وحشية ومتخلفة زادت من سعير الثورات والاحتجاجات وانتشارها.
يأتي هذا التقدير، وما زلنا في وسط العاصفة، وما زالت التغيرات وتداعياتها تتفاعل بأشكال مختلفة، تجعل من الصعب الوصول إلى استنتاجات قطعية. غير أنه من الواضح أن تداعيات كبيرة تمس القضية الفلسطينية في طريقها للحدوث، إذا ما استكملت هذه التغيرات شكلها الإيجابي، وهو ما يسبب حالة قلق وارتباك إسرائيلي كبير.
من المعروف أن "إسرائيل" تستمد جانباً كبيراً من قوتها وتأثيرها، بسبب حالة العجز والضعف والانقسام والتخلف العربي والإسلامي، خصوصاً في المنطقة المحيطة بها. إذ إن تبني الأنظمة الرسمية العربية لمشروع التسوية، وإغلاق ملف المواجهة العسكرية مع "إسرائيل" لم يكن في جوهره إيماناً بحق "إسرائيل" في الوجود على 78% من أرض فلسطين، ولكن بسبب الشعور بعدم القدرة على هزيمة "إسرائيل" والمشروع الصهيوني ضمن موازين القوى الحالية. لذلك، فإن ضعف المنطقة وتفككها وتخلفها كان يمثل في حدِّ ذاته ضمانة لاستقرار واستمرار الاحتلال والعنجهية الإسرائيلية. كما أن عدم وجود أنظمة ديموقراطية تعكس إرادة شعوبها، كان يجعل من هذه الأنظمة المستبدة الفاسدة أداة قمع لشعوبها، بينما كانت تتأثر في الوقت نفسه بشكل كبير في صناعة قرارها وفي استقرارها على عوامل خارجية، ليس أقلُّها الرضى والتعاون الأمريكي والغربي.
تفتح حركات التغيير في العالم العربي إذا ما وصلت إلى غاياتها (وخصوصاً في مصر) المجال لعدد من التأثيرات المهمة على الصعيد الفلسطيني؛ غير أن أبرزها لن يتحقق إلا على المديين المتوسط والبعيد. إذ إن الأنظمة العربية التي أصابها أو سيصيبها التغيير، ستهتم أولاً بترتيب بيوتها الداخلية، وستعكف على استنهاض مقومات بنائها وتقدُّمها وقوتها، وستتجنب قدر الإمكان الدخول في مواجهات عسكرية أو في عداوات مع القوى الخارجية، بما في ذلك "إسرائيل" وحلفاؤها. وقد يستغرق ذلك بضع سنين. لكن ذلك لا يعني أن هذه الأنظمة، إذا ما أصبحت تُعبر بشكل حقيقي عن إرادة شعوبها، لن تعبر عن عزة و كرامة أمتها؛ وبعبارة أخرى فإن ذلك قد يعني تبدلاً في المواقف السياسية، مع تجنب الدخول في مواجهات سابقة لأوانها.
ولهذا فعلى المدى القريب قد نرى:
1. تخفيفاً للحصار عن قطاع غزة، وفتحاً لمعبر رفح، وسماحاً بدخول قوافل المساعدات، ووقفاً لبناء الجدار الفولاذي، وغضاً للطرف عن الأنفاق على الحدود المصرية.
2 . بروداً متزايداً في تطبيق اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة، وتراجعاً في مجالات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي سياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً، وقد يصل الأمر إلى التجميد العملي لهذه الاتفاقيات، دون ضرورة الإعلان الرسمي عن إلغائها.
3. طريقة مختلفة في التعامل مع ملف المصالحة الفلسطينية، يسمح بتفهّم أكبر لوجهة نظر تيارات المقاومة خصوصاً حماس، ويفتح أبواب دول "الاعتدال" كجزء مستحق من الشرعية الفلسطينية، ويدفع بشكل جاد في إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإصلاحها على أسس جديدة.
4. تصليب الموقف التفاوضي الفلسطيني في مسار التسوية السلمية، وكذلك تصليب الموقف التفاوضي العربي تجاه هذا المسار، وتجاه طرح المبادرة العربية، حتى لو أدى ذلك إلى تعطيل مسار التسوية. وتشجيع خيارات فلسطينية بديلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك الانتفاضة الشعبية والمقاومة المدنية والمسلحة، وحل السلطة الفلسطينية،... وغير ذلك.
5. إضعاف أو إنهاء التأثير الإسرائيلي والأمريكي في صناعة القرار العربي، بما يعني تقديم الأولويات الوطنية والقومية والإسلامية على اعتبارات الضغوط الخارجية التي تتعارض معها.
أما على المدى المتوسط والبعيد فقد نرى:
1. انفتاح الباب أمام المشروع النهضوي العربي الإسلامي، الذي قد يُحدث تحولات كبيرة سياسية واقتصادية واجتماعية، وحتى عسكرية، تغير موازين القوى في المنطقة، مما سينعكس بشكل كبير على مستقبل المشروع الصهيوني في المنطقة.
2. تشكيل فضاء استراتيجي رسمي وشعبي في المنطقة المحيطة بـ"إسرائيل" أكثر تأييداً واحتضاناً للمقاومة، وأكثر عداء للكيان الإسرائيلي.
3. تفعيل البعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، بحيث لا يقتصر الصراع على الدائرة الفلسطينية وحدها.
إذا حققت عملية التغيير أثرها، وتصلب الموقف التفاوضي العربي وارتفع سقفه، فإن ذلك سوف يؤثر سلباً على القوى الفلسطينية التي تتبنى هذا المسار. كما ستضعف قدرة قيادة المنظمة والسلطة في رام الله على الاستفادة من الضغوط على حكومة إسماعيل هنية، الناتجة عن حصار قطاع غزة إذا ما جرى تخفيف الحصار أو فكّه. وستلقى فصائل المقاومة وخصوصاً حماس قبولاً أكبر، بحيث تحظى بدعم عربي شعبي أقوى وأوسع، وتصبح جزءاً من "الشرعية العربية". وسيوفر ذلك أفقاً أفضل لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني بما في ذلك منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وكذلك تحديد أولويات المشروع الوطني الفلسطيني بعيداً عن الضغوط الإسرائيلية الأمريكية في صناعة القرار الفلسطيني. وسيستفيد الفلسطينيون من وجود حواضن عربية أكثر تأييداً ودعماً وتفاعلاً مع قضيتهم في إعادة النظر في اتفاقيات أوسلو، وفي تجربة السلطة الفلسطينية، وفي شكل وطبيعة العمل المقاوم؛ وفي الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية والسياسية والشعبية، وربما العسكرية، المختلفة التي يتيحها هذا التغيير.
العدوى الإيجابية للتغيير من المرجح أن تنتقل للساحة الفلسطينية، ولعل جيلاً من الشباب سيضغط ليس فقط لإنهاء الانقسام، وإنما للمشاركة في صناعة القرار، وسيوفر الشباب وضعاً قوياً وضاغطاً ومغيراً على أولئك الذين يتلاعبون بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، أو يقدمون مصالحهم الفئوية والحزبية على المصالح العليا لهذا الشعب. ولعل ذلك سيفيد في هزّ (إن لم يكن تغيير) أية عناصر فاسدة أو مستخفة بإرادة الجماهير.
ربما ليس هناك تأثير مباشر للتغيرات العربية على الوضع في العالم الإسلامي. غير أن هذا الوضع الذي شهد تحولاً عميقاً في أنظمة كبرى، وتحديداً إيران وتركيا ومصر، وهي أنظمة كانت على علاقة بـ"إسرائيل"، (كإيران التي قطعت علاقتها بها سنة 1979، أو تركيا التي هي في الطريق للانفكاك عن هذه العلاقة، ومصر التي بدأت علاقاتها مع "إسرائيل" تشهد نوعاً من الفتور والتراجع) سيؤثر بشكل كبير على التوازنات الاستراتيجة في المنطقة. وقد يعيد توجيه سياسات العالم الإسلامي باتجاهات أكثر ديناميكية وفاعلية فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني. وقد يشجع على هذا الاستنتاج أن الاتجاهات الإسلامية المؤيدة للحق الفلسطيني تزداد شعبية وقوة في بلدان مسلمة كبيرة أخرى كإندونيسيا وماليزيا وباكستان ونيجيريا... وغيرها.
ليس صحيحاً أن الانتفاضات العربية كانت "صناعة أمريكية" كما يزعم البعض. لقد عبرت هذه الانتفاضات عن أصالة هذه الأمة وشعوبها وشوقها للتحرر والكرامة، وللتعبير عن إنسانيتها من خلال مشروع نهضوي يزيل عوائق الظلم والاستبداد والفساد. ولا ينبغي أن تتملكنا عقدة النقص، بحيث نرى أن إرادة التغيير في بلادنا لا يمكن إلا أن تكون "صناعة أجنبية"!.
من الواضح أن الأمريكيين تعاملوا مع الانتفاضات بالكثير من الارتباك، وأنهم أصيبوا بالمفاجأة (كما أصيبت غيرهم من القوى الكبرى) بسبب حجم هذه الانتفاضات وقوتها واتساعها، وفرضها إيقاعات سريعة على عملية التغيير. غير أن الأمريكيين (وبعض القوى الكبرى بدرجة أقل) يملكون القدرة على محاولة توجيه الأحداث لصالحهم، حيث تتوفر لديهم:
1. ديناميكية عالية في التعامل مع الأحداث من خلال مؤسسات صناعة القرار ومراكز التفكير.
2. قدرة عالية على توظيف الإمكانات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية الهائلة التي يملكونها.
غير أن الوعي الشعبي، وإنشاء أنظمة ديموقراطية حقيقية في المنطقة، قد يقطع الطريق على أي توظيف سلبي لمثل هذه الثورات.
بعد المستنقع الأمريكي في العراق وأفغانستان، لن يكون من السهل على أمريكا توريط نفسها في مصر وباقي دول المنطقة. ولعل أمريكا ستسعى لاستخدام "القوة الناعمة" لدعم حليفها الإسرائيلي، فضلاً عن توفير وسائل الدعم والتفوق العسكري لتحقيق الانتصار في أية مواجهة محتملة بين "إسرائيل" وأعدائها. وستحاول أمريكا الحيلولة دون سقوط أي من الأنظمة بأيدي الإسلاميين، وقد تدعم إصلاحات ديموقراطية وسياسية واقتصادية، شرط أن تسمح قدر الإمكان ببقاء قوى في الحكم تكون حليفة لأمريكا، أو غير معادية لها، أو غير راغبة في استعدائها أو في تصعيد العداء مع "إسرائيل". كما قد تحاول أمريكا تفعيل مسار التسوية السلمية والضغط على "إسرائيل" لتقديم مغريات لجرّ محمود عباس وقيادة المنظمة والسلطة في رام الله إلى مسار التسوية من جديد.
تسود حالة القلق والارتباك المشهد السياسي الإسرائيلي، إذ يرى القادة الإسرائيليون في عملية التغيير الجارية في المنطقة المحيطة بـ"إسرائيل" تهديداً استراتيجياً وجودياً لها، إذا ما تحولت إلى فضاءات تدعم المقاومة وتتبنى مشروع التحرير، وتتبنى استراتيجيات تؤدي إلى الإخلال بموازين القوى القائمة.
يعاني المجتمع الإسرائيلي وقواه السياسية من تزايد الاتجاهات اليمينية والدينية المتطرفة، ومن عدم وجود أي تصور لمشروع تسوية جاد متفق عليه، كما يعاني من غرور القوة العسكرية الذي قد يقود إلى نتائج مضللة أو مخادعة.
من الواضح أن حلم فرض التسوية السلمية وفق الشروط الإسرائيلية قد انتهى، وأن القدرة على فرض "شروط اللعبة" في المنطقة قد تراجعت، وأن حلم التوسع الإسرائيلي قد انكمش خلف جدار الفصل العنصري. وأن الشعور بالأمن قد أخذ يهتز مع الفشل في إخضاع قوى المقاومة في قطاع غزة وفي جنوب لبنان، ومع احتمالات توسّع الدائرة المؤيدة والداعمة للمقاومة في المنطقة.
1. اتجاه نحو التقوقع والانعزال، للحفاظ على الذات، بالتوافق مع عقلية "الجيتو"، وتعميق الشعور بالبيئة المعادية، التي تستدعي استعداداً عسكرياً هائلاً، ومحافظة على كل مكتسبات الاحتلال. وقد يعني ذلك الإمعان في برامج التهويد والاستيطان، واحتمال القيام بإجراءات عسكرية استباقية بحجة ضمان أمن "إسرائيل" سواء في قطاع غزة أو في جنوب لبنان أو ضدّ أي نظام عربي يمكن أن يقدم دعماً لوجستياً لقوى المقاومة.
2. اتجاه أكثر براجماتية يحاول كسر حالة العزلة والعداء، من خلال التأكيد على مسار التسوية وتقديم تنازلات تبدو "معقولة" في المعايير الأمريكية، وربما تقبلها قيادة المنظمة كمؤشر "جاد" لتحقيق المطالب الفلسطينية. ويحتمل أن تسعى "إسرائيل" لتحقيق اتفاقية تؤدي إلى دولة مؤقتة على قطاع غزة وعلى نحو 60% من الضفة. كما قد تعود "إسرائيل" لخيار تنفيذ الانسحاب الأحادي الجانب من أجزاء من الضفة الغربية.
ومن جهة أخرى، ستحاول "إسرائيل" وحلفاؤها استغلال حالة الاضطراب الناشئة عن الثورات والصدامات بين الشعوب وأنظمتها، ثم تلك الاختلافات والاختلالات الناشئة عن تعدد اجتهادات مكونات الثورة وعناصرها، لحرف مسارات التغيير عن وجهتها الحقيقية. ولعل من أخطر الجوانب السعي لإثارة العداوات والنعرات العرقية والطائفية، بشكل يؤدي إلى مزيد من التفتيت والانقسام في المنطقة العربية. وهي توجهات لم تعد سرَّاً ، وسبق أن طرحها مثلاً برنارد لويس (وهو مفكر يهودي صهيوني أمريكي، وأحد أشهر المستشرقين في العالم)، كما تحدث عنها المحلل الإسرائيلي المعروف ألوف بن في جريدة هآرتس في 25/3/2011.
قد تتجه المنطقة في أحد الاتجاهات الأربعة التالية:
1. نجاح الثورات والانتفاضات الشعبية في تحقيق تغييرات جذرية في المنطقة العربية، تؤدي لصعود قوى وطنية وإسلامية للقيادة، وبشكل يؤدي إلى قيام مشروع عربي إسلامي نهضوي جديد، يوفر فضاء استراتيجياً للعمل المقاوم، ويؤدي إلى تغيير في موازين القوى في المنطقة.
2. نجاح جزئي للثورات والانتفاضات، يؤدي إلى تحسين ظروف الحياة السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، دون أن ينشغل بعملية الصراع مع "إسرائيل"، ودون أن يسعى لتغيير موازين القوى في المنطقة، ودون أن يسمح لقوى المقاومة بالنمو لدرجة قد تجرّه للمواجهة مع العسكرية مع "إسرائيل".
3. فشل الثورات في تحقيق أهدافها، وعودة الأنظمة الفاسدة المستبدة لإنتاج نفسها من جديد بأثواب مختلفة.
4. حدوث آثار عكسية لا تؤدي فقط لفشل الثورات في تحقيق أهدافها، وإنما إلى نجاح القوى المضادة للثورة (بدعم إسرائيلي وربما غربي مباشر وغير مباشر) في تأجيج الصراعات الطائفية والعرقية، بشكل يؤدي إلى الفوضى، وإلى تمزيق الدول الحالية، ونشوء كيانات جديدة متناحرة أصغر وأضعف وأكثر اعتماداً على الإسرائيليين والأمريكان. وبما يؤكد ما يحاول العديد من الغربيين إدعاءه من أن أهل هذه المنطقة لا يفهمون الديموقراطية ولا يستحقونها، وأن "إسرائيل" هي "الممثل الشرعي الوحيد" للديموقراطية (كما يقبلها الغرب) في المنطقة!.
ربما تتأرجح الاحتمالات الأقوى بين الاحتمالين الأول والثاني، غير أنه لا ينبغي استبعاد أي من الاحتمالات، إذ إن "إسرائيل" وحلفاءها لن يسمحوا بتحوّل هادئ وسهل في المنطقة، يمكن أن يؤدي إلى قيام كيانات معادية لهم، وسيسعون بكل الطرق "الناعمة"، والخشنة إن تطلب الأمر، من أجل حرف مسار هذه الثورات والانتفاضات، بما يفرغها من محتواها، أو يؤدي إلى نتائج معاكسة تخدم المشروع الصهيوني على المدى البعيد.
1. تعزيز الحراك السلمي المنظم بما يحقق تطلعات الشعوب في الحرية والديموقراطية والنهضة الحضارية. والإصرار على أن تحقق عملية التغيير أهدافها كاملة مع تجنب العنف وإراقة الدماء.
2. الحرص على أن لا تعبر إرادة التغيير عن توجه فئة أو فصيل أو حزب معين، وإنما عن توجه قوى المجتمع المختلفة بكافة فئاته وأطيافه وطوائفه وأعراقه.
3. الحذر من الانزلاق إلى الصراعات الطائفية والعرقية، وسدّ الطرق في وجهها بكل الوسائل، لأنها أسوأ الأدوات لإفشال الانتصارات، والانتكاس والتراجع إلى أوضاع أسوأ من الأوضاع السابقة.
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات/ تقدير استراتيجي رقم (28) - نيسان/ أبريل 2011.
غير أنه من المهم الإشارة إلى أن الإسرائيليين والأمريكيين وحلفاءهم لن يبقوا مكتوفي الأيدي، وسيسعون للحفاظ على أمنهم ومصالحهم في المنطقة. لذا فإن عملية التغيير قد تشهد سيناريوهات تؤدي إلى النجاح الكامل أو النجاح الجزئي، وربما الفشل، كما سيحاول الأعداء استغلال الوضع المضطرب لتحقيق مزيد من التفتيت العرقي والطائفي في المنطقة.
ملامح عامة
تمثل الثورات والتحولات التي تشهدها المنطقة العربية أحد أبرز الأحداث التاريخية في التاريخ الحديث والمعاصر. فلم تكن هذه التحركات مجرد فورات احتجاجية مؤقتة، يقوم النظام الحاكم باستيعابها في النهاية؛ كما لم تقتصر على بلد واحد. فالمظاهرات اتخذت حجماً شعبياً هائلاً أولاً، بمشاركة واسعة من فئة الشباب، ومن الجهات غير المسيسة ثانياً، وتميزت بأنها سلمية و منظمة تنظيماً جيداً ثالثاً، وتجاوزت الأمور المطلبية الفئوية إلى القضايا السياسية الكبرى رابعاً، وتمكنت من جهة خامسة من تحقيق نتائج باهرة في فترات قياسية، فغيرت نظامي الحكم في تونس ومصر، وأحدثت حتى الآن تغيرات كبيرة في اليمن وليبيا (وإن كانت أخذت منحى عسكرياً ثورياً في ليبيا بسبب طبيعة النظام)، كما اضطرت العديد من الأنظمة لرفع سقف الحريات وتقديم تنازلات سياسية... كما في الأردن وسورية والبحرين وعُمان والمغرب والجزائر، فضلاً عن تقديم بلدان أخرى إصلاحاتٍ وإغراءات ذات طبيعة خدمية وإدارية كما في السعودية والكويت. ومن جهة سادسة فإن الجماهير تمكنت من استعمال أساليب إعلامية ووسائل تواصل حديثة (الإنترنت، بما في ذلك الفيسبوك وتويتر... وغيرها)، تجاوزت من خلالها وسائل الأنظمة التقليدية، كما استفادت من التغطية الإعلامية الفاعلة والمؤثرة للقنوات الفضائية وخصوصاً قناة الجزيرة.
لقد تمكن المواطن العربي من كسر حاجز الخوف، ومن إخراج رجل الأمن المغروس في قلبه، وعبر عن مطالبه بشكل حضاري منظم، بينما كشفت العديد من الأنظمة عن وجهها القبيح، من خلال ممارسات وحشية ومتخلفة زادت من سعير الثورات والاحتجاجات وانتشارها.
يأتي هذا التقدير، وما زلنا في وسط العاصفة، وما زالت التغيرات وتداعياتها تتفاعل بأشكال مختلفة، تجعل من الصعب الوصول إلى استنتاجات قطعية. غير أنه من الواضح أن تداعيات كبيرة تمس القضية الفلسطينية في طريقها للحدوث، إذا ما استكملت هذه التغيرات شكلها الإيجابي، وهو ما يسبب حالة قلق وارتباك إسرائيلي كبير.
السلوك العربي
من المعروف أن "إسرائيل" تستمد جانباً كبيراً من قوتها وتأثيرها، بسبب حالة العجز والضعف والانقسام والتخلف العربي والإسلامي، خصوصاً في المنطقة المحيطة بها. إذ إن تبني الأنظمة الرسمية العربية لمشروع التسوية، وإغلاق ملف المواجهة العسكرية مع "إسرائيل" لم يكن في جوهره إيماناً بحق "إسرائيل" في الوجود على 78% من أرض فلسطين، ولكن بسبب الشعور بعدم القدرة على هزيمة "إسرائيل" والمشروع الصهيوني ضمن موازين القوى الحالية. لذلك، فإن ضعف المنطقة وتفككها وتخلفها كان يمثل في حدِّ ذاته ضمانة لاستقرار واستمرار الاحتلال والعنجهية الإسرائيلية. كما أن عدم وجود أنظمة ديموقراطية تعكس إرادة شعوبها، كان يجعل من هذه الأنظمة المستبدة الفاسدة أداة قمع لشعوبها، بينما كانت تتأثر في الوقت نفسه بشكل كبير في صناعة قرارها وفي استقرارها على عوامل خارجية، ليس أقلُّها الرضى والتعاون الأمريكي والغربي.
تفتح حركات التغيير في العالم العربي إذا ما وصلت إلى غاياتها (وخصوصاً في مصر) المجال لعدد من التأثيرات المهمة على الصعيد الفلسطيني؛ غير أن أبرزها لن يتحقق إلا على المديين المتوسط والبعيد. إذ إن الأنظمة العربية التي أصابها أو سيصيبها التغيير، ستهتم أولاً بترتيب بيوتها الداخلية، وستعكف على استنهاض مقومات بنائها وتقدُّمها وقوتها، وستتجنب قدر الإمكان الدخول في مواجهات عسكرية أو في عداوات مع القوى الخارجية، بما في ذلك "إسرائيل" وحلفاؤها. وقد يستغرق ذلك بضع سنين. لكن ذلك لا يعني أن هذه الأنظمة، إذا ما أصبحت تُعبر بشكل حقيقي عن إرادة شعوبها، لن تعبر عن عزة و كرامة أمتها؛ وبعبارة أخرى فإن ذلك قد يعني تبدلاً في المواقف السياسية، مع تجنب الدخول في مواجهات سابقة لأوانها.
ولهذا فعلى المدى القريب قد نرى:
1. تخفيفاً للحصار عن قطاع غزة، وفتحاً لمعبر رفح، وسماحاً بدخول قوافل المساعدات، ووقفاً لبناء الجدار الفولاذي، وغضاً للطرف عن الأنفاق على الحدود المصرية.
2 . بروداً متزايداً في تطبيق اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة، وتراجعاً في مجالات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي سياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً، وقد يصل الأمر إلى التجميد العملي لهذه الاتفاقيات، دون ضرورة الإعلان الرسمي عن إلغائها.
3. طريقة مختلفة في التعامل مع ملف المصالحة الفلسطينية، يسمح بتفهّم أكبر لوجهة نظر تيارات المقاومة خصوصاً حماس، ويفتح أبواب دول "الاعتدال" كجزء مستحق من الشرعية الفلسطينية، ويدفع بشكل جاد في إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإصلاحها على أسس جديدة.
4. تصليب الموقف التفاوضي الفلسطيني في مسار التسوية السلمية، وكذلك تصليب الموقف التفاوضي العربي تجاه هذا المسار، وتجاه طرح المبادرة العربية، حتى لو أدى ذلك إلى تعطيل مسار التسوية. وتشجيع خيارات فلسطينية بديلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك الانتفاضة الشعبية والمقاومة المدنية والمسلحة، وحل السلطة الفلسطينية،... وغير ذلك.
5. إضعاف أو إنهاء التأثير الإسرائيلي والأمريكي في صناعة القرار العربي، بما يعني تقديم الأولويات الوطنية والقومية والإسلامية على اعتبارات الضغوط الخارجية التي تتعارض معها.
أما على المدى المتوسط والبعيد فقد نرى:
1. انفتاح الباب أمام المشروع النهضوي العربي الإسلامي، الذي قد يُحدث تحولات كبيرة سياسية واقتصادية واجتماعية، وحتى عسكرية، تغير موازين القوى في المنطقة، مما سينعكس بشكل كبير على مستقبل المشروع الصهيوني في المنطقة.
2. تشكيل فضاء استراتيجي رسمي وشعبي في المنطقة المحيطة بـ"إسرائيل" أكثر تأييداً واحتضاناً للمقاومة، وأكثر عداء للكيان الإسرائيلي.
3. تفعيل البعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، بحيث لا يقتصر الصراع على الدائرة الفلسطينية وحدها.
السلوك الفلسطيني
إذا حققت عملية التغيير أثرها، وتصلب الموقف التفاوضي العربي وارتفع سقفه، فإن ذلك سوف يؤثر سلباً على القوى الفلسطينية التي تتبنى هذا المسار. كما ستضعف قدرة قيادة المنظمة والسلطة في رام الله على الاستفادة من الضغوط على حكومة إسماعيل هنية، الناتجة عن حصار قطاع غزة إذا ما جرى تخفيف الحصار أو فكّه. وستلقى فصائل المقاومة وخصوصاً حماس قبولاً أكبر، بحيث تحظى بدعم عربي شعبي أقوى وأوسع، وتصبح جزءاً من "الشرعية العربية". وسيوفر ذلك أفقاً أفضل لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني بما في ذلك منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وكذلك تحديد أولويات المشروع الوطني الفلسطيني بعيداً عن الضغوط الإسرائيلية الأمريكية في صناعة القرار الفلسطيني. وسيستفيد الفلسطينيون من وجود حواضن عربية أكثر تأييداً ودعماً وتفاعلاً مع قضيتهم في إعادة النظر في اتفاقيات أوسلو، وفي تجربة السلطة الفلسطينية، وفي شكل وطبيعة العمل المقاوم؛ وفي الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية والسياسية والشعبية، وربما العسكرية، المختلفة التي يتيحها هذا التغيير.
العدوى الإيجابية للتغيير من المرجح أن تنتقل للساحة الفلسطينية، ولعل جيلاً من الشباب سيضغط ليس فقط لإنهاء الانقسام، وإنما للمشاركة في صناعة القرار، وسيوفر الشباب وضعاً قوياً وضاغطاً ومغيراً على أولئك الذين يتلاعبون بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، أو يقدمون مصالحهم الفئوية والحزبية على المصالح العليا لهذا الشعب. ولعل ذلك سيفيد في هزّ (إن لم يكن تغيير) أية عناصر فاسدة أو مستخفة بإرادة الجماهير.
السلوك الإسلامي
ربما ليس هناك تأثير مباشر للتغيرات العربية على الوضع في العالم الإسلامي. غير أن هذا الوضع الذي شهد تحولاً عميقاً في أنظمة كبرى، وتحديداً إيران وتركيا ومصر، وهي أنظمة كانت على علاقة بـ"إسرائيل"، (كإيران التي قطعت علاقتها بها سنة 1979، أو تركيا التي هي في الطريق للانفكاك عن هذه العلاقة، ومصر التي بدأت علاقاتها مع "إسرائيل" تشهد نوعاً من الفتور والتراجع) سيؤثر بشكل كبير على التوازنات الاستراتيجة في المنطقة. وقد يعيد توجيه سياسات العالم الإسلامي باتجاهات أكثر ديناميكية وفاعلية فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني. وقد يشجع على هذا الاستنتاج أن الاتجاهات الإسلامية المؤيدة للحق الفلسطيني تزداد شعبية وقوة في بلدان مسلمة كبيرة أخرى كإندونيسيا وماليزيا وباكستان ونيجيريا... وغيرها.
السلوك الدولي
ليس صحيحاً أن الانتفاضات العربية كانت "صناعة أمريكية" كما يزعم البعض. لقد عبرت هذه الانتفاضات عن أصالة هذه الأمة وشعوبها وشوقها للتحرر والكرامة، وللتعبير عن إنسانيتها من خلال مشروع نهضوي يزيل عوائق الظلم والاستبداد والفساد. ولا ينبغي أن تتملكنا عقدة النقص، بحيث نرى أن إرادة التغيير في بلادنا لا يمكن إلا أن تكون "صناعة أجنبية"!.
من الواضح أن الأمريكيين تعاملوا مع الانتفاضات بالكثير من الارتباك، وأنهم أصيبوا بالمفاجأة (كما أصيبت غيرهم من القوى الكبرى) بسبب حجم هذه الانتفاضات وقوتها واتساعها، وفرضها إيقاعات سريعة على عملية التغيير. غير أن الأمريكيين (وبعض القوى الكبرى بدرجة أقل) يملكون القدرة على محاولة توجيه الأحداث لصالحهم، حيث تتوفر لديهم:
1. ديناميكية عالية في التعامل مع الأحداث من خلال مؤسسات صناعة القرار ومراكز التفكير.
2. قدرة عالية على توظيف الإمكانات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية الهائلة التي يملكونها.
غير أن الوعي الشعبي، وإنشاء أنظمة ديموقراطية حقيقية في المنطقة، قد يقطع الطريق على أي توظيف سلبي لمثل هذه الثورات.
بعد المستنقع الأمريكي في العراق وأفغانستان، لن يكون من السهل على أمريكا توريط نفسها في مصر وباقي دول المنطقة. ولعل أمريكا ستسعى لاستخدام "القوة الناعمة" لدعم حليفها الإسرائيلي، فضلاً عن توفير وسائل الدعم والتفوق العسكري لتحقيق الانتصار في أية مواجهة محتملة بين "إسرائيل" وأعدائها. وستحاول أمريكا الحيلولة دون سقوط أي من الأنظمة بأيدي الإسلاميين، وقد تدعم إصلاحات ديموقراطية وسياسية واقتصادية، شرط أن تسمح قدر الإمكان ببقاء قوى في الحكم تكون حليفة لأمريكا، أو غير معادية لها، أو غير راغبة في استعدائها أو في تصعيد العداء مع "إسرائيل". كما قد تحاول أمريكا تفعيل مسار التسوية السلمية والضغط على "إسرائيل" لتقديم مغريات لجرّ محمود عباس وقيادة المنظمة والسلطة في رام الله إلى مسار التسوية من جديد.
السلوك الإسرائيلي
تسود حالة القلق والارتباك المشهد السياسي الإسرائيلي، إذ يرى القادة الإسرائيليون في عملية التغيير الجارية في المنطقة المحيطة بـ"إسرائيل" تهديداً استراتيجياً وجودياً لها، إذا ما تحولت إلى فضاءات تدعم المقاومة وتتبنى مشروع التحرير، وتتبنى استراتيجيات تؤدي إلى الإخلال بموازين القوى القائمة.
يعاني المجتمع الإسرائيلي وقواه السياسية من تزايد الاتجاهات اليمينية والدينية المتطرفة، ومن عدم وجود أي تصور لمشروع تسوية جاد متفق عليه، كما يعاني من غرور القوة العسكرية الذي قد يقود إلى نتائج مضللة أو مخادعة.
من الواضح أن حلم فرض التسوية السلمية وفق الشروط الإسرائيلية قد انتهى، وأن القدرة على فرض "شروط اللعبة" في المنطقة قد تراجعت، وأن حلم التوسع الإسرائيلي قد انكمش خلف جدار الفصل العنصري. وأن الشعور بالأمن قد أخذ يهتز مع الفشل في إخضاع قوى المقاومة في قطاع غزة وفي جنوب لبنان، ومع احتمالات توسّع الدائرة المؤيدة والداعمة للمقاومة في المنطقة.
الإسرائيليون قد يتبنون أحد اتجاهين
1. اتجاه نحو التقوقع والانعزال، للحفاظ على الذات، بالتوافق مع عقلية "الجيتو"، وتعميق الشعور بالبيئة المعادية، التي تستدعي استعداداً عسكرياً هائلاً، ومحافظة على كل مكتسبات الاحتلال. وقد يعني ذلك الإمعان في برامج التهويد والاستيطان، واحتمال القيام بإجراءات عسكرية استباقية بحجة ضمان أمن "إسرائيل" سواء في قطاع غزة أو في جنوب لبنان أو ضدّ أي نظام عربي يمكن أن يقدم دعماً لوجستياً لقوى المقاومة.
2. اتجاه أكثر براجماتية يحاول كسر حالة العزلة والعداء، من خلال التأكيد على مسار التسوية وتقديم تنازلات تبدو "معقولة" في المعايير الأمريكية، وربما تقبلها قيادة المنظمة كمؤشر "جاد" لتحقيق المطالب الفلسطينية. ويحتمل أن تسعى "إسرائيل" لتحقيق اتفاقية تؤدي إلى دولة مؤقتة على قطاع غزة وعلى نحو 60% من الضفة. كما قد تعود "إسرائيل" لخيار تنفيذ الانسحاب الأحادي الجانب من أجزاء من الضفة الغربية.
ومن جهة أخرى، ستحاول "إسرائيل" وحلفاؤها استغلال حالة الاضطراب الناشئة عن الثورات والصدامات بين الشعوب وأنظمتها، ثم تلك الاختلافات والاختلالات الناشئة عن تعدد اجتهادات مكونات الثورة وعناصرها، لحرف مسارات التغيير عن وجهتها الحقيقية. ولعل من أخطر الجوانب السعي لإثارة العداوات والنعرات العرقية والطائفية، بشكل يؤدي إلى مزيد من التفتيت والانقسام في المنطقة العربية. وهي توجهات لم تعد سرَّاً ، وسبق أن طرحها مثلاً برنارد لويس (وهو مفكر يهودي صهيوني أمريكي، وأحد أشهر المستشرقين في العالم)، كما تحدث عنها المحلل الإسرائيلي المعروف ألوف بن في جريدة هآرتس في 25/3/2011.
السيناريوهات المحتملة في المنطقة
قد تتجه المنطقة في أحد الاتجاهات الأربعة التالية:
1. نجاح الثورات والانتفاضات الشعبية في تحقيق تغييرات جذرية في المنطقة العربية، تؤدي لصعود قوى وطنية وإسلامية للقيادة، وبشكل يؤدي إلى قيام مشروع عربي إسلامي نهضوي جديد، يوفر فضاء استراتيجياً للعمل المقاوم، ويؤدي إلى تغيير في موازين القوى في المنطقة.
2. نجاح جزئي للثورات والانتفاضات، يؤدي إلى تحسين ظروف الحياة السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، دون أن ينشغل بعملية الصراع مع "إسرائيل"، ودون أن يسعى لتغيير موازين القوى في المنطقة، ودون أن يسمح لقوى المقاومة بالنمو لدرجة قد تجرّه للمواجهة مع العسكرية مع "إسرائيل".
3. فشل الثورات في تحقيق أهدافها، وعودة الأنظمة الفاسدة المستبدة لإنتاج نفسها من جديد بأثواب مختلفة.
4. حدوث آثار عكسية لا تؤدي فقط لفشل الثورات في تحقيق أهدافها، وإنما إلى نجاح القوى المضادة للثورة (بدعم إسرائيلي وربما غربي مباشر وغير مباشر) في تأجيج الصراعات الطائفية والعرقية، بشكل يؤدي إلى الفوضى، وإلى تمزيق الدول الحالية، ونشوء كيانات جديدة متناحرة أصغر وأضعف وأكثر اعتماداً على الإسرائيليين والأمريكان. وبما يؤكد ما يحاول العديد من الغربيين إدعاءه من أن أهل هذه المنطقة لا يفهمون الديموقراطية ولا يستحقونها، وأن "إسرائيل" هي "الممثل الشرعي الوحيد" للديموقراطية (كما يقبلها الغرب) في المنطقة!.
ربما تتأرجح الاحتمالات الأقوى بين الاحتمالين الأول والثاني، غير أنه لا ينبغي استبعاد أي من الاحتمالات، إذ إن "إسرائيل" وحلفاءها لن يسمحوا بتحوّل هادئ وسهل في المنطقة، يمكن أن يؤدي إلى قيام كيانات معادية لهم، وسيسعون بكل الطرق "الناعمة"، والخشنة إن تطلب الأمر، من أجل حرف مسار هذه الثورات والانتفاضات، بما يفرغها من محتواها، أو يؤدي إلى نتائج معاكسة تخدم المشروع الصهيوني على المدى البعيد.
مقترحات
1. تعزيز الحراك السلمي المنظم بما يحقق تطلعات الشعوب في الحرية والديموقراطية والنهضة الحضارية. والإصرار على أن تحقق عملية التغيير أهدافها كاملة مع تجنب العنف وإراقة الدماء.
2. الحرص على أن لا تعبر إرادة التغيير عن توجه فئة أو فصيل أو حزب معين، وإنما عن توجه قوى المجتمع المختلفة بكافة فئاته وأطيافه وطوائفه وأعراقه.
3. الحذر من الانزلاق إلى الصراعات الطائفية والعرقية، وسدّ الطرق في وجهها بكل الوسائل، لأنها أسوأ الأدوات لإفشال الانتصارات، والانتكاس والتراجع إلى أوضاع أسوأ من الأوضاع السابقة.
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات/ تقدير استراتيجي رقم (28) - نيسان/ أبريل 2011.