ارشيف من :آراء وتحليلات

المسافة بين الثورة .. والمؤامرة

المسافة بين الثورة .. والمؤامرة
" إن شرارةً واحدةً كفيلة بأن تشعل السهل كله " ـ ماو تسي تونغ
لؤي توفيق حسن(*)
ثوراتٌ هي أم مؤامرات؟ .. نقاشٌ قديم جديد يطرح نفسه عند كلِّ حراكٍ شعبيّ. أيًّاً جاءت تسميته: ثورة، إنتفاضة، إحتجاج.. إلخ.
اليوم يقارب بعضنا ما يحدث في الوطن العربي على أنه " مؤامرةٌ أمريكية " تأتي في سياق "الفوضى البنّاءة " وصولاً لما يسمى: " الشرق الأوسط الجديد ".
من الصحيح ومن المسلم به، أن تاريخ الغرب حافلٌ بالتآمر على العرب وهو ما يجب أن لا نغفله عند مقاربة الأحداث. لكن للحركات الإجتماعية مقارباتها الخاصة، ولا ينبغي أن تكون تبسيطية. بقدر ما لا ينبغي أن تتسربل بالأوهام. إذ هنالك فارقٌ غير كبير عادةً بين البصيرة اليقظة، وبين البصيرة الواهمة.
النظرة النقدية
إن ارتباط " نظرية المؤامرة " في مقاربة الأحداث تستمد زخمها من تجاربنا الأليمة في عصرنا القريب. وبالذات منذ الحرب العالمية الأولى وخيانة الحلفاء للعرب. لكنها بالأساس موجودةٌ بوفرة في القديم من كتبنا التاريخية. وهذا أدّى إلى إرساء أرضيةٍ ثقافية ما زال العديدون من المعاصرين غير ناجين من آثارها. لنضرب مثالاً من "ثورة الزنج" وهي في حقيقتها ثورة العبيد ضد الجورِ والظلم. فقد وصف مؤرخو العصر العباسي قائدها: " الخبيث صاحب الزنج ". فيما لم يكلف المعاصرون أنفسهم رؤيتها من زاويةٍ نقدية فذهبوا إلى إنها "فتنة " من تحريض " رجل فارسيٍّ أباح لأتباعه الخلاعات " !! .
وبنفس المنظار جاء تقويم الحركات الإجتماعية في الاقاليم الإسلامية على أنها حركاتٌ استولدها "حقد الشعوبيةِ على العروبة " !! وليس احتجاجاً في وجه مظالم الولات. وفي مكانٍ آخر يبدو عبدالله بن سبأ في قراءة البعض وراء الثورة على الخليفة عثمان بن عفّان !! .
إن النظرة النقدية للحركات الإجتماعية ما زالت دخيلةً على ثقافتنا إلا ما خص الثورات الوطنية ضد الإستعمار. مع إنها في الجوهر حراكٌ إجتماعيٌ في وجه الظلم. وبالرغم من ذلك فإن بعض الثورات المعاصرة لم تسلم من أقلام المشككين. فمنهم من رأى الثورة السورية الكبرى على أنها من تدبير بريطانيّ ! . وأن ألمانيا النازية كانت وراء ثورة رشيد الكيلاني في العراق ضد البريطانيين ! . وأن ثورة 23 تموز/ يوليو في مصر كانت بالتنسيق مع الأميريكيين، أو بدعمهم ! .. وأن المقاومة الإسلامية في لبنان (صناعةٌ إيرانية) ! .
أما عمّا مضى من أحداث فقد جاءت كل الوثائق التي أُعلن عنها لتنفي هذه الإدعاءات. هذا مثلاً ما سيكتشفه القارئ لتاريخ الثورة السورية الكبرى عندما يلمس التواطؤ البريطاني عليها. وما تلقاه على أيديهم قائدها سلطان باشا الأطرش عندما انكفأ مع الثوار إلى الأردن. وكذلك حال الثورة المصرية عام 52 حيث كل الوثائق المعلنة تؤكد حتى الآن مدى التآمر عليها. لكن تظل الوقائع خير دليل، فبعد ثلاث سنوات من عمرها جاءت أولى صداماتها مع الولايات المتحدة عندما رفضت تزويد مصر بالسلاح ما دعاها لطلبه من (المعسكر الشرقي) عام 1955 . ومنذ ذلك الحين أخذت تتفاقم الأمور حتى كانت المواجهة المباشرة بدخول مصر إلى الجزيرة العربية داعمةً ثورة اليمن في أيلول/سبتمبر عام 1962 . والذي إعتبرته أمريكا " خطراً يهدد مصالحها النفطية " . في ما رأته بريطانيا " تهديداً مباشراً لمصالحها الحيوية عند باب المندب " هذا باعتبار أن عدن كانت يومذاك من مستعمراتها. ولعلّ هذا كله استدعى فيما بعد عدوان حزيران/ يونيو 1967، والذي شكل  ذروة الهجمة على عبد الناصر. وغداً، قريباً كان، أم بعيد سيكتشفُ المشككون، والبخّاخون، ما يؤكد بأن المقاومة الإسلامية هي صناعةٌ لبنانية بامتياز. وأن قراراتها تنبع من إرادة قيادتها اللبنانية، وليس من أحدٍ آخر.
إستخفاف
من البعيد نعود إلى القريب فنتساءل: تُرى هل إشعال محمد بو عزيزي لجسده إحتجاجاً كانت خلفه أيدٍ بعيدة أو قريبة؟! . وهل الألوف من التونسيين كانوا دمى تحركها أصابع غريبة ؟! . وهل هذا هو حال المصريين الذين قابلوا الرصاص بصدورهم، أو ارتموا تحت جنازير دبابات الجيش مانعةً إياها من التقدم بغية محاصرتهم ثم طردهم من ميدان التحرير !! .. (هذا كي لا ننسى !! ) .
إنه إستخفافٌ بالناس. بل لعل الأصح أنها خِفّةٌ في عقولٍ لا تبصر الكثافة النوعية للأسباب التي حركت تلك الجموع. أوالعلاقة الجدلية بين الوعي والتطور في تجليّاته الإقتصادية، الإجتماعية، الثقافية، والروحية.
بالرغم مما سبق فإن مجانبة الحذر أمرٌ واجبٌ عند النظر في بعض (مسارات) الحركات الإجتماعية. وهنا ينبغي دائماً أن نفصل بين العوامل التي أنتجت الحراك وبين المتسللين إليه لحرفِ مساره بُغيَة توظيفه...
وبكفيةٍ أخرى سعت الطبقةُ المُدانة في مصر، وأخرياتٍ في دائرة الشبهة، وبمساعدةٍ أميركية لتقديم أنفسهم تحت مسمّيات مختلفة، بغية إنتاج طبقةٍ سياسيةٍ جديدة تكتسب ألقها من الثورة فيما مضمونها السياسيّ هو جوهر سياسة مبارك من حيث التبعية للغرب، والقعود حيال القضايا القومية، مع الإنكفاء عن الدور التاريخي لمصر في قيادة الأمّة.
لهذا يمكننا القول وعلى ضوء مشاهداتنا أن ثورة 25 كانون الثاني/ يناير ما زالت في عنق الزجاجة. ولم تنجُ بعد من كيد الكائدين الأمر الذي يستدعي الرؤية اليقظة من شبابها. أما في ليبيا التي كانت بحاجةٍ إلى الوثبة الشجاعة من جوارها المصري للحيلولة دون وقوعها في شباك الغرب.فقد أصبحت مثالاً حياً للثورة النظيفة الشجاعة التي تختطفها لعبة الامم لتجعل منها جرحاً مفتوحاً على كل الإحتمالات.
"قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون • قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبةٌ إنّا إذاً لخاسرون" ـ سورة يوسف: 13-14
(*) كاتب من لبنان
2011-04-30