ارشيف من :أخبار لبنانية
الدولة اليهودية: إشكاليات الهوية، الجغرافيا السياسية، الديموغرافيا
د. محمد مراد(*)
ارتكز مشروع الدولة اليهودية، منذ نشأته كفكرة أولية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى القومية اليهودية بوصفها خصوصية دينية توراتية وتاريخية.
من هنا، كان الربط الجدلي لدعاة الصهيونية الأوائل، بين الدين والتاريخ من جهة، والجغرافيا، أي الأرض والمقصود بها أرض الميعاد" أي فلسطين، من جهة أخرى.
تحوَّلت الأيديولوجيا القومية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلى مشروع صهيوني استيطاني – إحلالي في فلسطين، قلب المجال الحيوي للمشرق العربي، وقد برز كاستجابة لزعم توراتي يقوم على مبدأ "الإسترجاعية"، أي العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) حيث تنشأ الدولة اليهودية على مدى جغرافي سياسي مفتوح يغطي مساحة فلسطين التاريخية، ويكون قادرًا على التحوُّل إلى مشروع جيوسياسي يضمن السيطرة والتفوُّق على كامل المجال الحيوي العربي الذي يربط بين أربع نقاط ارتكاز: بلاد ما بين النهرين (الفرات) شرقًا، ومصر (النيل) غربًا، وبلاد الشام (البحر المتوسط) شمالاً، وشبه الجزيرة العربية (البحر الأحمر) جنوبًا.
جاء قيام إسرائيل العام 1948 ليشكِّل الحلقة المركزية في بنيان صرح الدولة اليهودية المزعومة. وكانت حروب التفوُّق الإسرائيلي المتواصلة ضد العرب والفلسطينيين، ومخطَّطات الاستيطان التي لم تتوقَّف، والتي كانت تحصل بموازاة الطرد الإكراهي للفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئي شتات، منسجمةً مع استراتيجية صهيونية هادفة إلى إنجاز تهويد الدولة كهدف أعلى للمشروع الصهيوني.
إلا أنَّ هذا المشروع، وعلى الرغم من كل التعبئة الأيديولوجية التي منحت له، وتوافر وسائل الدعم المادي والعسكري والسياسي كلها من جانب رأسماليات المركز الغربي لمصلحته، فإنه، في الواقع، كان يتطوَّر على قاعدة مأزق استكمال الدولة الذي يقوم على ثلاث إشكاليات أساسية ما زالت، حتى اليوم، عصيَّة على الحلول الحاسمة، وهي إشكاليات الهوية، والجغرافيا السياسية والديمغرافيا.
بسبب هذه الإشكاليات، باتت مقولة "يهودية الدولة" تحتلُّ في الآونة الأخيرة أولوية مطلقة في الخطاب السياسي لإسرائيلي إذ برزت بقوة على طاولة المفاوضات المباشرة التي دارت مؤخرًا بين الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني في واشنطن وشرم
الشيخ والقدس. وإذا كانت هذه المفاوضات قد جرت بتحفيز سياسي ودبلوماسي من قبل الإدارة الحالية الحاكمة في البيت الأبيض، إذ رأى فيها الرئيس باراك أوباما عنصرًا مساعدًا لإدارته ولحزبه الديمقراطي في توظيفها إعلاميًا لمصلحة حملته الانتخابية النصفية – انتخابات نصف الكونغرس في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2010 و والتي انتهت بخسارة الديموقراطيين الأغلبية في مجلس النواب وتقليص أغلبيتهم في مجلس الشيوخ ، فإنَّ المفاوض الإسرائيلي بالمقابل، يسعى إلى تحقيق جملة من المكاسب ما استطاع تحقيقها في السابق عبر سلسلة الحروب التي خاضتها إسرائيل وما تزال، مع غير جبهة عربية أو فلسطينية منذ قيامها ككيان سياسي منذ العام 1948 وحتى الآن.
إنَّ سيطرة مقولة "يهودية الدولة" على الخطاب السياسي الإسرائيلي في الوقت الراهن، إنما تهدف إلى إعادة التركيز على العامل الأيديولوجي في شدّ عصبية اليهود داخل فلسطين المحتلة وخارجها من أجل مواجهة التحديَّات التي ما زالت تحول دون استكمال مشروع الدولة، لا بل أنها تضع مصير هذه الدولة ووجودها على مفترق طرق.
فكرة الدولة اليهودية
بدأت ملامح الظهور الأول لفكرة "الدولة اليهودية" مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فكرة لم تكن معزولة عن التطوُّرات النوعية التي شهدتها الرأسماليات الأوروبية سواء على مستوى صعودها التراكمي من جهة، أم على مستوى التحوُّلات الفكرية والأيديولوجية والسياسية الناشئة عنها من جهة أخرى. ولم تلبث أن شهدت مزيدًا من التبلور على أيدي عناصر نخبوية يهودية أوروبية عاصرت التحوُّلات الهامة التي عرفتها أوروبا في الاقتصاد والأيديولوجيا والعلاقات الدولية، وكان أبرزها قد تمثّل بظاهرتين إثنتين: الأولى، تحوُّل رأسمالية المركز الأوروبي باتجاه الكولونيالية، وهي نزعة استعمارية قائمة على التوسّع والسيطرة على بلدان خارج أراضيها لا سيما في آسيا وإفريقيا بهدف تأمين التراكم في دوراتها الاقتصادية عبر فتح المزيد من الأسواق الخارجية والحصول على المواد الخام الضرورية لصناعاتها المتطورة، والثانية، ظاهرة الدولة – الأمة أو الدولة القومية، وهي مستجدَّة على الاجتماع السياسي الأوروبي الذي أُرسيت دعائمه على أساس الربط العضوي بين ثلاثة مرتكزات أساسية هي الأرض كجغرافيا سياسية، والشعب كجماعة بشرية متفاعلة، والهيئة الحاكمة أي السلطة المركزية على رأس الهرم السياسي.
كانت الحركة الصهيونية (Le Sionisme) بمنزلة النواة الفكرية التي راحت تضع المنطلقات النظرية لقيام دولة تجمع شمل اليهود من الشتات العالمي. وقد ارتكزت في مشروعها إلى مرتكزين أساسيين: الأول، ديني أيديولوجي، من خلال العودة إلى مقولات توراتية تضمَّنها العهد القديم، وهي مقولات تعبوية ثقافية تدعو اليهود إلى العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) بوصفهم الجماعة البشرية المختارة إلهيًا من أجل سلام العالم وخلاصه من الشرور والآثام، والثاني، تاريخي انتسابي من حيث استحضار "صهيون" في الذاكرة التاريخية اليهودية عبر الربط بين تسمية الحركة بالصهيونية وصهيون الذي ورد في العهد القديم، وهو يرمز إلى مدينة الملك الأعظم، أي مدينة الإله (ملك إسرائيل). فالمدينة كانت قد حملت إسم الجبل الذي بنيت عليه، وهو جبل عالٍ في فلسطين. كل ذلك من أجل إيجاد مرتكز جغرافي تبريري (أرض) لقيام الدولة اليهودية المزعومة(1).
*دعاة الصهيونية والدولة اليهودية*
كان موسى هيس (Moussa Hess) في طليعة العناصر النخبويين اليهود الذين أسهموا في إنطلاقة الحركة الصهيونية، وفي رسم هدفها المركزي بتقوية الروابط الدينية بين اليهود المنتشرين في غير بلدٍ في العالم. ففي كتابه "روما والقدس" الذي أصدره العام 1862، لم يتطرَّق هيس إلى قيام دولة يهودية ولكنه بحث السبل المثلى لتحقيق أحلام اليهود في إقامة نظام إجتماعي في فلسطين. فهو يرى أنَّ مثل هذا النظام ينسجم مع الوظيفة اليهودية في قيادة العالم، وهي الوظيفة التي خصَّ بها الله اليهود في التاريخ. وحسب زعمه "إنَّ أوامر الله لليهود هي تطبيقهم القانون الذي أرسلهم الله ليعلّموه للشعوب الأخرى، وإنَّ أقسى عقوبة فرضت عليهم كانت لانحرافهم عن الطريق الذي وضعته العناية الإلهية. أما عجزهم عن عبادة الله كأمّة متكاملة فكان بسبب فقدهم لأرضهم".
ويتوقَّف هيس عند أرض فلسطين ليس فحسب بوصفها أرضًا تتسم بخصوصية تاريخية بالنسبة إلى اليهود، وإنما أيضًا بوصفها موقعًا جيو ـ استراتيجيًا من حيث أنها تمثّل الطريق الرئيس والمركز الجغرافي المهم للمدينة الغربية على الطريق المتجهة إلى الهند، وحتى يتمكَّن اليهود من تحقيق مركز لهم على هذا الطريق لا ينقصهم المال والكفاءات أو العمال وغيرهم(2).
وأشار هيس إلى أنّ قيام دولة يهودية في فلسطين "سوف يحقِّق الرسالة الحضارية لليهود في نقل الحضارة إلى الشعوب المتخلِّفة في آسيا وإفريقيا، وأنّ ذلك سيكون من خلال تأسيس المستوطنات اليهودية عبر رقعةٍ ممتدة من السويس إلى القدس، ومن نهر الأردن حتى البحر المتوسط"(3).
مع الكاتب اليهودي "نورمان بنتويتش" (Norman Bentwitch) إرتدى مشروع الدولة اليهودية في فلسطين – قلب الشرق الأوسط – أهمية جيوبوليتيكية بحكم خصوصية الموقع الفلسطيني كنقطة ارتكاز لمجال حيوي يربط بين شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. والمعروف أنّ هذه المناطق تتميَّز بحضارات تاريخية شكّلت تقاطعات لحضارات عالمية. فقد أوضح بنتويتش هذه الخصوصية لفلسطين إلى القادة الإنكليز مظهرًا لهم الدور الذي يمكن أن تقوم به دولة يهودية في المستقبل(4).
مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان مشروع الدولة اليهودية قد عرف بعض الترجمة الميدانية عندما بدأ المليونير اليهودي "روتشيلد" يغذِّي اليهود بتأسيس مزارع في فلسطين، ثم تبعته مؤسسات مالية أخرى في عدة دول من العالم من أجل تشجيع الهجرة الزراعية تمهيدًا للإستيلاء على الأراضي في فلسطين. كما عمل المفكِّرون اليهود على تكثيف الدعاية الإعلامية التي تحرِّض على هجرة اليهود إلى فلسطين عبر حملات دعائية منظمة قامت بها جمعيات ومؤتمرات عديدة لتحقيق الحلم الذي كان يراود اليهودي، وبخاصة البائس والمضطهد والمنعزل داخل أسوار "الغيتو" في بلدان أوروبا، في المجيء إلى فلسطين ليعمل في الأراضي الزراعية تمهيدًا للإستيلاء عليها بعد طرد سكانها الأصليين.
من بين الجمعيات التي راحت تُؤلب الرأي العام اليهودي للهجرة إلى فلسطين، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت "محبي صهيون"، التي أنشأها كتّاب وطلاّب جامعيون في روسيا وعمّال يهود العام 1867، وكذلك جمعية أخرى ناشطة في أوكرانيا كانت قد أرسلت أول فوج من مهاجري يهود أوروبا الشرقية إلى فلسطين العام 1882(5).
هرتزل والدولة اليهودية
اعتُبر "تيودور هرتزل"، وهو صحافي نمسوي ذاع صيته في عالم الصحافة الأوروبية خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، بحق بمنزلة الأب الروحي للحركة الصهيونية، والمؤسس لمشروع الدولة اليهودية وفق مقولات فكرية أيديولوجية وسياسية.
العام 1896 نشر هرتزل كتابه "الدولة اليهودية" موضحًا فيه أنّ فكرة هذه الدولة ليست بالطارئة أو الجديدة، وإنما هي "فكرة موغلة في القدم، وهي فكرة استعادة الدولة اليهودية"(6). وهنا يريد هرتزل أن يُضفي على مشروع الدولة بعدًا
تاريخيًا من أجل تقديم مسوّغ تبريري لكون استعادة هذه الدولة هي بمنزلة "حق تاريخي" لليهود. ولمّا كانت الدولة متماهية مع القومية فإنَّ قومية اليهود "لا يمكن أن تفنى ولن تفنى ولا ينبغي لها أن تفنى. وقد تبلى فروع كثيرة من اليهودية وتسقط أما الجذوع فإنها تبقى ثابتة"(7).
في الواقع، ربط هرتزل أيديولوجيًا بين ثلاثة أبعاد لدولته اليهودية: الأول، البعد الاجتماعي من خلال التوجُّه إلى يهود الطبقات الدنيا في السلّم الاجتماعي الأوروبي، والثاني، البعد الديني التوراتي، في محاولة لاستحضار مقولتي "أرض
الميعاد" و"شعب الله المختار"، وإظهار أنَّ استعادة إحياء الدولة اليهودية هي مسألة تكليف إلهي، والثالث، البعد القومي على اعتبار أنّ اليهود، على الرغم من توزيعهم في الشتات، هم شعب واحد. فقد جاء في قوله: "أعتقد أنّ المسألة اليهودية
لم تعد مجرد مشكلة إجتماعية بقدر ما هي قضية دينية، ومع ذلك قد تتخذ أشكالاً أخرى، إنها قضية قومية يمكن حلُّها فحسب عندما تعالج كقضية سياسية عالمية تناقشها شعوب العالم المتحضِّر في مجلس دولي. إننا شعب.. وشعب واحد"(8).
أما مرتكزات قيام الدولة اليهودية فقد حدّدها هرتزل بثلاثة أساسية(9):
الأول، السيادة اليهودية على جزء من الأرض، يكون كافيًا للاحتياجات الحقيقية
للأمة. وبعد ذلك يعود الأمر إلى اليهود بتقدير الجغرافيا السياسية للدولة –
الأمة على قاعدة أنّ الأرض هي الأساس الموضوعي للدولة في حين يمثل الشعب الأساس الذاتي.
الثاني، النخبة السياسية التي تتولَّى التخطيط وإجراء المباحثات والتفاوض، وهي عبارة عن جمعية سوف تنال اعتراف الحكومات العالمية بوصفها سلطة لإقامة الدولة.
الثالث، الشركة اليهودية التي تمثِّل الشرط الاقتصادي لإقامة الدولة، وعليها يتوقَّف توفير رأس المال وتحقيق المصالح المالية لليهود الوافدين، وسوف تُنظم الاقتصاد والتجارة في الدولة الجديدة.
وبالنسبة إلى الأرض التي ستنشأ عليها الدولة أو بالأحرى الجغرافية السياسية للدولة اليهودية، فقد حسم هرتزل الجدل عندما أعطى الأولوية لفلسطين على الأرجنتين حيث جاء في قوله: "إنّ الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي
تمتد على مساحات شاسعة وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل. وجمهورية الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها.. أما فلسطين فإنها وطننا التاريخي الذي لا تُمحى ذكراه، إنّ اسم فلسطين بحدّ ذاته سيجتذب شعبنا بقوة ذات فعالية رائعة. فإذا منحنا جلالة السلطان فلسطين سنأخذ على عاتقنا بالمقابل، تنظيم مالية تركيا. ومن هناك سوف نشكِّل جزءًا من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية.
وعلينا – كدولة طبيعية – أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا"(10).
في خاتمة كتابه يطلق هرتزل نداءً إلى يهود العالم يخاطبهم بالقول: "فيا إخواننا اليهود هذه هي "أرض الميعاد"! لا أسطورة هي ولا خدعة، وكل إنسان يستطيع أن يختبر حقيقتها بنفسه، لأن كل إنسان سيحمل معه قطعة من أرض الميعاد: بعضها في رأسه، وبعضها بين ذراعيه، وبعضها في ملكيتها المكتسبة"(11).
هكذا وضع هرتزل الأساس الأيديولوجي لدولته اليهودية، وهو أساس مزج بين التوراتي التاريخي من جهة، والقومي العلماني من جهة أخرى. فهو أعار أهمية بالغة للاعتبارات الدينية، إلا أنها اعتبارات لم تخرج عن كونها وسيلة ضرورية للتعبئة والشحن النفسي ليهود العالم من أجل دفعهم تحت توهُّج الحرارة الدينية إلى الهجرة باتجاه فلسطين. وقد أوضح هرتزل هذه الوسيلة عندما أناط وظيفة الهجرة برجال دين أي بحاخامات يهود يتولَّون قيادة المجموعات المهاجرة. إنّ "كلَّ
مجموعة سيكون لها حاخامها يسافر مع رعيته. وسوف تتشكَّل المجموعات المحلية في ما بعد تشكيلاً تطوعيًا حول حاخاماتها، وسوف يكون لكل مجموعة محليَّة قائدها الروحي". وعن وظيفة هؤلاء الحاخامات أوضحها هرتزل بالقول: "إنّ حاخاماتنا الذين نوجِّه إليهم دعوة خاصة سيكرِّسون طاقاتهم في خدمة فكرتنا، وسيحفزون رعاياهم بالوعظ من فوق منابرهم.. فدعوة كهذه جديرة بأن يتردَّد صداها بين جدران المعابد"(12).
هذه الوظيفة الوعظية لمدرسة المعابد هي وظيفة مكيافللية من حيث أنّها وسيلة في خدمة الغاية أو الهدف الأعلى الذي يتمثّل بإقامة الدولة اليهودية وغير الدينية حسب هرتزل نفسه. فالدولة الدينية باتت من الماضي في التاريخ الأوروبي، باتت ظاهرة أخرى مسيطرة في أوروبا والعالم هي ظاهرة الدولة القومية العلمانية. لذلك يتساءل هرتزل: "هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطية؟"، ويجيب على الفور: "لا بالتأكيد. إن العقيدة تجمعنا والمعرفة تمنحنا الحرية. ولذلك سنمنع أي اتجاهات ثيوقراطية تتصدَّر قيادتنا من جانب الكهنوت. سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد، كما سنحصر بالمثل جيشنا داخل حدود معسكراته. ولسوف يتلقَّى جيشنا وكهنتنا منا كل احترام رفيع بقدر ما تستحقه وظيفتهما القيّمة، ولكنهما لا يجب أن يتدخلا في إدارة شؤون الدولة التي تُخلع عليها مكانة سامية، وإلا فسيجلبان علينا صعوبات في الداخل والخارج"(13).
الدولة اليهودية في المؤتمرات الصهيونية
لم تمضِ سنة واحدة على المنطلقات النظرية التي أطلقها هرتزل في كتابه "الدولة اليهودية" حتى كرَّس العقد الأخير من حياته (توفي العام 1904) لتطوير أفكاره ووضع الإطار التنظيمي لها تمهيدًا لتحقيق إنجازات عملية تأخذ صيغة المراحل
المتدرِّجة وصولاً إلى إنجاز قيام الدولة الموعودة. إعتمد هرتزل صيغة المؤتمرات الصهيونية المتتالية، فكان أولها في مدينة "بال" السويسرية بين 27 ـ 30 آب/أغسطس 1897 والذي حدَّد هدف الصهيونية الاستراتيجي بقيام "وطن للشعب اليهودي في فلسطين"، كما عيَّن الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف وهي(14):
1ـ استعمال فلسطين زراعيًا وصناعيًا.
2ـ تنظيم اليهودية العالمية.
3ـ تقوية المشاعر اليهودية والوعي القومي اليهودي.
تتالى بعد ذلك عقد المؤتمرات الصهيونية التي ارتدت طابع الدورية شبه السنوية وبخاصة في السنوات الأولى من القرن العشرين التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى. فقد عُقد بين العامين 1897 ـ 1913 أحد عشر مؤتمرًا. وحتى العام 1951، أي بعد ثلاث سنوات فقط من قيام "دولة إسرائيل"، بلغ العدد الإجمالي للمؤتمرات الصهيونية ثلاثة وعشرين مؤتمرًا(15)، الأمر الذي يشكّل سابقة في التاريخ الحديث والمعاصر على مستوى الحركات والمنظمات في العالم.
اعتمدت الحركة الصهيونية في مؤتمراتها المتواصلة(16) مبدأ التراكمية في تحقيق الانجازات الآيلة إلى قيام دولتها على أرض فلسطين العام 1948: ـ في مؤتمرها الثاني 1898 تمّ تحديد آليات اكتساب الجماعات اليهودية في العالم
إلى جانب المشروع الصهيوني في إقامته الدولة اليهودية.
ـ العام 1899 قرَّر المؤتمر الثالث تأسيس المصرف اليهودي تحت اسم "صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار" بغية تمويل النشاط الاستيطاني في فلسطين.
ـ العام 1900 عُقد المؤتمر الرابع تحت شعار أيديولوجي عرقي ديني (العمل اليهودي على الأرض اليهودية)، أي اعتبار فلسطين أرضًا لليهود.
ـ العام 1901 أسّس المؤتمر الخامس "الصندوق القومي اليهودي". ـ العام 1903 ناقش المؤتمر السادس عرضًا بريطانيًا باستعمار أوغندا (إفريقيا) أو العريش المصرية، وخرج المؤتمر برفض الإقتراح.
ـ العام 1905 حسم المؤتمر السابع مسألة إنشاء الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين.
ـ العام 1907 أصدر المؤتمر الثامن قرارًا بإنشاء "مكتب فلسطين" في مدينة يافا لمتابعة الأنشطة الاستيطانية بشكل واسع ومنظَّم. وقد عبَّر الكاتب الصهيوني "أوتو داربورغ" عن هذه الخطوة بقوله: "إنَّ الحق التاريخي الذي يستند إلى ملكيتنا لفلسطين قبل ألفي سنة لا مفعول له وحده لدى الدول الكبرى، بل يتوجَّب علينا إيجاد صيغة عنصرية لذلك الحق كي تضاف إليه. إنَّ فلسطين تخضع إقتصاديًا لنفوذنا، وإنّ جميع ما أحرزه ذلك البلد من تقدم كبير وملموس يرجع في الأصل إلى مبادرتنا نحن وقوة وسائلنا الاقتصادية وفعاليتها، ولم ينشأ إلا بفضلها".
(*) مركز باحث للدراسات
ارتكز مشروع الدولة اليهودية، منذ نشأته كفكرة أولية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى القومية اليهودية بوصفها خصوصية دينية توراتية وتاريخية.
من هنا، كان الربط الجدلي لدعاة الصهيونية الأوائل، بين الدين والتاريخ من جهة، والجغرافيا، أي الأرض والمقصود بها أرض الميعاد" أي فلسطين، من جهة أخرى.
تحوَّلت الأيديولوجيا القومية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلى مشروع صهيوني استيطاني – إحلالي في فلسطين، قلب المجال الحيوي للمشرق العربي، وقد برز كاستجابة لزعم توراتي يقوم على مبدأ "الإسترجاعية"، أي العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) حيث تنشأ الدولة اليهودية على مدى جغرافي سياسي مفتوح يغطي مساحة فلسطين التاريخية، ويكون قادرًا على التحوُّل إلى مشروع جيوسياسي يضمن السيطرة والتفوُّق على كامل المجال الحيوي العربي الذي يربط بين أربع نقاط ارتكاز: بلاد ما بين النهرين (الفرات) شرقًا، ومصر (النيل) غربًا، وبلاد الشام (البحر المتوسط) شمالاً، وشبه الجزيرة العربية (البحر الأحمر) جنوبًا.
جاء قيام إسرائيل العام 1948 ليشكِّل الحلقة المركزية في بنيان صرح الدولة اليهودية المزعومة. وكانت حروب التفوُّق الإسرائيلي المتواصلة ضد العرب والفلسطينيين، ومخطَّطات الاستيطان التي لم تتوقَّف، والتي كانت تحصل بموازاة الطرد الإكراهي للفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئي شتات، منسجمةً مع استراتيجية صهيونية هادفة إلى إنجاز تهويد الدولة كهدف أعلى للمشروع الصهيوني.
إلا أنَّ هذا المشروع، وعلى الرغم من كل التعبئة الأيديولوجية التي منحت له، وتوافر وسائل الدعم المادي والعسكري والسياسي كلها من جانب رأسماليات المركز الغربي لمصلحته، فإنه، في الواقع، كان يتطوَّر على قاعدة مأزق استكمال الدولة الذي يقوم على ثلاث إشكاليات أساسية ما زالت، حتى اليوم، عصيَّة على الحلول الحاسمة، وهي إشكاليات الهوية، والجغرافيا السياسية والديمغرافيا.
بسبب هذه الإشكاليات، باتت مقولة "يهودية الدولة" تحتلُّ في الآونة الأخيرة أولوية مطلقة في الخطاب السياسي لإسرائيلي إذ برزت بقوة على طاولة المفاوضات المباشرة التي دارت مؤخرًا بين الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني في واشنطن وشرم
الشيخ والقدس. وإذا كانت هذه المفاوضات قد جرت بتحفيز سياسي ودبلوماسي من قبل الإدارة الحالية الحاكمة في البيت الأبيض، إذ رأى فيها الرئيس باراك أوباما عنصرًا مساعدًا لإدارته ولحزبه الديمقراطي في توظيفها إعلاميًا لمصلحة حملته الانتخابية النصفية – انتخابات نصف الكونغرس في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2010 و والتي انتهت بخسارة الديموقراطيين الأغلبية في مجلس النواب وتقليص أغلبيتهم في مجلس الشيوخ ، فإنَّ المفاوض الإسرائيلي بالمقابل، يسعى إلى تحقيق جملة من المكاسب ما استطاع تحقيقها في السابق عبر سلسلة الحروب التي خاضتها إسرائيل وما تزال، مع غير جبهة عربية أو فلسطينية منذ قيامها ككيان سياسي منذ العام 1948 وحتى الآن.
إنَّ سيطرة مقولة "يهودية الدولة" على الخطاب السياسي الإسرائيلي في الوقت الراهن، إنما تهدف إلى إعادة التركيز على العامل الأيديولوجي في شدّ عصبية اليهود داخل فلسطين المحتلة وخارجها من أجل مواجهة التحديَّات التي ما زالت تحول دون استكمال مشروع الدولة، لا بل أنها تضع مصير هذه الدولة ووجودها على مفترق طرق.
فكرة الدولة اليهودية
بدأت ملامح الظهور الأول لفكرة "الدولة اليهودية" مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فكرة لم تكن معزولة عن التطوُّرات النوعية التي شهدتها الرأسماليات الأوروبية سواء على مستوى صعودها التراكمي من جهة، أم على مستوى التحوُّلات الفكرية والأيديولوجية والسياسية الناشئة عنها من جهة أخرى. ولم تلبث أن شهدت مزيدًا من التبلور على أيدي عناصر نخبوية يهودية أوروبية عاصرت التحوُّلات الهامة التي عرفتها أوروبا في الاقتصاد والأيديولوجيا والعلاقات الدولية، وكان أبرزها قد تمثّل بظاهرتين إثنتين: الأولى، تحوُّل رأسمالية المركز الأوروبي باتجاه الكولونيالية، وهي نزعة استعمارية قائمة على التوسّع والسيطرة على بلدان خارج أراضيها لا سيما في آسيا وإفريقيا بهدف تأمين التراكم في دوراتها الاقتصادية عبر فتح المزيد من الأسواق الخارجية والحصول على المواد الخام الضرورية لصناعاتها المتطورة، والثانية، ظاهرة الدولة – الأمة أو الدولة القومية، وهي مستجدَّة على الاجتماع السياسي الأوروبي الذي أُرسيت دعائمه على أساس الربط العضوي بين ثلاثة مرتكزات أساسية هي الأرض كجغرافيا سياسية، والشعب كجماعة بشرية متفاعلة، والهيئة الحاكمة أي السلطة المركزية على رأس الهرم السياسي.
كانت الحركة الصهيونية (Le Sionisme) بمنزلة النواة الفكرية التي راحت تضع المنطلقات النظرية لقيام دولة تجمع شمل اليهود من الشتات العالمي. وقد ارتكزت في مشروعها إلى مرتكزين أساسيين: الأول، ديني أيديولوجي، من خلال العودة إلى مقولات توراتية تضمَّنها العهد القديم، وهي مقولات تعبوية ثقافية تدعو اليهود إلى العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) بوصفهم الجماعة البشرية المختارة إلهيًا من أجل سلام العالم وخلاصه من الشرور والآثام، والثاني، تاريخي انتسابي من حيث استحضار "صهيون" في الذاكرة التاريخية اليهودية عبر الربط بين تسمية الحركة بالصهيونية وصهيون الذي ورد في العهد القديم، وهو يرمز إلى مدينة الملك الأعظم، أي مدينة الإله (ملك إسرائيل). فالمدينة كانت قد حملت إسم الجبل الذي بنيت عليه، وهو جبل عالٍ في فلسطين. كل ذلك من أجل إيجاد مرتكز جغرافي تبريري (أرض) لقيام الدولة اليهودية المزعومة(1).
*دعاة الصهيونية والدولة اليهودية*
كان موسى هيس (Moussa Hess) في طليعة العناصر النخبويين اليهود الذين أسهموا في إنطلاقة الحركة الصهيونية، وفي رسم هدفها المركزي بتقوية الروابط الدينية بين اليهود المنتشرين في غير بلدٍ في العالم. ففي كتابه "روما والقدس" الذي أصدره العام 1862، لم يتطرَّق هيس إلى قيام دولة يهودية ولكنه بحث السبل المثلى لتحقيق أحلام اليهود في إقامة نظام إجتماعي في فلسطين. فهو يرى أنَّ مثل هذا النظام ينسجم مع الوظيفة اليهودية في قيادة العالم، وهي الوظيفة التي خصَّ بها الله اليهود في التاريخ. وحسب زعمه "إنَّ أوامر الله لليهود هي تطبيقهم القانون الذي أرسلهم الله ليعلّموه للشعوب الأخرى، وإنَّ أقسى عقوبة فرضت عليهم كانت لانحرافهم عن الطريق الذي وضعته العناية الإلهية. أما عجزهم عن عبادة الله كأمّة متكاملة فكان بسبب فقدهم لأرضهم".
ويتوقَّف هيس عند أرض فلسطين ليس فحسب بوصفها أرضًا تتسم بخصوصية تاريخية بالنسبة إلى اليهود، وإنما أيضًا بوصفها موقعًا جيو ـ استراتيجيًا من حيث أنها تمثّل الطريق الرئيس والمركز الجغرافي المهم للمدينة الغربية على الطريق المتجهة إلى الهند، وحتى يتمكَّن اليهود من تحقيق مركز لهم على هذا الطريق لا ينقصهم المال والكفاءات أو العمال وغيرهم(2).
وأشار هيس إلى أنّ قيام دولة يهودية في فلسطين "سوف يحقِّق الرسالة الحضارية لليهود في نقل الحضارة إلى الشعوب المتخلِّفة في آسيا وإفريقيا، وأنّ ذلك سيكون من خلال تأسيس المستوطنات اليهودية عبر رقعةٍ ممتدة من السويس إلى القدس، ومن نهر الأردن حتى البحر المتوسط"(3).
مع الكاتب اليهودي "نورمان بنتويتش" (Norman Bentwitch) إرتدى مشروع الدولة اليهودية في فلسطين – قلب الشرق الأوسط – أهمية جيوبوليتيكية بحكم خصوصية الموقع الفلسطيني كنقطة ارتكاز لمجال حيوي يربط بين شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. والمعروف أنّ هذه المناطق تتميَّز بحضارات تاريخية شكّلت تقاطعات لحضارات عالمية. فقد أوضح بنتويتش هذه الخصوصية لفلسطين إلى القادة الإنكليز مظهرًا لهم الدور الذي يمكن أن تقوم به دولة يهودية في المستقبل(4).
مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان مشروع الدولة اليهودية قد عرف بعض الترجمة الميدانية عندما بدأ المليونير اليهودي "روتشيلد" يغذِّي اليهود بتأسيس مزارع في فلسطين، ثم تبعته مؤسسات مالية أخرى في عدة دول من العالم من أجل تشجيع الهجرة الزراعية تمهيدًا للإستيلاء على الأراضي في فلسطين. كما عمل المفكِّرون اليهود على تكثيف الدعاية الإعلامية التي تحرِّض على هجرة اليهود إلى فلسطين عبر حملات دعائية منظمة قامت بها جمعيات ومؤتمرات عديدة لتحقيق الحلم الذي كان يراود اليهودي، وبخاصة البائس والمضطهد والمنعزل داخل أسوار "الغيتو" في بلدان أوروبا، في المجيء إلى فلسطين ليعمل في الأراضي الزراعية تمهيدًا للإستيلاء عليها بعد طرد سكانها الأصليين.
من بين الجمعيات التي راحت تُؤلب الرأي العام اليهودي للهجرة إلى فلسطين، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت "محبي صهيون"، التي أنشأها كتّاب وطلاّب جامعيون في روسيا وعمّال يهود العام 1867، وكذلك جمعية أخرى ناشطة في أوكرانيا كانت قد أرسلت أول فوج من مهاجري يهود أوروبا الشرقية إلى فلسطين العام 1882(5).
هرتزل والدولة اليهودية
اعتُبر "تيودور هرتزل"، وهو صحافي نمسوي ذاع صيته في عالم الصحافة الأوروبية خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، بحق بمنزلة الأب الروحي للحركة الصهيونية، والمؤسس لمشروع الدولة اليهودية وفق مقولات فكرية أيديولوجية وسياسية.
العام 1896 نشر هرتزل كتابه "الدولة اليهودية" موضحًا فيه أنّ فكرة هذه الدولة ليست بالطارئة أو الجديدة، وإنما هي "فكرة موغلة في القدم، وهي فكرة استعادة الدولة اليهودية"(6). وهنا يريد هرتزل أن يُضفي على مشروع الدولة بعدًا
تاريخيًا من أجل تقديم مسوّغ تبريري لكون استعادة هذه الدولة هي بمنزلة "حق تاريخي" لليهود. ولمّا كانت الدولة متماهية مع القومية فإنَّ قومية اليهود "لا يمكن أن تفنى ولن تفنى ولا ينبغي لها أن تفنى. وقد تبلى فروع كثيرة من اليهودية وتسقط أما الجذوع فإنها تبقى ثابتة"(7).
في الواقع، ربط هرتزل أيديولوجيًا بين ثلاثة أبعاد لدولته اليهودية: الأول، البعد الاجتماعي من خلال التوجُّه إلى يهود الطبقات الدنيا في السلّم الاجتماعي الأوروبي، والثاني، البعد الديني التوراتي، في محاولة لاستحضار مقولتي "أرض
الميعاد" و"شعب الله المختار"، وإظهار أنَّ استعادة إحياء الدولة اليهودية هي مسألة تكليف إلهي، والثالث، البعد القومي على اعتبار أنّ اليهود، على الرغم من توزيعهم في الشتات، هم شعب واحد. فقد جاء في قوله: "أعتقد أنّ المسألة اليهودية
لم تعد مجرد مشكلة إجتماعية بقدر ما هي قضية دينية، ومع ذلك قد تتخذ أشكالاً أخرى، إنها قضية قومية يمكن حلُّها فحسب عندما تعالج كقضية سياسية عالمية تناقشها شعوب العالم المتحضِّر في مجلس دولي. إننا شعب.. وشعب واحد"(8).
أما مرتكزات قيام الدولة اليهودية فقد حدّدها هرتزل بثلاثة أساسية(9):
الأول، السيادة اليهودية على جزء من الأرض، يكون كافيًا للاحتياجات الحقيقية
للأمة. وبعد ذلك يعود الأمر إلى اليهود بتقدير الجغرافيا السياسية للدولة –
الأمة على قاعدة أنّ الأرض هي الأساس الموضوعي للدولة في حين يمثل الشعب الأساس الذاتي.
الثاني، النخبة السياسية التي تتولَّى التخطيط وإجراء المباحثات والتفاوض، وهي عبارة عن جمعية سوف تنال اعتراف الحكومات العالمية بوصفها سلطة لإقامة الدولة.
الثالث، الشركة اليهودية التي تمثِّل الشرط الاقتصادي لإقامة الدولة، وعليها يتوقَّف توفير رأس المال وتحقيق المصالح المالية لليهود الوافدين، وسوف تُنظم الاقتصاد والتجارة في الدولة الجديدة.
وبالنسبة إلى الأرض التي ستنشأ عليها الدولة أو بالأحرى الجغرافية السياسية للدولة اليهودية، فقد حسم هرتزل الجدل عندما أعطى الأولوية لفلسطين على الأرجنتين حيث جاء في قوله: "إنّ الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي
تمتد على مساحات شاسعة وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل. وجمهورية الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها.. أما فلسطين فإنها وطننا التاريخي الذي لا تُمحى ذكراه، إنّ اسم فلسطين بحدّ ذاته سيجتذب شعبنا بقوة ذات فعالية رائعة. فإذا منحنا جلالة السلطان فلسطين سنأخذ على عاتقنا بالمقابل، تنظيم مالية تركيا. ومن هناك سوف نشكِّل جزءًا من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية.
وعلينا – كدولة طبيعية – أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا"(10).
في خاتمة كتابه يطلق هرتزل نداءً إلى يهود العالم يخاطبهم بالقول: "فيا إخواننا اليهود هذه هي "أرض الميعاد"! لا أسطورة هي ولا خدعة، وكل إنسان يستطيع أن يختبر حقيقتها بنفسه، لأن كل إنسان سيحمل معه قطعة من أرض الميعاد: بعضها في رأسه، وبعضها بين ذراعيه، وبعضها في ملكيتها المكتسبة"(11).
هكذا وضع هرتزل الأساس الأيديولوجي لدولته اليهودية، وهو أساس مزج بين التوراتي التاريخي من جهة، والقومي العلماني من جهة أخرى. فهو أعار أهمية بالغة للاعتبارات الدينية، إلا أنها اعتبارات لم تخرج عن كونها وسيلة ضرورية للتعبئة والشحن النفسي ليهود العالم من أجل دفعهم تحت توهُّج الحرارة الدينية إلى الهجرة باتجاه فلسطين. وقد أوضح هرتزل هذه الوسيلة عندما أناط وظيفة الهجرة برجال دين أي بحاخامات يهود يتولَّون قيادة المجموعات المهاجرة. إنّ "كلَّ
مجموعة سيكون لها حاخامها يسافر مع رعيته. وسوف تتشكَّل المجموعات المحلية في ما بعد تشكيلاً تطوعيًا حول حاخاماتها، وسوف يكون لكل مجموعة محليَّة قائدها الروحي". وعن وظيفة هؤلاء الحاخامات أوضحها هرتزل بالقول: "إنّ حاخاماتنا الذين نوجِّه إليهم دعوة خاصة سيكرِّسون طاقاتهم في خدمة فكرتنا، وسيحفزون رعاياهم بالوعظ من فوق منابرهم.. فدعوة كهذه جديرة بأن يتردَّد صداها بين جدران المعابد"(12).
هذه الوظيفة الوعظية لمدرسة المعابد هي وظيفة مكيافللية من حيث أنّها وسيلة في خدمة الغاية أو الهدف الأعلى الذي يتمثّل بإقامة الدولة اليهودية وغير الدينية حسب هرتزل نفسه. فالدولة الدينية باتت من الماضي في التاريخ الأوروبي، باتت ظاهرة أخرى مسيطرة في أوروبا والعالم هي ظاهرة الدولة القومية العلمانية. لذلك يتساءل هرتزل: "هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطية؟"، ويجيب على الفور: "لا بالتأكيد. إن العقيدة تجمعنا والمعرفة تمنحنا الحرية. ولذلك سنمنع أي اتجاهات ثيوقراطية تتصدَّر قيادتنا من جانب الكهنوت. سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد، كما سنحصر بالمثل جيشنا داخل حدود معسكراته. ولسوف يتلقَّى جيشنا وكهنتنا منا كل احترام رفيع بقدر ما تستحقه وظيفتهما القيّمة، ولكنهما لا يجب أن يتدخلا في إدارة شؤون الدولة التي تُخلع عليها مكانة سامية، وإلا فسيجلبان علينا صعوبات في الداخل والخارج"(13).
الدولة اليهودية في المؤتمرات الصهيونية
لم تمضِ سنة واحدة على المنطلقات النظرية التي أطلقها هرتزل في كتابه "الدولة اليهودية" حتى كرَّس العقد الأخير من حياته (توفي العام 1904) لتطوير أفكاره ووضع الإطار التنظيمي لها تمهيدًا لتحقيق إنجازات عملية تأخذ صيغة المراحل
المتدرِّجة وصولاً إلى إنجاز قيام الدولة الموعودة. إعتمد هرتزل صيغة المؤتمرات الصهيونية المتتالية، فكان أولها في مدينة "بال" السويسرية بين 27 ـ 30 آب/أغسطس 1897 والذي حدَّد هدف الصهيونية الاستراتيجي بقيام "وطن للشعب اليهودي في فلسطين"، كما عيَّن الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف وهي(14):
1ـ استعمال فلسطين زراعيًا وصناعيًا.
2ـ تنظيم اليهودية العالمية.
3ـ تقوية المشاعر اليهودية والوعي القومي اليهودي.
تتالى بعد ذلك عقد المؤتمرات الصهيونية التي ارتدت طابع الدورية شبه السنوية وبخاصة في السنوات الأولى من القرن العشرين التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى. فقد عُقد بين العامين 1897 ـ 1913 أحد عشر مؤتمرًا. وحتى العام 1951، أي بعد ثلاث سنوات فقط من قيام "دولة إسرائيل"، بلغ العدد الإجمالي للمؤتمرات الصهيونية ثلاثة وعشرين مؤتمرًا(15)، الأمر الذي يشكّل سابقة في التاريخ الحديث والمعاصر على مستوى الحركات والمنظمات في العالم.
اعتمدت الحركة الصهيونية في مؤتمراتها المتواصلة(16) مبدأ التراكمية في تحقيق الانجازات الآيلة إلى قيام دولتها على أرض فلسطين العام 1948: ـ في مؤتمرها الثاني 1898 تمّ تحديد آليات اكتساب الجماعات اليهودية في العالم
إلى جانب المشروع الصهيوني في إقامته الدولة اليهودية.
ـ العام 1899 قرَّر المؤتمر الثالث تأسيس المصرف اليهودي تحت اسم "صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار" بغية تمويل النشاط الاستيطاني في فلسطين.
ـ العام 1900 عُقد المؤتمر الرابع تحت شعار أيديولوجي عرقي ديني (العمل اليهودي على الأرض اليهودية)، أي اعتبار فلسطين أرضًا لليهود.
ـ العام 1901 أسّس المؤتمر الخامس "الصندوق القومي اليهودي". ـ العام 1903 ناقش المؤتمر السادس عرضًا بريطانيًا باستعمار أوغندا (إفريقيا) أو العريش المصرية، وخرج المؤتمر برفض الإقتراح.
ـ العام 1905 حسم المؤتمر السابع مسألة إنشاء الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين.
ـ العام 1907 أصدر المؤتمر الثامن قرارًا بإنشاء "مكتب فلسطين" في مدينة يافا لمتابعة الأنشطة الاستيطانية بشكل واسع ومنظَّم. وقد عبَّر الكاتب الصهيوني "أوتو داربورغ" عن هذه الخطوة بقوله: "إنَّ الحق التاريخي الذي يستند إلى ملكيتنا لفلسطين قبل ألفي سنة لا مفعول له وحده لدى الدول الكبرى، بل يتوجَّب علينا إيجاد صيغة عنصرية لذلك الحق كي تضاف إليه. إنَّ فلسطين تخضع إقتصاديًا لنفوذنا، وإنّ جميع ما أحرزه ذلك البلد من تقدم كبير وملموس يرجع في الأصل إلى مبادرتنا نحن وقوة وسائلنا الاقتصادية وفعاليتها، ولم ينشأ إلا بفضلها".
(*) مركز باحث للدراسات