ارشيف من :آراء وتحليلات
السودان بعد انفصال الجنوب : تجدد الحرب !
عقيل الشيخ حسين
انفصل جنوب السودان عملياً عن شماله في كانون الثاني/ يناير بموجب استفتاء صوتت فيه الأكثرية الساحقة من الجنوبيين لمصلحة الانفصال. صحيح أن اختلاف الانتماءات الدينية والعرقية بين الشمال والجنوب يمكنه أن يكون مبرراً لرغبة الجنوبيين في الاستقلال عن الشمال. وخصوصاً في أجواء هذه الحقبة التي تمر بها المنطقة ويتصور فيها بعض المنتمين إلى هذه الطائفة أو تلك، أو هذه الاتنية أو تلك، أو هذا القطر المجاور أو ذاك، أن إعلان الحرب على الطوائف والجماعات الأخرى في البلد الواحد، أو على البلد المجاور، هو الترياق الشافي من أوضاع مضطربة تراكمت فيها مشكلات بالغة التعقيد خلال قرون طويلة من الخضوع لاستبداد الحكام ثم لهيمنة الاستعمار، وما أعقب ذلك من استقلالات غرق أكثرها في وحول التجارب المشبوهة أو الفاشلة، في ظل الانكشاف العربي الذي طال أمده أمام عربدة الكيان الصهيوني، قبل أن يبدأ تصحيح مساره بصمود أنظمة الممانعة وانتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين.
لكن الاختلاف المذكور لا يكفي لتفسير تلك الرغبة. فهنالك في الماضي والحاضر مجتمعات، في طليعتها المجتمعات العربية والإسلامية، شكلت مثالاً للتعايش والتبادل البنّاء بين الطوائف والاتنيات، بقدر ما كانت وما تزال تغلب الإنساني العام على الانتماء الخاص لطائفة أو إتنية أو جماعة.
وهنالك مجتمعات متجانسة بشكل كامل لجهة الانتماء إلى دين أو قومية أو إتنية واحدة، لكنها دخلت في نفق الحروب الأهلية المدمرة.
المهم، في الحالة السودانية التي تعمل أصابع قوى الهيمنة الدولية والإقليمية على مفاقمتها وتعميمها لتشتمل خصوصا على مصر المجاورة، نظراً للتشابه الجزئي بين الحالتين، فالمشكلة ليست مشكلة أناس غير قادرين على التعايش بقدر ما هي فتنة بالمعنى الدقيق للكلمة.
فتنة أججتها بريطانيا خلال الحقبة الاستعمارية، ثم انضمت إليها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني عبر جهود أفضت إلى نشوب الحرب الأهلية التي استمرت بين الشمال والجنوب لأكثر من عشرين عاماً، بين العام 1983 والعام 2005، وأسفرت عن سقوط مليونين من القتلى، من دون حساب المآسي الأخرى التي تمخضت عنها تلك الحرب.
وبعد توصّل الفريقين إلى اتفاق للسلام في وقت كان فيه السودان يتبع مساراً من غير النوع الذي ترضاه أميركا وحلفاؤها، ويتعرض لاعتداءات عسكرية وعقوبات اقتصادية وإجراءات عزل سياسية، كانت كل أدوات الفتنة تفعل فعلها في جنوب السودان من أجل جعل الاستفتاء معبراً إلى الانفصال.
فمن المنظمات غير الحكومية والجمعيات الإنسانية وأرتال الصحافيين والنشطاء الحقوقيين وعملاء وكالات الاستخبارات وشهود العيان المجهولين وأضرابهم، كان هنالك عمل حثيث ومنهجي ومكثف من أجل إقناع الجنوبيين بأن التاريخ يبدأ عندهم بعد الانفصال ويدخلهم دفعة واحدة في الرغد والبحبوحة والازدهار تحت ظلال الحرية والديموقراطية والدعم الغربي والإسرائيلي.
وبالطبع، كان سلاح النفط الذي تختزنه بعض مناطق الجنوب أو القريبة من الجنوب في آبيي وجنوب كردفان في طليعة العناصر التي تم التركيز عليها في إقناع الجنوبيين بفوائد المشروع الانفصالي.
كما كانت "إسرائيل" التي لم يخف الناطقون باسم الجنوبيين عزم دولتهم المستقبلية على الاعتراف بها وإقامة أفضل العلاقات معها في طليعة العناصر المعول عليها في حماية تلك الدولة والحفاظ على أمنها واستقرارها.
وفي ما يتجاوز شمال السودان، كانت مصر مستهدفة أيضاً وفق التصريحات التي عبرت عن عزم دولة الانفصال الجنوبية على الارتصاف في صف بلدان منابع النيل في خلافها مع بلدان المصب حول تقاسم المياه.
ومنذ لحظة الاستفتاء التي لم يدخل معها السودان في حالة حداد، على ما قاله الرئيس عمر البشير، كان من الواضح أن الحداد هو ما سيكون سيد الساحة. إذ لم يكد يمر يوم من دون حدث أو بادرة أو احتكاك ينذر بأن المشروع الانفصالي سيكون مرتفع التكلفة بالنسبة للسودانيين، الجنوبيين قبل الشماليين.
فإذا كان الشمال يعاني من انقسامات حزبية وحركات اعتراضية سلمية، فإن الخلافات السياسية والحزبية والقبلية في الجنوب تأخذ طابعاً عنيفاً ومسلحاً كانت له، منذ الاستفتاء حتى الآن، تجليات صارخة بمئات القتلى.
ومنذ لحظة الاستفتاء، لم يكد يمر يوم من دون احتكاكات على مستوى الوحدات المشتركة المكلفة، إلى جانب قوات الأمم المتحدة، بحفظ الأمن ومراقبة تنفيذ اتفاقيات السلام. وقد وقع آخر تلك الاحتكاكات في آبيي، المنطقة المتنازع عليها بين الطرفين والتي يقال بأنها غنية بمخزون نفطي كبير.
ولم يكن استفتاء كانون الثاني/ يناير على الانفصال قد شمل مدينة آبيي بسبب خلاف على تعداد السكان، فتم تأجيله لحسمه في موعد لا يتجاوز التاسع من تموز/ يوليو المقبل.
لكن يبدو أن الخوف من أن تأتي نتيجة الاستفتاء شبيهة بتلك التي أسفرت عنها قبل أيام انتخابات جنوب كردفان لغير مصلحة الحركة الشعبية، وهي الانتخابات التي جرت بطريقة سلمية وذات مصداقية، على ما اعترف به مركز كارتر، هو ما دفع بقوات الحركة إلى محاولة الاستيلاء على آبيي بالقوة في حرب استباقية تمت، على ما يؤكده المسؤولون السودانيون، بتحريض غربي.
وفي هذا السياق وقعت القوات السودانية المشاركة في الوحدات المشتركة أثناء انسحابها من آبيي، بعد فك الارتباط بين قوات الطرفين، وقعت في مكمن نصبه مسلحون، وصفتهم بعثة الأمم المتحدة العاملة في السودان بأنهم "مجهولون"، فيما أكد المسؤولون السودانيون بأن الحركة الشعبية هي التي نفذت ذلك الهجوم الذي أسفر عن مقتل عشرات الجنود الشماليين.
وردت القوات المسلحة السودانية باحتلال آبيي الذي جاء كفاتحة تنذر بتصاعد الصدامات بين الشمال والجنوب، في وقت يأمل فيه الانفصاليون بالحصول على دعم أميركي لم يلبث أن تجسد في بيان صدر عن البيت الأبيض وطلب سحب القوات السودانية من آبيي.
والسؤال هو حول مدى استعداد الولايات المتحدة وقدرتها على التصعيد فيما لو لم يستجب السودان لذلك الطلب.