ارشيف من :خاص

"إسرائيل" والمقاومة... إظهار القدرة في معرض الضعف

"إسرائيل" والمقاومة... إظهار القدرة في معرض الضعف

مناورة نقطة تحول خمسة، تعبير عن العجز

حسان ابراهيم

ان تتحول "اسرائيل"، ككيان آمن لليهود، كما هو مفترض بحسب المشروع الصهيوني، الى دولة في ملجأ، وأن يعتاد سكانها اللجوء الى الغرف المحصنة والملاجئ، كعادة اتباعية، وأن تتحول مناورات الجبهة الداخلية وإمكانيات سقوط الصواريخ على رؤوس سكانها، الى ثقافة واعتياد واحتلال مكان في الوعي الجمعي العام، ليس هذا الا تحولاً في أصل مفهوم هذه الدولة، وأصل قيامها.
مناورات الجبهة الداخلية الاسرائيلية، المسماة نقطة تحول ـ 5، ورغم ما يراد ان تظهر به اسرائيليا في وعي اعدائها بأنها اقتدار، ليست الا مظهراً للتراجع الاسرائيلي وفقدان المنعة والتفوق امام الاعداء. وهذه المناورات، بطبيعتها، باتت تحتل جزءا اساسيا في الوعي الاسرائيلي، ومركبا من مركبات الحياة الاعتيادية للصهاينة، حيث يطلب منهم دخول الملاجىء والاماكن المحصنة، طوال ايام المناورة، التي تقع في العادة بين شهري حزيران/ يونيو/ ويوليو/ تموز من كل عام، وتتواصل لايام عدة.. واذا اراد الصهاينة إظهارها كمنعة، وكلزوم لاعادة الثقة بالنفس، فهي في الواقع تبقى علامة على التراجع، وعلى علو يد المقاومة ومحورها، في اي مواجهة عسكرية مقبلة.
دلالات هذه المناورات وغيرها، كبيرة وواسعة وممتدة، وتشير الى تعقيدات خاصة بما يرتبط بالعقيدة الامنية الاسرائيلية، التي مكنت الصهاينة من ايجاد دولتهم واستمرارها طوال السنوات الستين الماضية. فنقل المعركة الى ارض العدو، والابقاء على الجبهة الداخلية، الخلفية، آمنة من اي تداعيات مباشرة للحروب، كان مدماكا اساسيا في تأمين استمرار الدولة الصهيونية والنصر في الحروب. لم يشهد تاريخ العقود الماضية ان تضرر الداخل الاسرائيلي او تأثر بشكل مباشر خلال المواجهات العسكرية، ما مكن تل ابيب من المناورة جيدا في المعركة العسكرية، والمناورة جيدا في ترجمة نتائجها سياسيا.
هذا المفهوم، اي ابقاء الداخل في منأى عن مجريات الحرب وأحداثها، تداعى. منذ الصاروخ الاول الذي سقط على اراضي العام 1948، وبشر بانه الاول في سلسلة صواريخ مقبلة، بمعنى استهداف الجبهة الداخلية الاسرائيلية كتكتيك واستراتيجية في المواجهة، واصبح هذا المفهوم، نقل المعركة الى ارض العدو، منتفياً وغير قائم، وبشكل آكد انتفى بعد العدوان على لبنان عام 2006.

 "المناورة اقرار غير مباشر بان مقولة "نصر سريع وواضح ولا لبس فيه ضد حزب الله" ليس الا شعارا لاستنهاض الاسرائيليين انفسهم واعادة ثقتهم بجيشهم"
بات الداخل الاسرائيلي وساكنوه، منذ عام 2006، جزءاً من اهداف الحرب، المتاحة امام "اعداء اسرائيل"، بما يشمل السكان والمواقع الاستراتيجية والمواقع اللوجستية للحرب العسكرية نفسها. وادى هذا التراجع الى تداعيات طالت مختلف نواحي الحياة في الكيان الاسرائيلي، بدءا من إمكانيات اقرار الحرب على مستوى صانع القرار في تل ابيب، مرورا بقدرة الصمود على مستوى الجيش والمستوطنين، وصولا الى نتائجها العسكرية والسياسية والصورة التي ستنتهي بها. وبحسب تعبيرات اسرائيلية برزت في السنوات القليلة الماضية، وتحديدا بعد حرب اسرائيل على لبنان عام 2006: "تقلصت الفجوة بين اسرائيل واعدائها، التي كانت دائما في مصلحة الكيان العبري عسكريا، وذلك بعد ان تحول الداخل الى جبهة في الحروب، ما يلزم قادة "اسرائيل" اخذها بالاعتبار، في اي قرار حرب مقبل".
ولمناورات "اسرائيل" للجبهة الداخلية نظرتان: سلبية، وهي في الاساس توصيف مادي لواقع اسرائيلي مأزوم، على تفصيل. والنظرة الثانية ايجابية، يشدد الاسرائيليون عليها جيدا في السنوات القليلة الماضية، ويراد تعميمها للاستفادة منها، وهو تحويل التهديد الى فرصة.
في الاساس، تعد مناورات الجبهة الداخلية المقرر اجراؤها هذا العام في حزيران/ يونيو المقبل، والمسماة نقطة تحول خمسة، إقرارا اسرائيليا بالعجز امام المقاومة.. وبلا كثير من الفذلكات، يمكن الاشارة الى الآتي:
اولا: تقر "اسرائيل"، من خلال "تحوّل خمسة"، والمناورات التي سبقتها في السنوات القليلة الماضية، انها لم تجد حلا فعليا لصواريخ المقاومة، المقدر ان تتساقط على منشآتهم الحيوية في المواجهة المقبلة، وان تجبي منهم اثمانا بشرية ومادية باهظة جدا.. فالتجاء "اسرائيل" الى الدفاع السلبي، اي الهروب من الصواريخ والاختباء في الملاجىء والغرف المحصنة، دليل على فقدان الادوات الكفيلة بالتصدي لهذه الصواريخ.. ما يعني ان يُطلب من المستوطنين الهروب والاختباء في الحرب المقبلة.. والحال واحدة، سواء كانت الحرب ابتدائية او ردّية، وكلاهما لا يغنيان "اسرائيل" او يَجبران عجزها الدفاعي.
ثانيا: ان هذه المناورات، اقرار اسرائيلي غير مباشر، بأن المنظومات الدفاعية ضد الصواريخ، اي الدفاع الايجابي، والتي حازت الشهرة قبل ان تولد، ليست بفاعلة امام صواريخ المقاومة.. وما الفائدة والداعي لاقامة مناورات الجبهة الداخلية، اذا لم يكن بامكان المقاومة ان تضر بالداخل الاسرائيلي او ان تصل اليه.. لو كانت منظومة "القبة الحديدية"، او "معطف الريح"، او "مقلاع داوود"، وغيرها من المنظومات شبه الخيالية في "اسرائيل"، بقادرة على تأمين الحماية الايجابية امام صواريخ المقاومة، لكانت الحرب قد وقعت في الماضي، ولم تكن موعودة للمستقبل، اذ لا مبرر للامتناع او الارتداع عن الحرب، ما دام ان الداخل الاسرائيلي مؤمّن ومحمي.
ثالثا: انها ايضا اقرار غير مباشر بان مقولة "نصر سريع وواضح ولا لبس فيه ضد حزب الله"، الشعار الذي جرى تبنيه في اعقاب الحرب الاخيرة كوعد من قادة العدو العسكريين لنتيجة الحرب المقبلة، ليس الا شعارا لاستنهاض الاسرائيليين انفسهم واعادة ثقتهم بجيشهم، بعد ان مس هذه الثقة ضرر غير مسبوق بانتصار المقاومة عام 2006. لو كانت "اسرائيل" بقادرة على انهاء الحرب المقبلة مع المقاومة بزمن قصير وحسم سريع وانتصار واضح، كما يَعدون، لما كان هناك حاجة في الاساس لحماية الجبهة الداخلية. لو كان الجيش الاسرائيلي بقادر على انهاء المعركة خلال ايام قليلة، والنصر فيها، لكانت الحرب، ايضا، قد وقعت منذ زمن، وليس للامتناع عنها او الارتداع عنها معنى، في ظل دافعية "اسرائيل" للحرب، اساسا.
 "قدرة المقاومة، المركّبة تقلق "اسرائيل" في هذه الفترة اكثر من ذي قبل وتتسبب بإطلاق انذار مستمر، جرى التعبير عنه في الاونة الاخيرة كرسائل تهديـد "
من زاوية ثانية، ورغم الدلالات السلبية لمناورات الجبهة الداخلية في "اسرائيل"، الا ان محاولة التعمية قائمة، وربما فاعلة ايضا، اذ تحاول تل ابيب الاستفادة من هذه المناورات، عبر توجيه الرأي العام، لديها ولدى اعدائها، وبمعية الجهات التي تتقاطع مع "اسرائيل" في مصلحة ضرب المقاومة، باتجاهات اخرى مضادة. توحي المقاربة الاسرائيلية وطريقة تغطية اخبار المناورات، بانها نوع واشارة لاعداد السكان والمنشآت الحيوية في الكيان، لتلقي صواريخ المقاومة في الحرب المقبلة، باعتبارها دليلاً على ان تل ابيب في وارد المبادرة الى اعتداء، او انها على استعداد للرد باعتداء، بمعنى انها جاهزة للحرب المقبلة، سواء كانت حربا اعتدائية ابتدائية، او اعتدائية ردية.. والهدف واضح: محاولة ردع الاعداء في ظل ظروف غير مؤاتية لـ"اسرائيل" في هذه المرحلة.
وفي التفصيل، فان احد الاهداف المرصودة جيدا، لهذا العام، هو الخشية من القدرة المركبة التي باتت في حوزة المقاومة، والكافية بذاتها لاقلاق "اسرائيل" في هذه المرحلة.. يعود ذلك، بحسب ما ينشر اسرائيليا من مواقف وتحليلات ودراسات في الفترة الاخيرة، الى التركيب الآتي، في قدرة المقاومة:
اولا: لدى المقاومة، كما بات معروفا، وبإقرار اسرائيلي، قدرة عسكرية كبيرة جدا، متنوعة لجهة المدى والدقة وإلحاق الاذى المادي والدمار، وستكون جاهزة للرد في حال قررت تل ابيب شن اعتداء على لبنان: اعداد غير مسبوقة من القتلى، واضرار مادية كبيرة جدا، في المنشآت الحيوية والمستوطنات.
ثانيا: لدى المقاومة، كما هو ثابت وراسخ في وعي العدو وقادته، بان ارادة استخدام السلاح للدفاع عن لبنان، هي حقيقة واقعة وملموسة جيدا.. اي اعتداء على لبنان سيقابل بالرد دفاعا. فقيادة المقاومة حازمة في هذا المجال، والاسرائيليون يفهمون الجرأة والشجاعة الموجودة في صدور القادة والمجاهدين، وخبروها جيدا.
ثالثا: تقرأ "اسرائيل"، بحسب تقدير استخباراتها، بأن اعداءها يقرأون جيدا واقعها الحالي وتقييد قدرتها على المناورة. فاضافة الى ان اصل المواجهة العسكرية مرفوضة اسرائيليا وتحاول تل ابيب الابتعاد عنها درءا لأثمانها الباهظة وعدم نتيجتها الايجابية بالنسبة اليها، فانها ايضا في هذه المرحلة مكبلة اليدين عن المبادرة، وايضا عن الرد الموعود من قبلها. تدرك "اسرائيل" ان اعداءها مدركون بدورهم ارتداعها عن التسبب بثورات لدى حلفائها في المعسكر المعتدل، او ما تبقى منهم، وتبتعد قدر الاستطاعة عن ان تكون محورا لتحرك شعبي يطيح ببقية الاعتداء، نتيجة لاي اعتداء اسرائيلي في المنطقة، سواء كان اعتداءً مبادراً اليه، او اعتداءً ردّياً.
قدرة المقاومة، المركّبة من اجزائها المبينة اعلاه، تقلق "اسرائيل" في هذه الفترة اكثر من ذي قبل، وتتسبب بإطلاق انذار مستمر، جرى التعبير عنه في الاونة الاخيرة كرسائل تهديد، ظهرت جيدا في المواقف والتحليلات الاسرائيلية، ويجري بثها بين الحين والاخر، بوتيرة سريعة وبأساليب متنوعة، وهي تعبر، بدورها، عن الخشية الاسرائيلية، في معرض التهديد.
ينطلق العدو، في تكرار تهديداته، ضمن خطة مدروسة، كما يبدو، من مخاوف تعيشها تل أبيب، فإدراك اعدائها بانها ملجومة، والقدرة العسكرية الكبيرة لديهم في الرد وإلحاق الاذى، تستدعي منها العمل على اخفاء نفسها كطرف مردوع، منعا لتشجيعهم عن المبادرة للاضرار بها في هذه المرحلة. اذ ترى تل ابيب ان صورة "اسرائيل" المردوعة، كفيلة بأن تُشجِّع بعض الأطراف، مثل حزب الله، لتصفية حسابات مفتوحة، كما تتخوف القيادة الإسرائيلية من أن تلجأ إحدى الفصائل الفلسطينية إلى استخدام الجبهة كوسيلة لمواجهة استحقاقات وتحديات تواجهها سوريا في هذه المرحلة. وما يُعزِّز المخاوف الإسرائيلية، مما قد يقوم به حزب الله تحديدا، وجود توازن ردع حقيقي على الجبهة الشمالية، اثبت فعاليته في المرحلة السابقة، مع ما ينطوي على ذلك من مفاعيل.
على ذلك، لن تكون مفاجأة إن عمدت "اسرائيل" خلال مناورات حزيران/ يونيو المقبل للجبهة الداخلية، المسماة نقطة تحول خمسة، الى الافراط في بث الرسائل التهديدية، وتحويل وجهة التحليل في الشارع العربي نحو قراءة للمناورات تستهدف استشراف الحرب من عدمها، والبحث عن نوايا اسرائيلية من مناوراتها، بدلا من استشراف مدى تراجع "اسرائيل" وفقدانها القدرة الفعلية على تأمين الامن والاستقرار لمواطنيها.

2011-05-07