ارشيف من :خاص

أزمة الغذاء والزراعة... حلول فضائحية!

أزمة الغذاء والزراعة... حلول فضائحية!

عقيل الشيخ حسين

شهدت الأيام القليلة الماضية نشاطاً ملحوظاً للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ضمن إطار اجتماع عقدته لجنة التنمية التابعة لهما جرت فيه مناقشة قضايا أبرزها التصاعد المستمر في أسعار المواد الغذائية على المستوى العالمي، وهو الموضوع الذي سيعرض على اجتماع في باريس لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لبلدان مجموعة العشرين.

وقد حفل البيان الختامي لاجتماع اللجنة بسيل من الإنشائيات المعروفة حول الأمن الغذائي، والبحوث الزراعية، والتصدي لتقلبات الأسعار، ومشكلة المناخ وتحسين سبل التنبؤ بالأحوال المناخية، واعتماد تقنيات جديدة، وشبكات الأمان، وإصلاح السياسات، وتطوير الصادرات، وتدعيم الحوكمة، وإشراك المجتمع المدني، وتعزيز دور النساء، وضرورة إصغاء الحكومات لأصوات الجماهير، إضافة إلى التعويل على الابتكار والإبداعية، وما إلى ذلك من شعارات ذات تلاوين سياسية غير واضحة الصلة بمعالجة المشكلة المطروحة إلا لجهة الرهان على أن الذهاب نحو المزيد من الديموقراطية من شأنه أن يدفع نحو اعتماد النموذج الزراعي الغربي.

والمعروف أن النموذج المذكور يقوم على ما يعرف بالزراعة المكثفة التي تجمع بين المكننة والتخصيب الكيميائي والهرموني والجيني للنباتات والحيوانات التي تشكل مصادر الغذاء. والمعروف أيضاً أن هذا النموذج الذي اعتمد منذ ستين عاماً قد أثبت فعاليته في تلبية احتياجات المستهلكين، لكنه بدأ يعاني من الاهتزاز لأسباب عديدة منها الحاجة المتزايدة للطاقة وللمواد الأولية والمياه التي باتت متزايدة الأسعار ومهددة بالنضوب.

ومنها التأثيرات السلبية المتعلقة بنقص خصوبة التربة وتصحرها بسبب الأساليب غير الطبيعية في استثمارها. والمعروف في هذا المجال أن ما يزيد عن خمسين بالمئة من الأراضي الزراعية في أوروبا وأميركا الشمالية قد أصبحت غير صالحة للزراعة بسبب الزراعة المكثفة. وهي مشكلة يقترح المدافعون عن النموذج المذكور حلها عن طريق تحويل ما تبقى من غابات إلى أراض زراعية، وهو الأمر الذي ينطوي على مشكلات خطيرة، أو عن طريق " الاستيلاء" على الأراضي البكر في إفريقيا وغيرها، وهو الأمر الذي ينطوي على مشكلات أشد خطورة.

ومنها أن المنتجات الزراعية والحيوانية لهذا النموذج تتعرض لانتقادات متزايدة حيث تشير أبحاث ودراسات عديدة إلى صلتها بظهور وانتشار أمراض جديدة، في وقت تظهر فيه خلافات متزايدة بين الولايات المتحدة التي تضغط باتجاه تطوير النموذج المذكور وأوروبا التي تحاول البحث عن بديل عنه بعدما تبينت خطورته وانسداد آفاقه.

المهم، بعد الزيادات التي طرأت على أسعار المواد الغذائية الأساسية والتي تجاوزت المئة بالمئة ووصلت في العام 2008 إلى 200 بالمئة في بعض الحالات، أن الأسعار قد سجلت عام 2011، وفق تقرير البنك الدولي، زيادة بنسبة 36 بالمئة عما كانت عليه في العام 2010.

مع ما يعنيه ذلك، في ظل الفساد والأزمات المالية والمضاربات وتقلبات أسعار العملات، من ارتفاع في منسوب البطالة والفقر الذي بات يضرب بنسب متفاوتة ما يزيد عن نصف سكان الكوكب، في وقت بات 10 بالمئة من سكان العالم يسيطرون على 90 بالمئة من مقدراته، بينما يتعيّش 90 بالمئة من البشر على 10 بالمئة من المقدرات.

وفي وقت بات فيه البحث عن الرزق في النفايات وسيلة إنتاج معترف بها حتى في العالم "المتقدم"، ناهيكم عن العالم الثالث الذي يفتك به الفقر والخراب لأسباب في طليعتها سياسات التدمير الاقتصادي، والزراعي بوجه خاص، التي يفرضها البنكان الدوليان على الحكومات والدول.

وفي ما يتجاوز الحلول الإنشائية المقترحة، وفي ظل تعطل عمل منظمة التجارة العالمية منذ سنوات بسبب الخلافات حول الملف الزراعي بالذات، حيث تصر كل من الولايات المتحدة وأوروبا على نسف الاتفاقيات المعقودة خلال الستين عاماً المنصرمة حول نقل السلع والخدمات، يلاحظ التركيز في البحث عن الحلول، على الإبداع... هرباً من النظر الجدي والمسؤول في طبيعة المشكلة.

ويصل الأمر إلى مستوى المهزلة والفضيحة عندما نسمع "مبتكرين" و"مبدعين" غربيين يقدمون حلولاً من النوع الذي يضحك الثكلى.

واحد من هؤلاء اقترح حلاً ثورياً أو بالأحرى، واقعياً حتى الإسفاف: عالم اليوم هو عالم مدن (70 أو 80 بالمئة من سكان الكوكب يعيشون الآن في تجمعات مدينية مترامية الأطراف). والمدن تعني أبنية وبيوتاً ذات سطوح. والسطوح تحتل مساحات شاسعة. والحل هو زراعة هذه السطوح!

وهذا النموذج له اسم: الزراعة عن قرب. ليس على سكان الأبنية إلا أن يستخدموا المصعد للذهاب إلى حقولهم " المعلقة" فوق سطوح الأبنية. طبعاً بعد تغطيتها بما يكفي من التراب... ما يؤمّن، وفقاً للمبتكر المبدع، مكسباً إضافياً هو التكييف "الطبيعي" للبناء.

والتراب يحتاج إلى سماد. وهنا يجنح الإبداع نحو الاستغناء عن المراحيض المنزلية "السائلة"، على ما يسميها، لاستبدالها بمراحيض "جامدة": جهاز يقضي الناس فيه حاجتهم، ويقوم ذاتياً بمعالجة الفضلات وتحويلها إلى أسمدة تنقل إلى سطوح الأبنية لتخصيب ما عليها من تراب. وبالهناء والشفاء!

وكل ذلك لكي لا يجرؤ العقل الإبداعي على الاعتراف بأن المشكلة أكبر بكثير من فشل النموذج الغربي في الزراعة والتغذية: إنه فشل هذه الحضارة "المدينية" التي "حشرت" البشرية في مدن يتبين يومياً أنها غير ملائمة للعيش، بينما تركت الأرياف لتتحول إلى قفر يباب.
2011-05-02