ارشيف من :أخبار لبنانية
الردع هدف إسرائيل، ولو على حساب تدمير الحجر والبشر (*)
تعرض صحيفة "يونغه فيلت" الألمانية، مقتطفات من كتاب نورمان فنكلشتاين المسمّى "غزو إسرائيل لقطاع غزة"، والذي يصدر أوائل شهر آذار/ مارس عن دار نشر "نوتيلوس" في هامبورغ، ليكون بمثابة التحليل السياسي المرتقب للأحداث. وتنشر الصحيفة الفصل الثاني الذي يحمل عنوان "خوفهم وخوفنا"، ويتناول المساعي الإسرائيلية لإفشال جميع سبل التوصّل إلى سلام، وسعيها الدؤوب للحفاظ على قوّة الردع، ولو كان ذلك على حساب إبادة البشر وتدمير الحجر والشجر، سواء في لبنان أو في فلسطين.
أورد مراسل الشرق الأوسط لصحيفة "نيويورك تايمز"، إيثان برونر، نقلاً عن مصادر إسرائيلية أنّ "الهدف الرئيس" من عملية "الرصاص المصبوب" (العدوان الحربي الإسرائيلي على قطاع غزة في شتاء 2008/2009) تمثل في "استعادة قدرة الردع لدولة إسرائيل"، لأنّ "أعداء إسرائيل صاروا أقلّ خوفاً عن ذي قبل أو أقلّ ممّا ينبغي أن يكون". فالحفاظ على قدرة الردع يُعَدّ عقيدة استراتيجية لإسرائيل كانت دائماً ذات أهمية كبيرة. وكان الدافع الرئيس، على سبيل المثال، في حزيران/ يونيو 1967 عندما قامت إسرائيل بتوجيه أوّل ضربة إلى مصر، والتي نتج عنها الاحتلال الإسرائيلي لكلّ من قطاع غزة والضفة الغربية. وكتبرير للهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في كانون الأول/ ديسمبر 2008؛ كتب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس: "تولّد لدى كثير من الإسرائيليين شعور بأنّ الجدران التي تحيط بهم تمثل لهم خطراً محدقاً (...)، تماماً مثل بداية حزيران/ يونيو 1967". وبعد مرور بضعة أشهر سخر غدعون ليفي من تكتيكات التخويف الإسرائيلية، واصفاً إيّاها بأنها "ملاذ الشيطان"، ـ والتي تبرِّر وتوضح كل شيء ـ. ولا يمكن إنكار حقيقة أنّ الجمهور الإسرائيلي رزح تحت ستار من القلق في حزيران/ يونيو 1967. ولكن – وكما يعرف موريس – لم يكن وجود إسرائيل معرّضاً للتهديد بأيِّ حال من الأحوال، ولم تقلق القيادة الإسرائيلية ممّا ستسفر عنه الحرب.
"الخوف منّا"
بعد أن هدّدت إسرائيل سورية في أيّار/ مايو 1967 بتنفيذ هجوم ضدها، وبلورت الخطط اللازمة لذلك، نقل الرئيس المصري جمال عبد الناصر قوات مصرية إلى شبه جزيرة سيناء وأمر بإغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. ـ وكانت مصر قد أبرمت قبل بضعة أشهر من ذلك، معاهدة عسكرية مع سورية ـ. وأوضح وزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان بصورة مثيرة للشفقة، إنّ هذا الحصار سيجبر إسرائيل على "التنفّس برئة واحدة". غير أنّ مضيق تيران لم يكن يلعب سوى دور صغير في إمدادات إسرائيل ، باستثناء إمدادات النفط، والتي لم تكن هناك حاجة ماسة إليها بسبب وجود مخزون كاف ـ. وعلاوة على ذلك فإنّ ناصر لم يطبِّق قرار الحظر بصورة فعلية نهائياً. فقد كان الطريق مفتوحاً من جديد خلال أيّام أمام السفن. وماذا عن التهديد العسكري الذي كانت تمثله مصر؟ لقد تأكد لدى العديد من أجهزة الاستخبارات الأمريكية أنّ المصريين لا يحملون أيّة نوايا عدوانية تجاه إسرائيل، وأنّ إسرائيل في حال هاجمتها مصر بصورة غير متوقعة ـ سواء وحدها أو بالاشتراك مع دول عربية أخرى ـ، فإنها "ستقضي" عليها؛ وفقاً لصياغة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون.
وقد قال رئيس الموساد في 1 حزيران/ يونيو 1967 أمام كبار المسؤولين الأمريكيين، إنّ "الولايات المتحدة والإسرائيليين متفقون تماماً في ما يتعلّق بنتائج الاستخبارات العسكرية وتفسيرها".
ولكنّ القلق ساد في إسرائيل لسبب مختلف تماماً. فقد تنامى في العالم العربي الاستعداد لمواجهة إسرائيل، كتطوّر ناشئ عن القومية المتطرِّفة لعبد الناصر، وبلغت ذروتها في ما أقدم عليه في أيّار/ مايو 1967.
أمّا أعضاء المجلس الوزاري الإسرائيلي الذين أبدوا شكوكاً إزاء توجيه بلادهم الضربة الأولى؛ فتلقّوا تنبيهات من قائد الفرقة آريئيل شارون بأنّ إسرائيل في سبيلها إلى فقدان "القدرة على الردع (...) وهي سلاحنا الأهم - الخوف منّا". ولم يكن مقصودا بـ"القدرة على الردع" أنّ إسرائيل يجب أن تكون قادرة على تجنّب تهديد وشيك قاتل، فقد كان هناك توجّه للتأكد من أنّ إسرائيل حرّة لتفعل ما تشاء – وأنّ العرب لن يثوروا مطلقاً، حتى ولو قامت إسرائيل بما هو أكثر مجوناً.
وعندما قدّم مستشار الرئاسة الأمريكية البارز والت روستو تقييماً لموازين القوى في المنطقة؛ خلص أيضاً إلى أنه قد حان الوقت "لتحذير ناصر". فقد شنّت إسرائيل هذه الحرب في 5 حزيران 1967، من أجل "استعادة مصداقية قوّة الردع الإسرائيلية"، حسب ما كتب محلل الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي زئيف ماعوز.
البحث عن الهدف
إنّ إجبار "حزب الله" جيش الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب من لبنان في أيّار/ مايو 2000، جعل إسرائيل تحرص مجدداً على القدرة على الردع. فحقيقة أنّ إسرائيل تعتبر مثل هذا الإجراء بمثابة هزيمة ساحقة لها – وهو عار حاق بها وكان مبرِّراً للاحتفال في جميع أنحاء العالم العربي – جعل من وجوب حرب حتمية أمراً غير محتمل. وقد شرعت إسرائيل على الفور في التخطيط للجولة المقبلة، ووجدت المبرِّر في صيف عام 2006، عندما قام "حزب الله" بأسر جنديين إسرائيليين ـ وقتل البعض الآخر أثناء العملية ـ، وطالب حزب الله مقابل الإفراج عنهم، إطلاق سراح أسرى لبنانيين من السجون الإسرائيلية. ورغم أنّ إسرائيل قد كرّست سلاح الجوّ التابع لها، ثم أدخلت قوّاتها البرية أيضا إلى الحرب؛ إلا أنها مُنيت مجدّداً بهزيمة مُخزية.
وخلص محلل عسكري أمريكي بارز، إلى الاستنتاجات التالية، بالرغم من تحزّبه لإسرائيل: "إنّ سلاح الجوّ الإسرائيلي، وهو فرع الجيش الإسرائيلي، الذي أباد خلال أيام سلاح جوي كامل، لم يُثبِت فقط أنه غير قادر على وقف إطلاق حزب الله للصواريخ. كما أنه لم يكن قادراً حتى على منع حدوث انتعاشة سريعة لحزب الله عن طريق إضعاف كاف له". "وعندما دخلت القوات البرية إلى لبنان في النهاية (...) لم تتمكن حتى من الاقتراب من معاقل حزب الله". "أمّا في ما يتعلّق بالأهداف التي حدّدتها إسرائيل لنفسها: فإنه لم يتمّ تحرير الجنديين الإسرائيليين المختطفين كما لم يتمّ إطلاق سراحهما. كما أنّ إطلاق حزب الله للصواريخ لن يتم منعه في أي وقت، كما أنّ الصواريخ ذات المدى البعيد تواصل إطلاقها (...)، وتعرّضت القوات البرية الإسرائيلية لخسائر فادحة، وتورّطت في معارك طويلة مع عدو مجهّز تجهيزاً جيداً (...)".
وبعد حرب لبنان في عام 2006، لم تستطع إسرائيل الانتظار لمواجهة "حزب الله" مجدّداً، ولكنها تردّدت لأنّ يقين النصر القديم لم يتبدّد بعد. وفي منتصف عام 2008 حاولت إسرائيل عبثاً تجنيد الولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، أملاً في أنّ مثل هذا الهجوم من شأنه أن يضعف "حزب الله" ـ الشريك الأصغر لإيران ـ ويعمل على تركيع هؤلاء اللاعبين، الذين يقاومون بعناد الهيمنة الإقليمية لإسرائيل.
لقد هدّدت إسرائيل ومبعوثوها غير الرسميين، ومن بينهم بيني موريس، بأنه في حالة غياب مصلحة للولايات المتحدة في مثل هذا العمل؛ فإنه "سيتمّ استخدام الأسلحة غير التقليدية"، وهو ما من شأنه أن يؤدِّي إلى مقتل العديد من الأبرياء من الإيرانيين. ولكن ممّا كدّر إسرائيل أنه لم ينتج شيء عن هذا التهديد؛ فقد رفضت الولايات المتحدة إعطاء الضوء الأخضر لأيِّ عمل عسكري. وبينما تواصل إيران طريقها دون رادع؛ وقفت إسرائيل بغباء وأُجبِرَت على مشاهدة كيفية تنامي الشكوك بشأن قدرتها على الإرهاب. ولذا وجب أن يكون هناك هدف للهجوم. وقد وقع الاختيار على غزة، لكونها معروفة جيداً لدرجة أنه لا يمكنها أن تفعل الكثير حيال هجوم عسكري. هناك في غزة قاومت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الإملاءات الإسرائيلية بعناد، رغم أسلحتها الفقيرة. وافتخرت "حماس" بأنها أجبرت إسرائيل في عام 2005 على "الانسحاب" من قطاع غزة، ومن ثمّ الاتفاق على وقف إطلاق النار في حزيران/ يونيو 2008. ومن ثمّ اتضحت الإجابة على السؤال: أين تريد إسرائيل استعادة قدرتها على الردع. والسؤال كيف تنوي إسرائيل إدارة هذه المهمّة، كان مسرح الحرب في لبنان عام 2006 مكاناً محتملا.
استراتيجية الضاحية
أثناء حرب لبنان عام 2006، سوّت إسرائيل بالأرض الضاحية الجنوبية المتاخمة لبيروت، حيث يعيش العديد من مؤيدي "حزب الله" الشيعي من الفقراء. وبعد الحرب بدأ الجنود الإسرائيليون الحديث عن "استراتيجية الضاحية"؛ فقد قال قائد العمليات في المنطقة الشمالية التابع للجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت: "سنواجه بعنف شديد أيّة قرية تُطلَق منها الصواريخ على إسرائيل، وسنوقع ضرراً ودماراً كبيرين". "وهذا ليس مجرد اقتراح، بل خطة تمّت الموافقة عليها سابقاً". فكما يقول العقيد احتياط غابرييل سيبوني، من معهد بحوث الأمن القومي الإسرائيلي، إنه يتعيّن على إسرائيل في حالة العداء أن تردّ فوراً وبطريقة حاسمة باستخدام القوة المفرطة. (...) ومثل ردّة الفعل هذه تهدف إلى التسبّب في أكبر قدر من الضرر، وفرض مثل هذه العقوبة القاسية، حتى تصير عملية إعادة الإعمار طويلة ومكلفة". وهدّد الرئيس السابق مجلس الأمن القومي الإسرائيلي غيورا آيلاند بأنّ الحرب القادمة (...) سوف تؤدِّي إلى القضاء على الجيش اللبناني، وإلى تدمير البنية التحتية الوطنية ومعاناة شديدة بين صفوف السكان".
"فالضرر البالغ للجمهورية اللبنانية، وتدمير المنازل والبنية التحتية ومعاناة مئات الآلاف من الناس - هي العواقب التي يمكن أن تؤثر على سلوك حزب الله أكثر من أي شيء آخر".
ومن الجدير بالذكر أنّ استخدام القوّة غير المتناسبة والهجمات على البنية التحتية المدنية تمثل وفقا للقانون الدولي جرائم حرب. وفي الواقع ينبغي للاستراتيجية الجديدة أن تكون موجّهة ضدّ كلّ المعارضين لإسرائيل في المنطقة، ولكن كثيراً ما أشير إلى أنّ غزة كانت مناسبة لمثل هذا النهج على نحو ممتاز.
ويقول محلِّل إسرائيلي بارز: "من المؤسف للغاية أنه لم يتمّ تطبيق هذه الاستيراتيجية على الفور عقب الانسحاب من غزة (عام 2005) وبعد أوّل هجوم صاروخي".. "فلو كنّا لجأنا آنذاك على الفور إلى استراتيجية الضاحية، لوفّرنا على أنفسنا كثيراً من المتاعب". وكان وزير الداخلية الإسرائيلي مائير شطريت قد اقترح في نهاية أيلول/ سبتمبر 2008 أنه في حال أن هاجم الفلسطينيون إسرائيل بصواريخ مرّة أخرى، فيجب على الجيش الإسرائيلي "اختيار أي منطقة سكنية في غزة وتتمّ تسويتها بالأرض".
ويتضح من الأفعال الرسمية قبل بدء الغزو، كيفية بلورة خطة إسرائيل للهجوم على غزة: "ما نحتاج إليه هو نهج منتظم بهدف معاقبة جميع المنظمات التي تطلق الصواريخ وقذائف الهاون، وكذلك الحال مع المدنيين الذين يتيحون لتلك المنظمات أن تطلق وتختفي" ـ العميد احتياط عاميرام لافين. "بعد هذه العملية في غزة لن يكون هناك مبنى تابع لحماس قائم على حاله" ـ نائب رئيس أركان الجيش الاسرائيلي، دان هريئيل. "كل ما له علاقة بحماس، هو هدف مشروع" ـ المتحدثة باسم الجيش الإسرائيلي العقيد أفيتال ليبوفيتش.
فينبغي إذن أن يكون "من الممكن" تدمير غزة حتى يتسنّى لهم أن يفهموا أنه من الأفضل لهم عدم مواجهتنا. (...) إنها فرصة كبيرة لتدمير منازل كلّ هؤلاء الإرهابيين، حتى يفكِّروا مرّتين قبل أن يقرِّروا إطلاق الصواريخ. (...) وآمل أن تُكلّل العملية بنجاح كبير، وأن تتمّ إبادة الإرهاب وحماس تماماً. أعتقد أنه ينبغي أن تتمّ تسويتهم بالأرض، أي يتمّ تدمير الآلاف من المنازل والأنفاق والمصانع" ـ نائب رئيس الوزراء إيلي يشاي.
وقال المراسل العسكري للقناة الإخبارية الإسرائيلية القناة العاشرة: "لقد تأكد أنّ إسرائيل لا تشكِّك في حقيقة أنّ ردّ فعلها غير متناسب".
وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية قد تباهت بحقيقة أنّ الضربات الجوية الأولى التي شنتها إسرائيل على الناس في قطاع غزة – كما وصفت صحيفة "معاريف" – "قد أوقعتهم في خوف ورعب". وقد شهد أوّل يومين فقط لحرب لبنان عام 2006 مقتل 55 من اللبنانيين، أمّا في اليوم الأول من الغزو الذي نفذته إسرائيل ضد قطاع غزة فقد قُتل ثلاثمائة شخص في أربع دقائق فقط. أمّا معظم الأهداف فقد كانت تقع في "منطقة سكنية ذات كثافة سكانية عالية"، وقد بدأ القصف "في نحو الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، في وقت يكون مفعماً بالحياة والطرق مليئة بالمدنيين، ومن بينهم أطفال المدارس الذين يرغبون بالعودة إلى ديارهم في نهاية اليوم الدراسي الصباحي، وكذلك الذين كانوا في طريقهم إلى المدارس للانخراط في الفترة المسائية من التدريس".
وبعد بضعة أيّام من بدء المذبحة؛ كتب محلِّل استراتيجي إسرائيلي مطّلع: "إنّ الجيش الإسرائيلي كان يخطِّط لشنّ هجمات على مواقع يقيم فيها مئات من الناس، ولم يقم الجيش بمطالبة هؤلاء الناس بمغادرة هذه المنازل والمناطق. وفي النهاية توجّهت النية لقتل كثيرين منهم، وقد تمكّنوا بالفعل من ذلك". وأثنى بيني موريس على الضربة الجوية الإسرائيلية الأكثر فعالية ضد حماس (...)".
وعندما أخذت عملية "الرصاص المصبوب" مسارها، توقف بعض المشاهير الإسرائيليين عن التظاهر كما لو أنّ الأمر يدور حول وضع نهاية لقصف "حماس" للصواريخ. وقال وزير إسرائيلي سابق أمام المنظمة البحثية المرموقة "مجموعة الأزمات الدولية"، إنّ "العدوّ الحقيقي بالنسبة لوزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك ليس حماس، ولكن "ذكرى عام 2006". ومن جانبه بذل الفيلسوف الإسرائيلي آسا كاشر قصارى جهده للدفاع عن غزو غزة، ولكنه قال: "إنّ أيّة حكومة ديمقراطية (...) لا يمكن ببساطة استخدام الناس للمزايدة على قدرتها الرادعة. فالناس ليسوا سلعاً استهلاكية".
كما انغمس معلِّقون آخرون في إطلاق تصريحات خبيثة: ".. بعد لبنان يمكن أن نعتبر غزة وكأنها تكرار لواجب مدرسي - فرصة ثانية لتتمّ تأديته بصورة صحيحة".
فإذا ما كانت إسرائيل قد سعدت بتمكّنها من إلقاء لبنان في عام 2006 عشرين سنة إلى الوراء؛ فإنها تسعد الآن بأنها تمكنت من إيصال قطاع غزة إلى "الأربعينيات من القرن الماضي" - "الكهرباء موجودة لبضع ساعات فقط يومياً". "لقد استعادت إسرائيل قدرتها على الردع"، لأنّ "الحرب في غزة نافست حرب لبنان الثانية (2006)"، و"من المؤكد أنّ زعيم حزب الله حسن نصر الله حزين للغاية هذه الأيام (...) فلن يكون هناك في العالم العربي أحد يمكنه الادعاء بأن إسرائيل ضعيفة (...)".
العودة إلى الهمجية
يمكن وصف طريقة التشغيل التي اتبعتها إسرائيل لاستعادة قدرة الردع، بأنها انتكاس تدريجي إلى الهمجية. فالانتصار الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1967 لم يكن قد تمّ بشقّ الأنفس ـ تحدث روستوف عن "تبادل لإطلاق النار" ـ، ولكن بعد كلِّ شيء؛ فإنّ الأمر يدور في المقام الأول حول الانتصار في ساحة المعركة. أمّا في الأعمال العدائية اللاحقة – وبخاصة في لبنان – فلا تريد إسرائيل تحقيق انتصار في ساحة المعركة وحسب؛ بل تبطش من خلال قصف السكان المدنيين. ويثبت القرار بأن تكون غزة تحديداً مسرحاً لاستعادة قدرة الردع الإسرائيلية، أنّ إسرائيل تتجنّب الدخول في مخاطر حرب تقليدية: فقد تمّ اختيار غزة كهدف لأنه قطاع أعزل إلى حدّ كبير.
ويتضح من الهزيمة النسبية التي لحقت بإسرائيل كقوّة عسكرية، أنها تتخذ هذه المرة الإرهاب منطلقا لها، ويثبت أيضاً أنّ أشخاصاً مثل بيني موريس أثناء غزو غزة وبعده قد جلبوا البهجة من قوة إسرائيل العسكرية. إنّ هناك حالة فقدان للواقع سواء من قبل المثقفين ضمن التيار الرئيس السائد في إسرائيل، وكذلك لدى جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي.
ولاستراتيجية الردع الإسرائيلية أمر آخر: فقد أسهمت في رفع الحالة المعنوية للشعب. وقد ورد في وثيقة صادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ شباط/ فبراير 2009 أنّ "الشيء الوحيد الذي نجح فيه غزو غزة" هو تهدئة الإسرائيليين، الذين تساءلوا عمّا إذا كانت بلادهم "قادرة فعلياً هي وجيشها" على "توجيه ضربة لأعداء إسرائيل": "ويثبت استخدام القوة المفرطة في العملية (...) أنّ إسرائيل هي سيدة المنطقة. (...) وكان القصد من صور الدمار أنها مخصّصة كي تشاهدها العيون الإسرائيلية وعيون الأعداء على حدٍّ سواء: فقد كان الهدف منها تلبية التعطّش للانتقام من قبل الإسرائيليين وتلبية رغبتهم في تحقيق الكرامة الوطنية".
(*) مقتطفات من كتاب: التسوية بالأرض .. غزو إسرائيل لقطاع غزة
المصدر: صحيفة "يونغه فيلت" الألمانية/ نقلا عن مركزالزيتونة
أورد مراسل الشرق الأوسط لصحيفة "نيويورك تايمز"، إيثان برونر، نقلاً عن مصادر إسرائيلية أنّ "الهدف الرئيس" من عملية "الرصاص المصبوب" (العدوان الحربي الإسرائيلي على قطاع غزة في شتاء 2008/2009) تمثل في "استعادة قدرة الردع لدولة إسرائيل"، لأنّ "أعداء إسرائيل صاروا أقلّ خوفاً عن ذي قبل أو أقلّ ممّا ينبغي أن يكون". فالحفاظ على قدرة الردع يُعَدّ عقيدة استراتيجية لإسرائيل كانت دائماً ذات أهمية كبيرة. وكان الدافع الرئيس، على سبيل المثال، في حزيران/ يونيو 1967 عندما قامت إسرائيل بتوجيه أوّل ضربة إلى مصر، والتي نتج عنها الاحتلال الإسرائيلي لكلّ من قطاع غزة والضفة الغربية. وكتبرير للهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في كانون الأول/ ديسمبر 2008؛ كتب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس: "تولّد لدى كثير من الإسرائيليين شعور بأنّ الجدران التي تحيط بهم تمثل لهم خطراً محدقاً (...)، تماماً مثل بداية حزيران/ يونيو 1967". وبعد مرور بضعة أشهر سخر غدعون ليفي من تكتيكات التخويف الإسرائيلية، واصفاً إيّاها بأنها "ملاذ الشيطان"، ـ والتي تبرِّر وتوضح كل شيء ـ. ولا يمكن إنكار حقيقة أنّ الجمهور الإسرائيلي رزح تحت ستار من القلق في حزيران/ يونيو 1967. ولكن – وكما يعرف موريس – لم يكن وجود إسرائيل معرّضاً للتهديد بأيِّ حال من الأحوال، ولم تقلق القيادة الإسرائيلية ممّا ستسفر عنه الحرب.
"الخوف منّا"
بعد أن هدّدت إسرائيل سورية في أيّار/ مايو 1967 بتنفيذ هجوم ضدها، وبلورت الخطط اللازمة لذلك، نقل الرئيس المصري جمال عبد الناصر قوات مصرية إلى شبه جزيرة سيناء وأمر بإغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. ـ وكانت مصر قد أبرمت قبل بضعة أشهر من ذلك، معاهدة عسكرية مع سورية ـ. وأوضح وزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان بصورة مثيرة للشفقة، إنّ هذا الحصار سيجبر إسرائيل على "التنفّس برئة واحدة". غير أنّ مضيق تيران لم يكن يلعب سوى دور صغير في إمدادات إسرائيل ، باستثناء إمدادات النفط، والتي لم تكن هناك حاجة ماسة إليها بسبب وجود مخزون كاف ـ. وعلاوة على ذلك فإنّ ناصر لم يطبِّق قرار الحظر بصورة فعلية نهائياً. فقد كان الطريق مفتوحاً من جديد خلال أيّام أمام السفن. وماذا عن التهديد العسكري الذي كانت تمثله مصر؟ لقد تأكد لدى العديد من أجهزة الاستخبارات الأمريكية أنّ المصريين لا يحملون أيّة نوايا عدوانية تجاه إسرائيل، وأنّ إسرائيل في حال هاجمتها مصر بصورة غير متوقعة ـ سواء وحدها أو بالاشتراك مع دول عربية أخرى ـ، فإنها "ستقضي" عليها؛ وفقاً لصياغة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون.
وقد قال رئيس الموساد في 1 حزيران/ يونيو 1967 أمام كبار المسؤولين الأمريكيين، إنّ "الولايات المتحدة والإسرائيليين متفقون تماماً في ما يتعلّق بنتائج الاستخبارات العسكرية وتفسيرها".
ولكنّ القلق ساد في إسرائيل لسبب مختلف تماماً. فقد تنامى في العالم العربي الاستعداد لمواجهة إسرائيل، كتطوّر ناشئ عن القومية المتطرِّفة لعبد الناصر، وبلغت ذروتها في ما أقدم عليه في أيّار/ مايو 1967.
أمّا أعضاء المجلس الوزاري الإسرائيلي الذين أبدوا شكوكاً إزاء توجيه بلادهم الضربة الأولى؛ فتلقّوا تنبيهات من قائد الفرقة آريئيل شارون بأنّ إسرائيل في سبيلها إلى فقدان "القدرة على الردع (...) وهي سلاحنا الأهم - الخوف منّا". ولم يكن مقصودا بـ"القدرة على الردع" أنّ إسرائيل يجب أن تكون قادرة على تجنّب تهديد وشيك قاتل، فقد كان هناك توجّه للتأكد من أنّ إسرائيل حرّة لتفعل ما تشاء – وأنّ العرب لن يثوروا مطلقاً، حتى ولو قامت إسرائيل بما هو أكثر مجوناً.
وعندما قدّم مستشار الرئاسة الأمريكية البارز والت روستو تقييماً لموازين القوى في المنطقة؛ خلص أيضاً إلى أنه قد حان الوقت "لتحذير ناصر". فقد شنّت إسرائيل هذه الحرب في 5 حزيران 1967، من أجل "استعادة مصداقية قوّة الردع الإسرائيلية"، حسب ما كتب محلل الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي زئيف ماعوز.
البحث عن الهدف
إنّ إجبار "حزب الله" جيش الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب من لبنان في أيّار/ مايو 2000، جعل إسرائيل تحرص مجدداً على القدرة على الردع. فحقيقة أنّ إسرائيل تعتبر مثل هذا الإجراء بمثابة هزيمة ساحقة لها – وهو عار حاق بها وكان مبرِّراً للاحتفال في جميع أنحاء العالم العربي – جعل من وجوب حرب حتمية أمراً غير محتمل. وقد شرعت إسرائيل على الفور في التخطيط للجولة المقبلة، ووجدت المبرِّر في صيف عام 2006، عندما قام "حزب الله" بأسر جنديين إسرائيليين ـ وقتل البعض الآخر أثناء العملية ـ، وطالب حزب الله مقابل الإفراج عنهم، إطلاق سراح أسرى لبنانيين من السجون الإسرائيلية. ورغم أنّ إسرائيل قد كرّست سلاح الجوّ التابع لها، ثم أدخلت قوّاتها البرية أيضا إلى الحرب؛ إلا أنها مُنيت مجدّداً بهزيمة مُخزية.
وخلص محلل عسكري أمريكي بارز، إلى الاستنتاجات التالية، بالرغم من تحزّبه لإسرائيل: "إنّ سلاح الجوّ الإسرائيلي، وهو فرع الجيش الإسرائيلي، الذي أباد خلال أيام سلاح جوي كامل، لم يُثبِت فقط أنه غير قادر على وقف إطلاق حزب الله للصواريخ. كما أنه لم يكن قادراً حتى على منع حدوث انتعاشة سريعة لحزب الله عن طريق إضعاف كاف له". "وعندما دخلت القوات البرية إلى لبنان في النهاية (...) لم تتمكن حتى من الاقتراب من معاقل حزب الله". "أمّا في ما يتعلّق بالأهداف التي حدّدتها إسرائيل لنفسها: فإنه لم يتمّ تحرير الجنديين الإسرائيليين المختطفين كما لم يتمّ إطلاق سراحهما. كما أنّ إطلاق حزب الله للصواريخ لن يتم منعه في أي وقت، كما أنّ الصواريخ ذات المدى البعيد تواصل إطلاقها (...)، وتعرّضت القوات البرية الإسرائيلية لخسائر فادحة، وتورّطت في معارك طويلة مع عدو مجهّز تجهيزاً جيداً (...)".
وبعد حرب لبنان في عام 2006، لم تستطع إسرائيل الانتظار لمواجهة "حزب الله" مجدّداً، ولكنها تردّدت لأنّ يقين النصر القديم لم يتبدّد بعد. وفي منتصف عام 2008 حاولت إسرائيل عبثاً تجنيد الولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، أملاً في أنّ مثل هذا الهجوم من شأنه أن يضعف "حزب الله" ـ الشريك الأصغر لإيران ـ ويعمل على تركيع هؤلاء اللاعبين، الذين يقاومون بعناد الهيمنة الإقليمية لإسرائيل.
لقد هدّدت إسرائيل ومبعوثوها غير الرسميين، ومن بينهم بيني موريس، بأنه في حالة غياب مصلحة للولايات المتحدة في مثل هذا العمل؛ فإنه "سيتمّ استخدام الأسلحة غير التقليدية"، وهو ما من شأنه أن يؤدِّي إلى مقتل العديد من الأبرياء من الإيرانيين. ولكن ممّا كدّر إسرائيل أنه لم ينتج شيء عن هذا التهديد؛ فقد رفضت الولايات المتحدة إعطاء الضوء الأخضر لأيِّ عمل عسكري. وبينما تواصل إيران طريقها دون رادع؛ وقفت إسرائيل بغباء وأُجبِرَت على مشاهدة كيفية تنامي الشكوك بشأن قدرتها على الإرهاب. ولذا وجب أن يكون هناك هدف للهجوم. وقد وقع الاختيار على غزة، لكونها معروفة جيداً لدرجة أنه لا يمكنها أن تفعل الكثير حيال هجوم عسكري. هناك في غزة قاومت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الإملاءات الإسرائيلية بعناد، رغم أسلحتها الفقيرة. وافتخرت "حماس" بأنها أجبرت إسرائيل في عام 2005 على "الانسحاب" من قطاع غزة، ومن ثمّ الاتفاق على وقف إطلاق النار في حزيران/ يونيو 2008. ومن ثمّ اتضحت الإجابة على السؤال: أين تريد إسرائيل استعادة قدرتها على الردع. والسؤال كيف تنوي إسرائيل إدارة هذه المهمّة، كان مسرح الحرب في لبنان عام 2006 مكاناً محتملا.
استراتيجية الضاحية
أثناء حرب لبنان عام 2006، سوّت إسرائيل بالأرض الضاحية الجنوبية المتاخمة لبيروت، حيث يعيش العديد من مؤيدي "حزب الله" الشيعي من الفقراء. وبعد الحرب بدأ الجنود الإسرائيليون الحديث عن "استراتيجية الضاحية"؛ فقد قال قائد العمليات في المنطقة الشمالية التابع للجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت: "سنواجه بعنف شديد أيّة قرية تُطلَق منها الصواريخ على إسرائيل، وسنوقع ضرراً ودماراً كبيرين". "وهذا ليس مجرد اقتراح، بل خطة تمّت الموافقة عليها سابقاً". فكما يقول العقيد احتياط غابرييل سيبوني، من معهد بحوث الأمن القومي الإسرائيلي، إنه يتعيّن على إسرائيل في حالة العداء أن تردّ فوراً وبطريقة حاسمة باستخدام القوة المفرطة. (...) ومثل ردّة الفعل هذه تهدف إلى التسبّب في أكبر قدر من الضرر، وفرض مثل هذه العقوبة القاسية، حتى تصير عملية إعادة الإعمار طويلة ومكلفة". وهدّد الرئيس السابق مجلس الأمن القومي الإسرائيلي غيورا آيلاند بأنّ الحرب القادمة (...) سوف تؤدِّي إلى القضاء على الجيش اللبناني، وإلى تدمير البنية التحتية الوطنية ومعاناة شديدة بين صفوف السكان".
"فالضرر البالغ للجمهورية اللبنانية، وتدمير المنازل والبنية التحتية ومعاناة مئات الآلاف من الناس - هي العواقب التي يمكن أن تؤثر على سلوك حزب الله أكثر من أي شيء آخر".
ومن الجدير بالذكر أنّ استخدام القوّة غير المتناسبة والهجمات على البنية التحتية المدنية تمثل وفقا للقانون الدولي جرائم حرب. وفي الواقع ينبغي للاستراتيجية الجديدة أن تكون موجّهة ضدّ كلّ المعارضين لإسرائيل في المنطقة، ولكن كثيراً ما أشير إلى أنّ غزة كانت مناسبة لمثل هذا النهج على نحو ممتاز.
ويقول محلِّل إسرائيلي بارز: "من المؤسف للغاية أنه لم يتمّ تطبيق هذه الاستيراتيجية على الفور عقب الانسحاب من غزة (عام 2005) وبعد أوّل هجوم صاروخي".. "فلو كنّا لجأنا آنذاك على الفور إلى استراتيجية الضاحية، لوفّرنا على أنفسنا كثيراً من المتاعب". وكان وزير الداخلية الإسرائيلي مائير شطريت قد اقترح في نهاية أيلول/ سبتمبر 2008 أنه في حال أن هاجم الفلسطينيون إسرائيل بصواريخ مرّة أخرى، فيجب على الجيش الإسرائيلي "اختيار أي منطقة سكنية في غزة وتتمّ تسويتها بالأرض".
ويتضح من الأفعال الرسمية قبل بدء الغزو، كيفية بلورة خطة إسرائيل للهجوم على غزة: "ما نحتاج إليه هو نهج منتظم بهدف معاقبة جميع المنظمات التي تطلق الصواريخ وقذائف الهاون، وكذلك الحال مع المدنيين الذين يتيحون لتلك المنظمات أن تطلق وتختفي" ـ العميد احتياط عاميرام لافين. "بعد هذه العملية في غزة لن يكون هناك مبنى تابع لحماس قائم على حاله" ـ نائب رئيس أركان الجيش الاسرائيلي، دان هريئيل. "كل ما له علاقة بحماس، هو هدف مشروع" ـ المتحدثة باسم الجيش الإسرائيلي العقيد أفيتال ليبوفيتش.
فينبغي إذن أن يكون "من الممكن" تدمير غزة حتى يتسنّى لهم أن يفهموا أنه من الأفضل لهم عدم مواجهتنا. (...) إنها فرصة كبيرة لتدمير منازل كلّ هؤلاء الإرهابيين، حتى يفكِّروا مرّتين قبل أن يقرِّروا إطلاق الصواريخ. (...) وآمل أن تُكلّل العملية بنجاح كبير، وأن تتمّ إبادة الإرهاب وحماس تماماً. أعتقد أنه ينبغي أن تتمّ تسويتهم بالأرض، أي يتمّ تدمير الآلاف من المنازل والأنفاق والمصانع" ـ نائب رئيس الوزراء إيلي يشاي.
وقال المراسل العسكري للقناة الإخبارية الإسرائيلية القناة العاشرة: "لقد تأكد أنّ إسرائيل لا تشكِّك في حقيقة أنّ ردّ فعلها غير متناسب".
وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية قد تباهت بحقيقة أنّ الضربات الجوية الأولى التي شنتها إسرائيل على الناس في قطاع غزة – كما وصفت صحيفة "معاريف" – "قد أوقعتهم في خوف ورعب". وقد شهد أوّل يومين فقط لحرب لبنان عام 2006 مقتل 55 من اللبنانيين، أمّا في اليوم الأول من الغزو الذي نفذته إسرائيل ضد قطاع غزة فقد قُتل ثلاثمائة شخص في أربع دقائق فقط. أمّا معظم الأهداف فقد كانت تقع في "منطقة سكنية ذات كثافة سكانية عالية"، وقد بدأ القصف "في نحو الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، في وقت يكون مفعماً بالحياة والطرق مليئة بالمدنيين، ومن بينهم أطفال المدارس الذين يرغبون بالعودة إلى ديارهم في نهاية اليوم الدراسي الصباحي، وكذلك الذين كانوا في طريقهم إلى المدارس للانخراط في الفترة المسائية من التدريس".
وبعد بضعة أيّام من بدء المذبحة؛ كتب محلِّل استراتيجي إسرائيلي مطّلع: "إنّ الجيش الإسرائيلي كان يخطِّط لشنّ هجمات على مواقع يقيم فيها مئات من الناس، ولم يقم الجيش بمطالبة هؤلاء الناس بمغادرة هذه المنازل والمناطق. وفي النهاية توجّهت النية لقتل كثيرين منهم، وقد تمكّنوا بالفعل من ذلك". وأثنى بيني موريس على الضربة الجوية الإسرائيلية الأكثر فعالية ضد حماس (...)".
وعندما أخذت عملية "الرصاص المصبوب" مسارها، توقف بعض المشاهير الإسرائيليين عن التظاهر كما لو أنّ الأمر يدور حول وضع نهاية لقصف "حماس" للصواريخ. وقال وزير إسرائيلي سابق أمام المنظمة البحثية المرموقة "مجموعة الأزمات الدولية"، إنّ "العدوّ الحقيقي بالنسبة لوزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك ليس حماس، ولكن "ذكرى عام 2006". ومن جانبه بذل الفيلسوف الإسرائيلي آسا كاشر قصارى جهده للدفاع عن غزو غزة، ولكنه قال: "إنّ أيّة حكومة ديمقراطية (...) لا يمكن ببساطة استخدام الناس للمزايدة على قدرتها الرادعة. فالناس ليسوا سلعاً استهلاكية".
كما انغمس معلِّقون آخرون في إطلاق تصريحات خبيثة: ".. بعد لبنان يمكن أن نعتبر غزة وكأنها تكرار لواجب مدرسي - فرصة ثانية لتتمّ تأديته بصورة صحيحة".
فإذا ما كانت إسرائيل قد سعدت بتمكّنها من إلقاء لبنان في عام 2006 عشرين سنة إلى الوراء؛ فإنها تسعد الآن بأنها تمكنت من إيصال قطاع غزة إلى "الأربعينيات من القرن الماضي" - "الكهرباء موجودة لبضع ساعات فقط يومياً". "لقد استعادت إسرائيل قدرتها على الردع"، لأنّ "الحرب في غزة نافست حرب لبنان الثانية (2006)"، و"من المؤكد أنّ زعيم حزب الله حسن نصر الله حزين للغاية هذه الأيام (...) فلن يكون هناك في العالم العربي أحد يمكنه الادعاء بأن إسرائيل ضعيفة (...)".
العودة إلى الهمجية
يمكن وصف طريقة التشغيل التي اتبعتها إسرائيل لاستعادة قدرة الردع، بأنها انتكاس تدريجي إلى الهمجية. فالانتصار الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1967 لم يكن قد تمّ بشقّ الأنفس ـ تحدث روستوف عن "تبادل لإطلاق النار" ـ، ولكن بعد كلِّ شيء؛ فإنّ الأمر يدور في المقام الأول حول الانتصار في ساحة المعركة. أمّا في الأعمال العدائية اللاحقة – وبخاصة في لبنان – فلا تريد إسرائيل تحقيق انتصار في ساحة المعركة وحسب؛ بل تبطش من خلال قصف السكان المدنيين. ويثبت القرار بأن تكون غزة تحديداً مسرحاً لاستعادة قدرة الردع الإسرائيلية، أنّ إسرائيل تتجنّب الدخول في مخاطر حرب تقليدية: فقد تمّ اختيار غزة كهدف لأنه قطاع أعزل إلى حدّ كبير.
ويتضح من الهزيمة النسبية التي لحقت بإسرائيل كقوّة عسكرية، أنها تتخذ هذه المرة الإرهاب منطلقا لها، ويثبت أيضاً أنّ أشخاصاً مثل بيني موريس أثناء غزو غزة وبعده قد جلبوا البهجة من قوة إسرائيل العسكرية. إنّ هناك حالة فقدان للواقع سواء من قبل المثقفين ضمن التيار الرئيس السائد في إسرائيل، وكذلك لدى جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي.
ولاستراتيجية الردع الإسرائيلية أمر آخر: فقد أسهمت في رفع الحالة المعنوية للشعب. وقد ورد في وثيقة صادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ شباط/ فبراير 2009 أنّ "الشيء الوحيد الذي نجح فيه غزو غزة" هو تهدئة الإسرائيليين، الذين تساءلوا عمّا إذا كانت بلادهم "قادرة فعلياً هي وجيشها" على "توجيه ضربة لأعداء إسرائيل": "ويثبت استخدام القوة المفرطة في العملية (...) أنّ إسرائيل هي سيدة المنطقة. (...) وكان القصد من صور الدمار أنها مخصّصة كي تشاهدها العيون الإسرائيلية وعيون الأعداء على حدٍّ سواء: فقد كان الهدف منها تلبية التعطّش للانتقام من قبل الإسرائيليين وتلبية رغبتهم في تحقيق الكرامة الوطنية".
(*) مقتطفات من كتاب: التسوية بالأرض .. غزو إسرائيل لقطاع غزة
المصدر: صحيفة "يونغه فيلت" الألمانية/ نقلا عن مركزالزيتونة