ارشيف من :ترجمات ودراسات
ريتشارد غولدستون: نموذج عن سيرة "العدالة الدولية"
عبد الحسين شبيب
لا يضيف القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون، الذي حمل صفة قاضٍ دولي منذ تاريخ توليه مهمات عدة ـ بدأت عام 1994 وحتى العام 1996 مدعياً عاماً للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، ومن العام 1999 حتى 2001 رئيساً للجنة التحقيق الدولية في كوسوفو، ثم مشرفاً على التحقيق في فساد "برنامج النفط مقابل الغذاء" في العراق، والذي تورطت فيه دول كثيرة ورموز عدة في "منظومة منتسبي الديمقراطية وحقوق الانسان...الخ" ـ لا يضيف اي جديد الى سيرة العدالة الدولية، بل هو يقدم دعما اضافيا لكل اولئك الذين لم تنطلِ عليهم تلك الخديعة الجديدة التي اسمُها القضاء الجنائي الدولي المشتق من ذلك المصطلح الاخر الهجين الذي اسمه القانون الدولي الانساني، المعبّر عنه فيزيائيا بهيئات تدعى المحاكم الجنائية الدولية، سواء تلك المؤقتة او تلك التي اسمها محكمة جنائية دائمة.
لا يحتاج احد الى استخدام تعابير الغرابة والدهشة والتفاجؤ من سلوك غولدستون الذي اشتهر اسمه بعد إعداد بعثة الامم المتحدة التي ترأسها للتحقيق تقريرا عن الانتهاكات التي جرت خلال حرب "الرصاص المسكوب" التي شنها جيش الاحتلال الاسرائيلي على قطاع غزة في السابع والعشرين من كانون الاول/ديسمبر عام 2008 واستمرت حتى الثامن عشر من كانون الثاني/ يناير عام 2009.
اساسا وازن الرجل في نهاية عمل فريقه بين الضحية والجلاد، وبقدر ما قام بتوصيف الانتهاكات الاسرائيلية ضد الفلسطينيين ووزعها بين اجراءات عقابية جماعية تنتهك الحقوق الاساسية للفلسطينيين، وبين جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية متكئاً على مقابلات مع الضحايا ومعاينا على الارض نتائج العدوان الاسرائيلي، وملاقياً كل تعاون من حكومة حماس واجهزتها ومن المنظمات الانسانية التي وثقت الجرائم الاسرائيلية، الا انه ورغم ان الحكومة الاسرائيلية رفضت استقباله والتعاون مع بعثته ولم تسمح لهم بزيارة المناطق التي طالتها صواريخ المقاومة الفلسطينية، الا انه قدم الادانة نفسها للمقاومة الفلسطينية ووصف ردها على الاعتداءات الاسرائيلية وقصفها المناطق المتاخمة لقطاع غزة، تارة على أنها جرائم حرب وطوراً على انها جرائم ضد الانسانية، وعليه كانت الحرب من وجهة نظره بين فريقين ارتكبا جرائم ومخالفات مماثلة، حتى لو كان عدد الشهداء الفلسطينيين تجاوز الالف والاربعمئة ضحية، وحتى لو كان عدد القتلى الاسرائيليين ثلاثة عشر شخصا فقط. اما تدمير المنازل والبنى التحتية وغيرها فلا مجال بتاتا للقياس بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي.
لكن لأننا لم نعتد على تقرير دولي يدين "اسرائيل" رغم ضحالة قوته القانونية كما سيتضح لاحقاً، فانه جرى التصفيق لغولدستون وذهب البعض الى حد التصفيق لمكسب جديد سجله الضحايا العرب في محفل تابع للامم المتحدة، من دون ان ننتبه الى ان المساواة بين الضحية والجلاد ترتب نفس الجزاءات القانونية في حال كان هناك اكمال لعمل فريق غولدستون. لكن هذا الامر لم يحصل لاسباب معروفة مسبوقة ومجربة اكثر من مرة، والذاكرة العربية والفلسطينية محشوة بالمجازر التي ارتكبها العدو الاسرائيلي من دون ان يساق احد من مجرميه الى قوس العدالة المحلية او الدولية. ومجزرة صبرا وشاتيلا شاهد حي على كيفية اجهاض محاولة يتيمة لمقاضاة ارييل شارون امام القضاء البلجيكي، وكيف نكثت بلجيكا بالتزاماتها التشريعية الداخلية عن حقوق الانسان وعدلتها تحت وطأة الضغوط الاميركية والاسرائيلية؛ وايضا لا يزال عجز المجتمع الدولي عن ارسال بعثة تقصي حقائق الى جنين بعد المجزرة التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي خلال عدوان "السور الواقي" ربيع العام 2002 شاهدا حياً، توّجه إخفاق آخر عندما خرجت أعلى هيئة قضائية تابعة للامم المتحدة هي محكمة العدل الدولية في لاهاي برأي استشاري يدين بناء الجدار الفاصل ويسبغ عليه من الاوصاف العنصرية وغيرها ما يوحي بان منشئيه سيساقون للتو الى المحكمة، قبل ان يرمي المجتمع الدولي مياهً باردة على الرؤوس التي اشتعلت حرارتها من شده التصفيق والابتهاج بقرار المحكمة، قبل ان يرمى في المزبلة الخاصة بالامم المتحدة والتي تحتوي على نفايات عبارة عن مئات القرارات التي صدرت وأدانت "اسرائيل" منذ اختلاق الكيان الغاصب حتى اليوم من دون ان يطبق ولو قرارا واحدا، وتتضمن ايضا مئات مشاريع القرارات التي كان يفترض ان تدين "اسرائيل" ولو ورقيا، ولكن الفيتو الاميركي قادها الى المزبلة نفسها.
صحيح ان المقالة التي كتبها غولدستون ونشرها في صحيفة "واشنطن بوست" الاميركية لغسل يديه من تقريره لا قيمة قانونية لها، لان تقريره هو حصيلة جهد مجموعة تحقيق كاملة وليس شخصا واحدا، فضلا عن ان التقرير سلك سلسلة الاجراءات الداخلية التي حولته الى وثيقة رسمية من وثائق الامم المتحدة يحتاج تعديلها او الغاؤها الى قرار من الجمعية العامة للامم المتحدة، تماما كما فعلت الجمعية عام 1991 عندما الغت قرارا سابقا اصدرته عام 1975 واعتبرت فيه الصهيونية شكلا من اشكال العنصرية، لكن الخارجية الاسرائيلية تفتقت عن فكرة اوصت بها الطواقم المختصة في "اسرائيل"، وهي ان يعملوا على اقناع غولدستون الذي تراجع في مقالته عن اتهاماته لـ"اسرائيل" باستهداف المدنيين عمدا في حرب غزة. وقال "انه ربما كان على خطأ في استنتاجاته، وانه لو علم آنذاك ما يعلمه الآن لكان التقرير مختلفا عما هو عليه الان"، بتحويل مقالته الى رسالة الى الامين العام للامم المتحدة والى مفوضة حقوق الانسان، وبذلك تصبح له قيمة قانونية ما، يمكن من استخدامها لتوفير الحماية القضائية لكبار المسؤولين الإسرائيليين في حال تقديم لوائح اتهام ضدهم في الخارج على خلفية حرب غزة، مع الاشارة الى ان غولدستون تراجع عن استنتاجاته بعد صدور أوامر اعتقال ضدهم في الخارج.
يبقى ان سيرة غولدستون هي في الاساس مؤشر لسلوكه، فالمتوافر عنه يفيد انه مواطن جنوب افريقي من اصل يهودي، وانه عضو في مجلس امناء الجامعة العبرية في القدس على مدى 25 عاماً، وانه زار "اسرائيل" مرات عدة، وان احدى ابنتيه تعيش منذ اكثر من عقد في الكيان الصهيوني، وهو كما يعرف عن نفسه "صهيوني مؤيد لاسرائيل"، كما نقل عنه رئيس "وكالة الفضاء" الإسرائيلية البروفيسور "يتسحاك بن يسرائيل" الذي لم يفاجأ بمقال غولدستون لانه التقاه قبل ستة اشهر وقال له انه لم يكن يقصد النتائج النهائية التي وردت في التقرير، وانه "لم يُفهم بشكل صحيح"، كما ان اخطاءه صححها بعد الضغوط التي قام بها اليهود في جنوب أفريقيا بحسب تأكيد رئيس الاتحاد الصهيوني هناك، أما وزير الداخلية الاسرائيلي "ايلي يشاي" فقال إنه تلقى وعدا عبر الهاتف من غولدستون باتخاذ إجراءات إضافية في مجال التراجع عما ذكره في التقرير.
لا يضيف القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون، الذي حمل صفة قاضٍ دولي منذ تاريخ توليه مهمات عدة ـ بدأت عام 1994 وحتى العام 1996 مدعياً عاماً للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، ومن العام 1999 حتى 2001 رئيساً للجنة التحقيق الدولية في كوسوفو، ثم مشرفاً على التحقيق في فساد "برنامج النفط مقابل الغذاء" في العراق، والذي تورطت فيه دول كثيرة ورموز عدة في "منظومة منتسبي الديمقراطية وحقوق الانسان...الخ" ـ لا يضيف اي جديد الى سيرة العدالة الدولية، بل هو يقدم دعما اضافيا لكل اولئك الذين لم تنطلِ عليهم تلك الخديعة الجديدة التي اسمُها القضاء الجنائي الدولي المشتق من ذلك المصطلح الاخر الهجين الذي اسمه القانون الدولي الانساني، المعبّر عنه فيزيائيا بهيئات تدعى المحاكم الجنائية الدولية، سواء تلك المؤقتة او تلك التي اسمها محكمة جنائية دائمة.
لا يحتاج احد الى استخدام تعابير الغرابة والدهشة والتفاجؤ من سلوك غولدستون الذي اشتهر اسمه بعد إعداد بعثة الامم المتحدة التي ترأسها للتحقيق تقريرا عن الانتهاكات التي جرت خلال حرب "الرصاص المسكوب" التي شنها جيش الاحتلال الاسرائيلي على قطاع غزة في السابع والعشرين من كانون الاول/ديسمبر عام 2008 واستمرت حتى الثامن عشر من كانون الثاني/ يناير عام 2009.
اساسا وازن الرجل في نهاية عمل فريقه بين الضحية والجلاد، وبقدر ما قام بتوصيف الانتهاكات الاسرائيلية ضد الفلسطينيين ووزعها بين اجراءات عقابية جماعية تنتهك الحقوق الاساسية للفلسطينيين، وبين جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية متكئاً على مقابلات مع الضحايا ومعاينا على الارض نتائج العدوان الاسرائيلي، وملاقياً كل تعاون من حكومة حماس واجهزتها ومن المنظمات الانسانية التي وثقت الجرائم الاسرائيلية، الا انه ورغم ان الحكومة الاسرائيلية رفضت استقباله والتعاون مع بعثته ولم تسمح لهم بزيارة المناطق التي طالتها صواريخ المقاومة الفلسطينية، الا انه قدم الادانة نفسها للمقاومة الفلسطينية ووصف ردها على الاعتداءات الاسرائيلية وقصفها المناطق المتاخمة لقطاع غزة، تارة على أنها جرائم حرب وطوراً على انها جرائم ضد الانسانية، وعليه كانت الحرب من وجهة نظره بين فريقين ارتكبا جرائم ومخالفات مماثلة، حتى لو كان عدد الشهداء الفلسطينيين تجاوز الالف والاربعمئة ضحية، وحتى لو كان عدد القتلى الاسرائيليين ثلاثة عشر شخصا فقط. اما تدمير المنازل والبنى التحتية وغيرها فلا مجال بتاتا للقياس بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي.
لكن لأننا لم نعتد على تقرير دولي يدين "اسرائيل" رغم ضحالة قوته القانونية كما سيتضح لاحقاً، فانه جرى التصفيق لغولدستون وذهب البعض الى حد التصفيق لمكسب جديد سجله الضحايا العرب في محفل تابع للامم المتحدة، من دون ان ننتبه الى ان المساواة بين الضحية والجلاد ترتب نفس الجزاءات القانونية في حال كان هناك اكمال لعمل فريق غولدستون. لكن هذا الامر لم يحصل لاسباب معروفة مسبوقة ومجربة اكثر من مرة، والذاكرة العربية والفلسطينية محشوة بالمجازر التي ارتكبها العدو الاسرائيلي من دون ان يساق احد من مجرميه الى قوس العدالة المحلية او الدولية. ومجزرة صبرا وشاتيلا شاهد حي على كيفية اجهاض محاولة يتيمة لمقاضاة ارييل شارون امام القضاء البلجيكي، وكيف نكثت بلجيكا بالتزاماتها التشريعية الداخلية عن حقوق الانسان وعدلتها تحت وطأة الضغوط الاميركية والاسرائيلية؛ وايضا لا يزال عجز المجتمع الدولي عن ارسال بعثة تقصي حقائق الى جنين بعد المجزرة التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي خلال عدوان "السور الواقي" ربيع العام 2002 شاهدا حياً، توّجه إخفاق آخر عندما خرجت أعلى هيئة قضائية تابعة للامم المتحدة هي محكمة العدل الدولية في لاهاي برأي استشاري يدين بناء الجدار الفاصل ويسبغ عليه من الاوصاف العنصرية وغيرها ما يوحي بان منشئيه سيساقون للتو الى المحكمة، قبل ان يرمي المجتمع الدولي مياهً باردة على الرؤوس التي اشتعلت حرارتها من شده التصفيق والابتهاج بقرار المحكمة، قبل ان يرمى في المزبلة الخاصة بالامم المتحدة والتي تحتوي على نفايات عبارة عن مئات القرارات التي صدرت وأدانت "اسرائيل" منذ اختلاق الكيان الغاصب حتى اليوم من دون ان يطبق ولو قرارا واحدا، وتتضمن ايضا مئات مشاريع القرارات التي كان يفترض ان تدين "اسرائيل" ولو ورقيا، ولكن الفيتو الاميركي قادها الى المزبلة نفسها.
صحيح ان المقالة التي كتبها غولدستون ونشرها في صحيفة "واشنطن بوست" الاميركية لغسل يديه من تقريره لا قيمة قانونية لها، لان تقريره هو حصيلة جهد مجموعة تحقيق كاملة وليس شخصا واحدا، فضلا عن ان التقرير سلك سلسلة الاجراءات الداخلية التي حولته الى وثيقة رسمية من وثائق الامم المتحدة يحتاج تعديلها او الغاؤها الى قرار من الجمعية العامة للامم المتحدة، تماما كما فعلت الجمعية عام 1991 عندما الغت قرارا سابقا اصدرته عام 1975 واعتبرت فيه الصهيونية شكلا من اشكال العنصرية، لكن الخارجية الاسرائيلية تفتقت عن فكرة اوصت بها الطواقم المختصة في "اسرائيل"، وهي ان يعملوا على اقناع غولدستون الذي تراجع في مقالته عن اتهاماته لـ"اسرائيل" باستهداف المدنيين عمدا في حرب غزة. وقال "انه ربما كان على خطأ في استنتاجاته، وانه لو علم آنذاك ما يعلمه الآن لكان التقرير مختلفا عما هو عليه الان"، بتحويل مقالته الى رسالة الى الامين العام للامم المتحدة والى مفوضة حقوق الانسان، وبذلك تصبح له قيمة قانونية ما، يمكن من استخدامها لتوفير الحماية القضائية لكبار المسؤولين الإسرائيليين في حال تقديم لوائح اتهام ضدهم في الخارج على خلفية حرب غزة، مع الاشارة الى ان غولدستون تراجع عن استنتاجاته بعد صدور أوامر اعتقال ضدهم في الخارج.
يبقى ان سيرة غولدستون هي في الاساس مؤشر لسلوكه، فالمتوافر عنه يفيد انه مواطن جنوب افريقي من اصل يهودي، وانه عضو في مجلس امناء الجامعة العبرية في القدس على مدى 25 عاماً، وانه زار "اسرائيل" مرات عدة، وان احدى ابنتيه تعيش منذ اكثر من عقد في الكيان الصهيوني، وهو كما يعرف عن نفسه "صهيوني مؤيد لاسرائيل"، كما نقل عنه رئيس "وكالة الفضاء" الإسرائيلية البروفيسور "يتسحاك بن يسرائيل" الذي لم يفاجأ بمقال غولدستون لانه التقاه قبل ستة اشهر وقال له انه لم يكن يقصد النتائج النهائية التي وردت في التقرير، وانه "لم يُفهم بشكل صحيح"، كما ان اخطاءه صححها بعد الضغوط التي قام بها اليهود في جنوب أفريقيا بحسب تأكيد رئيس الاتحاد الصهيوني هناك، أما وزير الداخلية الاسرائيلي "ايلي يشاي" فقال إنه تلقى وعدا عبر الهاتف من غولدستون باتخاذ إجراءات إضافية في مجال التراجع عما ذكره في التقرير.