ارشيف من :آراء وتحليلات

الديمقراطية التوافقية... طريق شائك لا بدّ من السير فيه!

الديمقراطية التوافقية... طريق شائك لا بدّ من السير فيه!
بغداد ـ عادل الجبوري

في مرحلة تحوّل مثل تلك التي يمر بها العراق منذ عام 2003، تلعب عملية التوافقات السياسية بين التيارات والقوى المختلفة على الساحة السياسية دوراً كبيراً وربما محورياً في إشاعة الأمن والهدوء والاستقرار، ومعالجة المشاكل والازمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية التي هي إما افرازات ومخلّفات طبيعية لمرحلة الاستبداد والديكتاتورية، او نتاج غياب السلطة ووجود الفراغ الاداري والسياسي، او باعتبارها استحقاقا طبيعيا لمخاضات تشكّل وتبلور الدولة الديمقراطية والنظام السياسي القائم على التداول السلمي للسلطة.

وقد تكون أهمية التوافقات السياسية اكبر في البلدان التي يتميز نسيجها الاجتماعي بالتنوع القومي والمذهبي والطائفي والسياسي كالعراق ومثله لبنان. وقد يتصور البعض ان التوافقات السياسية على الساحة العراقية غير ممكنة، ويسوق هذا البعض عدة عوامل، منها ان عدد التيارات والاحزاب والحركات والشخصيات السياسية العراقية كبير جدا، بحيث يصعب تصور اتفاق وتوافق كل تلك التيارات على رؤية او رؤى مشتركة لعدد كبير من القضايا المتشعبة التي تبدأ من الحريات وصياغة مناهج التربية والتعليم، ودور المؤسسات الدينية في توجيه المجتمع، وحرية المرأة ومشاركتها في العمل السياسي، وموقع ومكانة وسائل الاعلام، لتنتهي عند مسائل مهمة في الدستور ما زالت موضع نقاش وسجال، ناهيك عن التنافس والصراع على المواقع انطلاقاً من السعي الى تحقيق اكبر قدر من المكاسب والامتيازات والنفوذ.

ومن تلك العوامل والاسباب التي قد يسوقها البعض، هو ان الطريقة التي تمت بها اطاحة نظام صدام من قبل الولايات المتحدة الامريكية وعدد من حلفائها، وافتراض عدم اضطلاع اي من القوى السياسية العراقية ـ وهي في مرحلة المعارضة بأي دور في هذه العملية ـ سيجعلها تبدو ضعيفة ولا تملك شيئا من زمام المبادرة، ما يدفع كل واحدة منها مرغمة الى البحث عن تحالفات خارجية سواء مع القوة الاساسية القائمة على الارض او مع قوى اخرى ليس لها وجود ظاهري وعلني، وذلك حتى تضمن مواقعَ لها على المسرح وتتجنب إبعادها عن المشهد السياسي العام.

ومع ان مثل تلك العوامل والاسباب تحمل بين طياتها وجها من الصحة، الا ان المتابع بدقة لمجريات الامور، يدرك لأول وهلة ان النظرة الى الواقع من زواياه المختلفة يمكن ان تقود الى استنتاجات وتصورات مغايرة. ولعل العملية السياسية بمختلف منعطفاتها ومحطاتها تعد شاهدا ودليلا دامغا على خطأ وعدم صحة تلك الفرضيات الى حد ما.

وفي كتابه الموسوم (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد) يعرّف المفكر ارنت ليبهارت المجتمع التعددي بأنه " المجتمع المجزأ بفعل الانقسامات الدينية أو الأيديولوجية أو اللغوية أو الجهوية أو الثقافية أو العرقية؛ كما أنه المجتمع الذي تنتظم بداخله الأحزاب السياسية، ومجموعات المصالح، ووسائل الإعلام والمدارس، والجمعيات التطوعية، على أساس الانقسامات المميزة له".

ويمكن من خلال هذا التعريف وتعاريف اخرى القول بأنه ليس بالضرورة ان يعكس التنوع والتعدد دائما وجود ازمات او مقدمات لأزمات من نوع ما، بل ربما كان العكس هو الصحيح، ففي الحالة العراقية يمكن ان يساهم العدد الكبير من التيارات والاحزاب والحركات والشخصيات السياسية في الحؤول دون ظهور اية سلطة ديكتاتورية مهما كانت ايديولوجيتها وأياً كان منهجها وطبيعة ارتباطاتها وتحالفاتها مع قوى الخارج، وبالتالي فان ذلك يحول دون اضطهاد اية فئة من فئات المجتمع، وتلقائيا فإن ذلك سيكون مقدمة لصياغة وبلورة مجتمع مدني قوامه دولة المؤسسات لا دولة الاشخاص والاحزاب، ومعياره ليس الشعارات ـ بصرف النظر عن طابعها ـ وإنما المصداقية والاخلاص والحرص الحقيقي على ترجمة الشعارات والاهداف الى واقع عملي يستشعره كل فرد من افراد المجتمع، وهو ينشط في اطار العمل السياسي، وهو يمارس وظيفته، وهو يعبّر عن رأيه وفق الصيغ والاساليب المألوفة والمقبولة. واذا كان المراقب يلاحظ ان هناك قدرا غير قليل من الاختلافات والتقاطعات بين القوى والكيانات السياسية في الساحة العراقية، بل واكثر من ذلك اختلافات وتقاطعات في داخل تلك الكيانات والقوى، فإن ذلك في ظل تجربة سياسية ديمقراطية مثل التجربة العراقية قامت على انقاض ارث كبير وطويل من الاستبداد والقهر السياسي، امر طبيعي جدا، ويمكن النظر اليه على انه حراك سياسي لا بد منه اذا اريد للتجربة الديمقراطية ان تصل الى مرحلة جيدة من النضج والتكامل.

وفي مفاصل زمنية مختلفة برز حيز واسع من البحث والنقاش حول مفهوم الديمقراطية التوافقية، والتوافقات السياسية، وفرص نجاحها في العراق. والديمقراطية التوافقية بحسب كثير من الاطروحات "تفضي الى تقسيم المجتمع التعددي الى عناصر أكثر تجانساً واستقلالية، وهي لسيت نظاما مثاليا، ولكن في المجتمع التعددي يعتبر التعايش الديمقراطي السلمي أفضل بكثير من السلام غير الديمقراطي، ومن ديمقراطية غير مستقرة يمزقها التصارع بين المكونات المختلفة".

فالطيف السياسي الواسع يمكن ان يؤدي الي خلق معادلات متوازنة، تساهم بدورها في الحؤول دون وقوع البلد ـ العراق او غيره ـ فريسة للاختلافات والتقاطعات والتناقضات بين القوى الخارجية، الاقليمية والدولية، هذا ما تؤكده معظم الاطراف السياسية ان لم يكن جميعها. في الوقت ذاته فإن القوى الموجودة على الارض لا بد ان تجد نفسها ملزمة بمستوى ما بالتعامل والتعاطي مع ما هو قائم من معطيات وحقائق بواقعية وعقلانية.

وبقدر ما تتحقق توافقات سياسية بدرجة معقولة ومقبولة تنحسر وتتلاشى الكثير من المشاكل والازمات. وقد كان واضحا ان مشاريع ومبادرات المصالحة والحوار الوطني وخطط فرض القانون، واعطاء العشائر دورا اكبر وتفعيل دور اللجان الشعبية في بعض المناطق، ساهمت الى حد كبير في تطويق الكثير من البؤر الارهابية في العاصمة بغداد وغيرها من محافظات العراق، وفككت قدراً لابأس به من العُقد والأزمات. والى جانب ذلك فإن تجربة الاعوام الثمانية الماضية اثبتت ان التوافقات السياسية من شأنها ان تفضي الى حصول مرونة في بلورة الخطوات والمقدمات المطلوبة لإقامة مجتمع متجانس ومنسجم، تختفي وتذوب فيه الاحتقانات والتشنجات، ما يمهد بالتالي الى احتواء نزعات العنف والتطرف، ويمنع اندلاع حروب وصراعات اهلية بين الفئات والطوائف والقوميات والجماعات السياسية المختلفة التي قد يجد البعض منها نفسه مهمشا ومهضوم الحقوق في ظل غياب التوافقات السياسية. ولا شك في ان هذا كله وما يرتبط به بشكل او بآخر ممكن الى حد بعيد اذا صدقت النيات وحسنت السرائر، وتم تقديم العام من المصالح على الخاص منها. وتطبيقات الديمقراطيات التوافقية في مجتمعات متعددة القوميات والاثنيات والعرقيات والاتجاهات السياسية في اوروبا وغير اوروبا، جديرة بالتأمل والدراسة في اطار السعي المتواصل لترسيخ اسس وركائز النظام السياسي الديمقراطي في العراق، من خلال تصحيح وتعديل المسارات من داخل الاطر الدستورية وليس من خارجها، مع اهمية التذكير والاشارة الى ان طريق التوافقات طويل وشائك وفيه الكثير من المطبات، لكنه افضل بكثير من طريق يفضي الى متاهات وأنفاق مظلمة مثل طريق الصدامات والصراعات، ويبدو أن اجزاءً من العالم العربي مقبلة ـ بفعل الثورات والانتفاضات الجماهيرية ـ على السير في طريق التوافقات من اجل ان تصحح مساراتها الخاطئة طيلة عقود سابقة من الزمن.
2011-05-26