ارشيف من :ترجمات ودراسات
17 نيسان تاريخ يجب ان لا ننساه
لؤي توفيق حسن(*)
17 نيسان ذكرى لمحطتين كبيرتين. الأولى ما زالت نابضةً بالحياة. والثانية طوتها دفاتر الزمن.
المحطة الأولى. جلاء الجيوش الفرنسية عن سوريا عام 1946. تاريخ يختصر عقوداً من الكفاح الدامي في سبيل الحرية والاستقلال والوحدة.
المحطة الثانية. جاءت بعد 17 سنة بالتمام يوم أُعلن من القاهرة عام 1963 عن قيام "الجمهوريات العربية المتحدة" فيما أُسميَ يومها: "ميثاق 17 نيسان".
خرجت الأولى من لدن ثلاث ثورات استولدتها. فانطبعت دلالاتها على علم دولة الاستقلال. "الجمهورية السورية" ثلاث نجمات باللون الأحمر: الثورة العربية الكبرى. الثورة السورية الكبرى. معارك الجلاء.
خاض أرباب الثورة السورية الكبرى كفاحهم ليس وحسب لطرد المستعمر الفرنسي. وانما ليستكملوا بها الأهداف التي من أجلها قامت الثورة العربية ومنها إقامة "دولة العرب الواحدة".
لم تدَّعِ سوريا بأنها نالت حقها من الاستقلال مع إبرام معاهدة عام 1943- كما فعل لبنان!- إذ لا استقلال وأرض الوطن تدنسه أقدام المحتلين. لذلك خاض احرار سوريا معارك الجلاء، عام 1945 حرباً بكل ما للكلمة من معنى حين اشتعلت المواجهات في كل المحافظات. جاء اكثرها وحشيةَ قصف دمشق بالمدفعية واقتحام البرلمان وإبادة حاميته.
بعد انسحاب الفرنسيين كُتب على لوحة رخامية فوق مدخل كلية الحقوق بجامعة دمشق "معركة الجلاء. ثأراً لموقعه ميسلون". وهي كذلك بحق.
خرج الاستعمار من الباب، ليتسلل بلبوس آخر من الشباك، فكان على أحرار سوريا ان يميزوا بين الغثّ والسمين. فكل المشاريع (الوحدوية!) التي طُرِحت مطلع الخمسينيات كانت غلافاً لمشاريع استعمارية تهدف الى ربط المنطقة بمنظومة الأحلاف الغربية. وعلى هذا أضحت سوريا ساحةً لصراع المحاور الإقليمية التي استولدتها التجاذبات الدولية. ذلك لأن القاعدة الذهبية في الصراع على الشرق الاوسط كانت وما زالت:"من يكسب سوريا في صفّه يربح المعركة". وهذا يفسر باختصار شديد سر الانقلابات المتعاقبة التي شهدتها دمشق منذ عام 1949 وحتى 1954. ويفسر اموراً كثيرة في حاضرنا أيضاً.
لقد كانت قوى التقدم والعروبة رأس الحربة في مواجهة مشاريع إلحاق سوريا بالأحلاف.. مشاريع كان لها انصارٌ من الساسة في الداخل. لكن ذلك لم يحرف تلك القوى عن النضال في سبيل الوحدة. بل لعلها وجدتها ضرورة لمقارعة المشاريع تلك. فكان لها عام 1958 ما أرادته مع مصر عبد الناصر. فخرجت "الجمهورية العربية المتحدة" بإقليميها السوري والمصري.حلم عربي كبير انتظرته الاجيال، أقلق الغرب حتى تآمر عليه مستخدماً قوى الرجعية العربية أداةً لذلك.
لكن احلام الوحدة في سوريا – (كانت وما زالت) – مثل طائر الفينيق تخرج من الرماد. فبعد 17 سنة بالتمام من الاستقلال تجدّد الحلم مرة أخرى مع الإعلان عن قيام "الجمهوريات العربية المتحدة": سوريا. مصر. العراق. فرفعت سوريا راية هذه الوحدة علماً بثلاث نجمات خضروات. فرصة أخرى انضمت الى فرصنا الضائعة التي كان يمكن ان يتغير بها وجه المنطقة.. فرصة بدّدتها بقايا قبليتنا الجاهلية. ونرجو ان لا تبدّد ما تبقى لنا من آمالٍ وأحلامٍ تستمد الرجاء من هذا التاريخ النضالي المخضب بدم الأحرار.
في ذكرى الجلاء يظهر وجه مشرقٌ من تاريخنا. فيمرّ أمامنا طيف الرجال الذين صنعوا استقلال وحرية سوريا. ولعلهم ينادون الآن: (صرحٌ صنعه لكم الرجال.. فحافظوا عليه كالرجال).
ان الصراع على سوريا، او مع سوريا هو على أشده الآن. صراعٌ مفصلي تتحدد على ضوئه ملامح الحاضر والمستقبل. وبالتدقيق سنجد بأن هذا البلد يخوض معركتين متداخلتين. (الجهاد الأكبر) في سبيل التطور والحداثة، وهما رافدان لمعركتها مع الخارج، وهو يسعى لكسر شوكتها ودورها الممانع. إذ لا تفوتنا الحقيقة: ان صراعنا مع العدو هو صراع حضاري بالمعنى الشامل للكلمة. بمقدار ما هو مكاسرة بين إرادتين.
{ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إِذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنتَ الوهاب}. (آل عمران: 8).
(*) كاتب من لبنان
17 نيسان ذكرى لمحطتين كبيرتين. الأولى ما زالت نابضةً بالحياة. والثانية طوتها دفاتر الزمن.
المحطة الأولى. جلاء الجيوش الفرنسية عن سوريا عام 1946. تاريخ يختصر عقوداً من الكفاح الدامي في سبيل الحرية والاستقلال والوحدة.
المحطة الثانية. جاءت بعد 17 سنة بالتمام يوم أُعلن من القاهرة عام 1963 عن قيام "الجمهوريات العربية المتحدة" فيما أُسميَ يومها: "ميثاق 17 نيسان".
خرجت الأولى من لدن ثلاث ثورات استولدتها. فانطبعت دلالاتها على علم دولة الاستقلال. "الجمهورية السورية" ثلاث نجمات باللون الأحمر: الثورة العربية الكبرى. الثورة السورية الكبرى. معارك الجلاء.
خاض أرباب الثورة السورية الكبرى كفاحهم ليس وحسب لطرد المستعمر الفرنسي. وانما ليستكملوا بها الأهداف التي من أجلها قامت الثورة العربية ومنها إقامة "دولة العرب الواحدة".
لم تدَّعِ سوريا بأنها نالت حقها من الاستقلال مع إبرام معاهدة عام 1943- كما فعل لبنان!- إذ لا استقلال وأرض الوطن تدنسه أقدام المحتلين. لذلك خاض احرار سوريا معارك الجلاء، عام 1945 حرباً بكل ما للكلمة من معنى حين اشتعلت المواجهات في كل المحافظات. جاء اكثرها وحشيةَ قصف دمشق بالمدفعية واقتحام البرلمان وإبادة حاميته.
بعد انسحاب الفرنسيين كُتب على لوحة رخامية فوق مدخل كلية الحقوق بجامعة دمشق "معركة الجلاء. ثأراً لموقعه ميسلون". وهي كذلك بحق.
خرج الاستعمار من الباب، ليتسلل بلبوس آخر من الشباك، فكان على أحرار سوريا ان يميزوا بين الغثّ والسمين. فكل المشاريع (الوحدوية!) التي طُرِحت مطلع الخمسينيات كانت غلافاً لمشاريع استعمارية تهدف الى ربط المنطقة بمنظومة الأحلاف الغربية. وعلى هذا أضحت سوريا ساحةً لصراع المحاور الإقليمية التي استولدتها التجاذبات الدولية. ذلك لأن القاعدة الذهبية في الصراع على الشرق الاوسط كانت وما زالت:"من يكسب سوريا في صفّه يربح المعركة". وهذا يفسر باختصار شديد سر الانقلابات المتعاقبة التي شهدتها دمشق منذ عام 1949 وحتى 1954. ويفسر اموراً كثيرة في حاضرنا أيضاً.
لقد كانت قوى التقدم والعروبة رأس الحربة في مواجهة مشاريع إلحاق سوريا بالأحلاف.. مشاريع كان لها انصارٌ من الساسة في الداخل. لكن ذلك لم يحرف تلك القوى عن النضال في سبيل الوحدة. بل لعلها وجدتها ضرورة لمقارعة المشاريع تلك. فكان لها عام 1958 ما أرادته مع مصر عبد الناصر. فخرجت "الجمهورية العربية المتحدة" بإقليميها السوري والمصري.حلم عربي كبير انتظرته الاجيال، أقلق الغرب حتى تآمر عليه مستخدماً قوى الرجعية العربية أداةً لذلك.
لكن احلام الوحدة في سوريا – (كانت وما زالت) – مثل طائر الفينيق تخرج من الرماد. فبعد 17 سنة بالتمام من الاستقلال تجدّد الحلم مرة أخرى مع الإعلان عن قيام "الجمهوريات العربية المتحدة": سوريا. مصر. العراق. فرفعت سوريا راية هذه الوحدة علماً بثلاث نجمات خضروات. فرصة أخرى انضمت الى فرصنا الضائعة التي كان يمكن ان يتغير بها وجه المنطقة.. فرصة بدّدتها بقايا قبليتنا الجاهلية. ونرجو ان لا تبدّد ما تبقى لنا من آمالٍ وأحلامٍ تستمد الرجاء من هذا التاريخ النضالي المخضب بدم الأحرار.
في ذكرى الجلاء يظهر وجه مشرقٌ من تاريخنا. فيمرّ أمامنا طيف الرجال الذين صنعوا استقلال وحرية سوريا. ولعلهم ينادون الآن: (صرحٌ صنعه لكم الرجال.. فحافظوا عليه كالرجال).
ان الصراع على سوريا، او مع سوريا هو على أشده الآن. صراعٌ مفصلي تتحدد على ضوئه ملامح الحاضر والمستقبل. وبالتدقيق سنجد بأن هذا البلد يخوض معركتين متداخلتين. (الجهاد الأكبر) في سبيل التطور والحداثة، وهما رافدان لمعركتها مع الخارج، وهو يسعى لكسر شوكتها ودورها الممانع. إذ لا تفوتنا الحقيقة: ان صراعنا مع العدو هو صراع حضاري بالمعنى الشامل للكلمة. بمقدار ما هو مكاسرة بين إرادتين.
{ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إِذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنتَ الوهاب}. (آل عمران: 8).
(*) كاتب من لبنان