ارشيف من :آراء وتحليلات

الثورات العربية والمواجهات المفروضة

الثورات العربية والمواجهات المفروضة

عقيل الشيخ حسين

هنالك في الغرب واستطراداً في بلداننا من يتخوف على الثورات العربية ويعقد المؤتمرات التي تقرر أن "الاستثمار" هو سبيل نجاتها الملكي، على أساس أن مصر وليبيا تمران بظروف اقتصادية زادتهما الثورة صعوبة على صعوبة.

والاستثمار الذي يطلق الكلام عنه، رغم كثرة أشكاله وتعددها تبعاً للمنطلقات والأهداف والطبيعة المناسبة أو غير المناسبة لمصالح المجتمع، هو تحديداً نمط الاستثمار الذي كان في طليعة الأسباب التي كانت وراء تفجر الثورات.

أي إنه ذلك الاستثمار الذي يرتئيه ويمليه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي يمكن التعبير عنه من خلال الترسيمة المعروفة التي كانت خلال العقود المنصرمة وسيلة ناجعة في تدمير اقتصادات بلدان العالم الثالث ومنها بلدان عالمنا العربي والإسلامي.

تقوم تلك الترسيمة على أركان أولها الاستدانة من مصارف الغرب. والاستدانة تعود قبل كل شيء بالربح العميم، على شكل عمولات، لمصلحة صاحب القلم الذي يمهر بتوقيعه العقود والاتفاقيات التي يتم بموجبها منح القروض.

وصاحب القلم الذي لا يمكن أن يكون غير رأس النظام، مباشرة، أو ممثلاً بأحد وكلائه أو عملائه، لا يكون رائده البحث عما فيه مصلحة اقتصاد البلد، بل عما فيه مصلحة حساباته السرية وغير السرية في مصارف الغرب أو، في مصارف بعض بلداننا التي باتت عواصم مالية تضاهي عواصم الغرب.

وإلا، فكيف نفسر الأرقام الخيالية لثروات الزعيمين العربيين المخلوعين وأفراد أسرتيهما وحاشيتيهما، والتي تم الكشف عنها بعد الثورتين وقبلهما، وهي الأرقام التي توازي حجم مديونات البلدين؟

وبعد الاستدانة، يأتي التوظيف. والتوظيف لا يتم إلا بإرشاد من البنك والصندوق المذكورين وحصرياً في قطاعات غير منتجة بالمعنى الفعلي للانتاج الاجتماعي. ومن يعود بذاكرته إلى خطابات جورج بوش الابن، لا بد وأن يلاحظ ان تركيزه على مكافحة الإرهاب لم يكن يقل عن تركيزه، في معرض توجيهاته للبلدان الرغبة بالحصول على حظوة الولايات المتحدة، على ضرورة الاستثمار في الصحة والتعليم.

والصحة والتعليم، بالمفهوم الرأسمالي الريعي السائد، قطاعان ظاهرهما الرحمة وباطنهما العذاب: استثمار في " الإنسان"، بما هو كائن ـ فيما يخص الصحة ـ يمارس عليه إرهاب الأمراض، ويستجيب لذلك الإرهاب، ويكون عليه أن يصبح مستهلكاً متعدد الاحتياجات لمنتجات وخبرات شركات الأدوية والخدمات الاستشفائية المتكاثرة في ظل البرامج الناجحة لـ"تنمية الأمراض" الفعلية والوهمية. وما ينجم عن ذلك من استنزاف ما لديه، أو ما لدى صناديق الضمان الاجتماعي، من قدرات مالية، على طريق تدميره وتدمير دولته، اقتصادياً، بحجر واحد.

واستثمار في "الإنسان"، بما هو كائن يمارس عليه إرهاب الجهل وتأمين المستقبل عن طريق التعليم، ويستجيب لذلك الإرهاب، فيدخل في سوق "العلم" من بابه الواسع، ويدفع تكاليف التعليم الباهظة، ليتخرج باختصاصات " عالية" من نوع اختصاصات مئات الملايين، في عالمنا العربي وغير العربي، من حملة الشهادات العليا الذين يعج بهم سوق البطالة...

الصحة والتعليم وثالثة الأثافي، السياحة. وما يرتبط بالسياحة من خدمات في مجالات النقل ومرافق الاستهلاك الأخرى، في عالم تتجاور فيه الفنادق الضخمة بنجومها المتكاثرة، والمراكز التجارية الكبرى، والمنتجعات، مع ضواحي الصفيح والإسمنت التي يحشر فيها السواد الأعظم من بني البشر.

ومع ما يرتبط بالسياحة من عمليات "تثاقف" وتبادل "حضاري"، من تعبيراته الكثيرة أن الغربيين الذين يأتون للتمتع، بالثمن البخس، بما في بلداننا من ملذات، يعرفون كلمة "بقشيش" عن ظهر قلب لكثرة ما يسمعونها من جمهرة من بات السياح أولياء نعمتهم ومجال رزقهم الوحيد.

وبعد الاستقراض والتوظيف تجتمع الأرباح لتعود من حيث أتت، مروراً بما لا يحصى من ممارسات الفساد المتعدد الأشكال، بينما يتواصل زحف الفقر على مستوى الطبقات الفقيرة التي لا ينالها من التنمية المستدامة وغير المستدامة غير تنمية بؤسها.

وعندما تنشب الثورة في مصر وتونس مثلاً، وتصل في جملة ما تصل إليه، إلى محاكمة رؤوس الفساد، كما في حالة حسني مبارك وحرمه وأولاده وحاشيتهم، أو إلى مطالبة السعودية بتسليم زين العابدين بن علي لمحاكمته... وما لا بد للمحاكمة من أن تمر عليه في مجال استرداد أموال الناس المنهوبة... تخرج وزارة "العدل" السويسرية بقرار مفاده أنها لن تتعاون مع مطالب البلدين باسترداد ودائع الزعيمين المخلوعين في المصارف السويسرية.

قرار من المنتظر أن تتخذه وزارات العدل الأخرى في البلدان المستضيفة لأموال العرب، في تدليل صارخ على أن المواجهة ليست بين الثورات العربية والحكام الفاسدين وحسب، بل هي أيضاً، وخصوصاً، بينها وبين الدوائر الأجنبية التي ترعى هؤلاء الحكام.

وأن معيار ثورية هذه الثورات هو في استكمال تحقيق ذاتها عبر المواجهة مع نظام عالمي يشكل الحكام أضعف حلقاته. والمواجهة تقتضي، في طليعة ما تقتضيه، إعادة النظر الجذرية في أنماط الاستثمار والاستهلاك السائدة، مع الانتباه الشديد للعمل بخلاف إرشادات الصندوق والبنك الدوليين، وما يرتبط بهما من مؤتمرات وندوات غرضها إفشال الثورات العربية، بطريقة غير الطريقة المتبعة حتى الآن في ليبيا، حيث اكتشف بعض الناطقين باسم الثورة أن الثورة باتت ـ في ظل ألاعيب الناتو ـ في مواجهة مع القذافي والناتو معاً.

2011-04-18