ارشيف من :آراء وتحليلات

الادارة الاميركية للمعركة ضد بشار: هذه بعض أدوات "الحرب الجديدة" (2)

الادارة الاميركية للمعركة ضد بشار: هذه بعض أدوات "الحرب الجديدة" (2)

عبد الحسين شبيب

في البرقية المؤرخة يوم 28 نيسان 2009 وتحمل الرقم "30609"تكشف القائمة بالاعمال في السفارة الاميركية في دمشق مورا كونيلي أن بلادها قدمت على مدى خمس سنوات (2005 ـ برامج مقرر استمرارها حتى 2010) ما مجموعه 12 مليون دولار للمعارضة السورية تم تمويهها على شكل برامج تخص المجتمع المدني. لكن اكثر ما يلفت في البرامج الأربعة التي مولها "مكتب الديموقراطية وحقوق الإنسان والعمال" خلال عام 2008 هو البحث الذي اجرته "الجامعة الأميركية في واشنطن" عن المجتمع القبلي والمدني في سوريا، من خلال دعوة شيوخ عديدين من 6 قبائل لمقابلتهم وتدريبهم في بيروت، (لنلاحظ مكان التدريب؟).

اما البرامج الثلاثة الاخرى فذهبت على الشكل التالي: مؤسسة «فريدوم هاوس» التي نظّمت العديد من ورش العمل عن «التعبئة المدنية واللاعنفية الاستراتيجية» واستهدفت مجموعة من الناشطين السوريين؛ ورابطة المحامين الأميركيين التي عقدت مؤتمراً في دمشق خلال شهر تموز (2008)، واستمرت بالتواصل مع المجموعات المحيطة بهدف تنفيذ برامج تعليمية قانونية في سوريا من خلال شركاء محليين؛ وشبكة "انترنيوز" التي نسّقت مع المركز الإعلامي للمرأة العربية لدعم المخيمات الشبابية الإعلامية، واستهدفت شباباً سوريين جامعيين في عمان ودمشق. كما تم تقديم منح الى مركز المشروعات الدولية الخاصة (CIPE)، ومعهد صحافة الحرب والسلام (IWPR)، ومجلس البحث والتبادل الدولي (IREX).

اما المنحة التي ادارها "مجلس كاليفورنيا" وتجاوزت الستة ملايين دولار فكانت عبارة عن مشروع مشترك بين المجلس و"شركاء محليين" (سوريين) نتجت منه مفاهيم عدّة للبث التلفزيوني، بدأت في نيسان 2009، تاريخ صادف بدء بث قناة «بردى» السورية المعارضة من لندن.

واذا اضفنا الى ما تقدم البرقية التي نشرها "ويكيليكس"عن حصيلة لقاء بين الرئيس سعد الحريري ومسؤولين اميركيين في آب 2006 ودعا فيها الى اسقاط نظام بشار الاسد ونصحه الاميركيين باقامة علاقات مع تنظيم " الاخوان المسلمين في سوريا"، فان الفترة اللاحقة على الاجتماع تبين ان الاميركيين اقاموا علاقات وثيقة مع " حركة العدالة والتنمية" السورية المعارضة ومقرها لندن، (اسم شبيه لحزب العدالة والتنمية في تركيا). وتصف كونيلي في الوثيقة هذه الحركة بأن عناصرها "اسلاميون معتدلون، وانه عبرهم كان يتم نقل الاموال الى سوريا".

ولتفعيل هذه العملية ترى كونيلي أنّ هناك تحديين يواجهان استراتيجية بلادها تجاه سوريا: التحدي الأكبر هو كيفية نصح الحكومة السورية بأنّ سماحها بوجود معارضة يدفع قُدماً بالعلاقات الثنائية مع واشنطن، (بما يؤدي طبعاً الى تسهيل امر هؤلاء الحلفاء)، والأمر الثاني هو ألاّ تمثّل الرعاية الأميركية للمجتمع المدني تحدياً لتلك العلاقات، وهنا تسهب كونيلي في الحديث عن خشيتها من احتمال خرق الاجهزة الامنية السورية لحركة "العدالة والتنمية" وكشف تفاصيل المخطط الاميركي الراعي لها، وذلك في برقية ثانية ارسلتها بعد ثلاثة أشهر في 8 تموز 2009 وحملت الرقم (47709)، وتكتب كونيلي حرفيا عن "خوف البعثة (الاميركية) من أن تكون الحكومة السورية قد اخترقت حركة العدالة والتنمية المعارضة، وعلمت بشأن المشاريع الأميركية الحساسة في سوريا".

وفي برقياتها تظهر كونيلي الجانب الامني مما يتم القيام به، لانه بالاساس عمل ينطوي على تهيئة المسرح لأحداث لاحقة، اذ تخفي اسماء بعض الشخصيات السورية التي يجري التنسيق معها خوفاً من افتضاحها، وتخلص الى ان "التحدي الأكبر هو كيفية بناء برامج في سوريا من دون لفت انتباه الحكومة السورية إلى المصادر السورية وموظفي السفارة". كما تختم برقية لها بما يكشف عن كيفية توظيف كل شيء في خدمة هذا المشروع، بما فيه زيارات بعض الشخصيات الاجنبية الى دمشق، اذ تقول كونيلي حرفياً:"(...) تبقى أهم أدواتنا ليكون لنا تأثير مباشر على المجتمع المدني (...) الشخصيات المهمة التي تأتي إلى سوريا في موقف يسمح لها بأن تطلب فرصة لقاء جماهير عامة ويُسمح لها بذلك".

طبعا كونيلي جاءت لإكمال ما بدأه سلفها تود هلومستروم الذي كان قائما بالاعمال في السفارة الاميركية بدمشق، وهو يكشف في برقية ارسلها الى وزارة الخارجية الاميركية تعود لتاريخ 23 كانون الأول 2007 وتحمل الرقم "119307"، عن كيفية التفافه على القانون السوري الذي يجعل من المستحيل على أي أحد أن ينال تمويلاً غير سوري، وكذلك لا يسمح للمنظمات غير الحكومية الدولية ذات النشاط السياسي بالعمل في سوريا. وعليه قدم هولمستروم سلة اقتراحات الى وزارة الخارجية لتمويل بعض النشاطات التي يمكن من خلالها دعم المعارضة السورية، وذلك عبر ثلاث طرق:
1 ـ مساندة السجناء السياسيين والمعارضين ومساعدة عائلاتهم؛
2ـ مساعدة المعارضة السياسية على نشر رسالتها والتوسع في الداخل؛
3ـ مساعدة المعارضين خارج سوريا، ممن يحظون بثقة المعارضين في الداخل.

ويقترح هولمستروم استخدام صندوقين لتوزيع الأموال عبرهما: الأول، "صندوق الديمقراطية وحقوق الانسان والعمال"، والثاني "صندوق مبادرة شراكة الشرق الاوسط"، وهما تابعان لوزارة الخارجية،

اما الغطاء التمويهي فيقترح المسؤول الاميركي بأن يكون المنظمات غير الحكومية العالمية، مثل «فريدوم هاوس»، وتدريب الصحافيين على موضوعات حقوق الإنسان، والمساعدة في إنشاء مواقع للصحافة "الحرة"، الإلكترونية والمكتوبة، ومساعدة المنظمات غير الحكومية على التشبيك مع منظمات خارج البلاد (مثل نقابة المحامين الأميركيين) وتنمية عملها في الداخل. اما أخطر اقتراح فهو الاتصال بالكنائس كي توفّر غطاءً لمشاريع المنظمات غير الحكومية، وتدريبها. اما ابرز ابتكارات هولمستروم فهو منح مال للناشطين في حقوق الإنسان والجمعيات من دون إثارة شكوك الحكومة السورية عبر "تسمية هؤلاء لجوائز تمنحها مؤسسات أميركية وأوروبية معروفة".

ونظرا لطابع السرية الذي أكملته كونيلي فقد حذر هولمستروم من التصريحات العلنية للمسؤولين الاميركيين عن دعم المعارضين السوريين بسبب ما ترتبه عليهم من نتائج سلبية،

حيث بدا التحذير متكئا على تفاعلات إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، في 17 شباط 2006، نيته تخصيص خمسة ملايين دولار لما اسماه حينها "تسريع عمل الإصلاحيين في سوريا"، الامر الذي اقلق المعارضين السوريين الذين رأوا الإعلان «ساذجاً وضاراً»، وفق ما تنقله برقية أخرى حملت الرقم "70106" مؤرخة في 21 شباط 2006 بعد ايام على كلام بوش. وتنقل الوثيقة عن مصادر معارضة قولها إنّه كان من الأجدى إبقاء المبادرة سرية، وإنّ من الواضح أنّ الإعلان ليس اهتماماً بالمعارضة بل للضغط على النظام، اي ان واشنطن تلعب بأدواتها السورية.

عملية التمويل الاميركية هذه للمعارضة السورية والبرامج التي انفقت عليها ستتأكد لاحقا من الادوات التي تستخدم في المعركة والتي تنتمي الى ما بات يسمى "الحرب الناعمة" او "الحرب الالكترونية"، وهو ما فصلته صحيفة «جيروزليم بوست» الإسرائيلية مؤخراً كاشفة عن أنّ وزارة الخارجية الأميركية أعدت مبلغاً من 25 مليون دولار لكي تقدمه للمجموعات المعارضة في أي دولة تناهض سياستها، وهي كانت تتحدث عن الاحداث في سوريا، ليضاف هذا المبلغ الى ما سبق انفاقه، قبل انطلاق المواجهات.

وتكشف "جيروزاليم بوست" انه سيجري استخدام هذا المبلغ على نشر جميع أشكال التحريض وجميع دعوات التمرد والثورة على أي نظام حكم تحدده واشنطن وذلك من خلال الإنترنت، والقنوات الفضائية المناسبة، وما تتضمنه أجهزة اتصال (الموبايل) من تقنيات في التصوير والاتصال لحشد المعارضين وزجهم في حرب إعلامية وتحريضية ضد قادة دولهم وأنظمة السلطات فيها.

وبحسب الصحيفة فان المرحلة التالية تأتي بعد فترة معينة وتتولى فيها واشنطن علناً التنديد بهذه الدولة المعنية لتحقيق أحد هدفين: إما التراجع عن سياستها المناهضة للولايات المتحدة، وإما تهديدها بفرض إجراءات أو عقوبات بسبب محاولة هذه الدولة المحافظة على نظامها وعدم الاستجابة لدعوات المعارضة. وتؤكد صاحبة البحث في الصحيفة الإسرائيلية هيلاري كريغير أن وزارة الخارجية الأميركية ستعتمد الآن على إعداد المرحلة الأولى التمهيدية لمحاصرة أو تغيير نظام ما وذلك عن طريق تغذية وتشجيع معارضة من الداخل أولاً، وتوحيد شعاراتها وتواصل أفرادها عبر وسائل الاتصال الإلكترونية ثانياً، ولو طالت فترة هذه المرحلة لسنة أو أكثر.

ويتحدث بعض المختصين في هذه الإستراتيجية عن هذا المشروع بتأكيد أهمية «القوة الإلكترونية الناعمة» في أولى مراحل الهجوم الأميركي على أي دولة مناهضة لكي يتسنى لـ«القوة الصلبة» الدخول إلى المعركة بمبررات «دولية» مثل مجلس الأمن أو مبررات تحالفية إقليمية دولية (جامعة عربية ومعها حلف أطلسي) إذا لم يوافق مجلس الأمن الدولي.

وفي حين يؤدي تحليل المعطيات المتوافرة عن الاحداث في سوريا الى تأكيد تطبيق هذه الاستراتيجية فقد عزز هذا الامر ما كشفه الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة في حديث مع قناة "المنار" ضمن برنامج "حديث الساعة" المسائي يوم الجمعة بتاريخ (22/4/2011)، عن بعض المعطيات الحساسة لكيفية ادارة المعركة ضد بشار الاسد من خلال ثلاثة مراكز اقليمية: واحد في دبي وآخر في منطقة الاشرفية في بيروت يدير عدة الشغل الالكترونية، وثالث في هامبورغ في المانيا حيث يعمل اميركيون واسرائيليون وجزء من المعارضة السورية وبعض اللبنانيين والسعوديين.

ويتقاطع كلام سماحة مع ما ورد في احدى وثائق السفيرة كونيلي التي تكشف فيها عن تمويل "معهد آسبن للمبادرة الاستراتيجية" لـدعم ما تسميه "الإصلاحات الديموقراطية" بمبلغ وقدره مليونان وخمسة وثمانون ألف دولار، من 1 كانون الأول 2005 إلى 31 كانون الأول 2009. والمعهد الذي يتّخذ من برلين مقرّاً له، يعمل مع ناشطين مواطنين من جذور سورية ومنفيين ذوي ميول إصلاحية (كما يرد في البرقية).

كما تحدث الوزير سماحة عن حصول تدريبات لسوريين في قطر وغيرها من الدول لخلق الفتن وبحوزتهم هواتف متطورة جداً جداً، وتوزع الصور التي يلتقطونها عبر هذه الهواتف من خلال المواقع الالكترونية، وان الشرائط التي تُعرض على الجزيرة والـ"youtube" عن الاحداث في سوريا يحملها أشخاص مدربون بعناية ويملكون خطوطاً دولية وبإمكانهم التواصل مع غيرهم من خلال الأقمار الصناعية".

اما المواكبة الاميركية الرسمية الحكومية لهذا العمل الامني والاعلامي ترجمة للمرحلة الثانية فيبدو انه سيتخذ مسارا تصاعديا يبدأ بمحاولة استصدار بيان صحافي من مجلس الامن يدين العنف المستخدم ضد المواطنين، ويرتقي الى درجة ثانية كشف عنها المتحدث باسم البيت الأبيض، تومي فيتور عن بحث إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما فرض «عقوبات موجهة» على حكومة الرئيس بشار الأسد، زادت عليه صحيفة «وول ستريت جورنال» بالقول ان "واشنطن تستعد لفرض عقوبات على مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة السورية ممن تقول إنهم يشرفون على القمع العنيف للمتظاهرين الذين يطالبون بالحرية"، وإن وزارة المالية الاميركية "تعدّ أمراً تنفيذياً يمنح الرئيس السلطة لتجميد حسابات مسؤولين سوريين، ويمنعهم من إجراء أي تعاملات تجارية في الولايات المتحدة". كما ان الدول الأوروبية حيث تملك عائلة الأسد أصولاً كبرى، ستتعرض للضغوط لفرض عقوبات مماثل.

وبموازاة بدء "مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض خلال الأسابيع الماضية عقد اجتماعات مع شخصيات سورية معارضة" لتنسيق العمل بينهم بسبب غياب الوحدة بين المتظاهرين بحسب "الوول ستريت جورنال" لوحظ ارتفاع اصوات النواب الاميركيين الذي يدعون الى فرض عقوبات وحظر أسلحة على سوريا وتقديم الدعم الكامل للمحتجين السوريين، لكن هؤلاء يضعون خطاً أحمر لأي تدخل عسكري شبيه بالتدخل في العراق او حتى في ليبيا، ويقولون حرفياً: "بالتأكيد لا نريد قوات أميركية على الأرض"، ما يشير الى القلق الموجود ضمنيا من عواقب السياسة الاميركية هذه.

وبما ان برامج دعم المعارضين السوريين تضمنت تدريبات قانونية فان صحيفة "دايلي تلغراف" البريطانية تحدثت عن "هيئة مؤثرة من القضاة والمحامين الدوليين دعت إلى محاسبة الرئيس الأسد وأعوانه على الهجمات التي وقعت خلال عطلة عيد الفصح وفتحت فيها قوات الأمن والميليشيات النار على المدنيين"، وقالت ان الرئيس الأسد "يواجه اتهامات من المحكمة الجنائية الدولية، بعد إبلاغ القادة الغربيين بمقتل 120 شخصاً من المتظاهرين المناهضين للحكومة في الاحتجاجات الأخيرة". وهذا يعني ان المحكمة الجنائية الدولية يمكن ان تدخل ورقة ضغط وابتزاز جديدة في الحرب ضد نظام الرئيس الاسد بجانب الادوات الاخرى.

بناءً على ما تقدم يبدو ان الاميركيين يقامرون هذه المرة ايضا ويخوضون حربا ليس لديهم تقدير وضع لنهايتها التي ربما تنقلب عليهم كما حصل في افغانستان وبعده في العراق وبعده في حرب لبنان 2006.


2011-05-09