ارشيف من :مقاومة

حكاية الرصاصات الأولى للمقاومة الإسلامية في خلدة..

حكاية الرصاصات الأولى للمقاومة الإسلامية في خلدة..
25 أيار: هنا الهزيمة لـ"الجيش الذي لا يُهزم"
كتب أمير قانصوه

كانت أمواج البحر تقتحم عرين الشاطئ وترتد مذعورة، ووراءها يتردد صدى موحش في ظلمة الليل الحالكة..
أسراب غريبة تشق السماء مطلقة زعيقاً يهتز لهديره البنيان ولا يسقط..
كثيرون وضعوا أصابعهم في آذانهم وأشاحوا بوجوههم عن مدى البحر.. واستعدوا للرحيل
في ذلك المساء الممهور بتوقيع أحمر.. تماهى الرجال مع أرضهم وصاغوا من إيمانهم وسلاحهم القليل قوة أسطورية..
لم يكن العدو القادم من الأبواب المشرعة يدرك أن في هذه الأرض أسطورة غيره..
لكنه هناك بدءاً من خلدة ومع "الطلقات الأولى"، أدرك حدود قوته..


حكاية الرصاصات الأولى للمقاومة الإسلامية في خلدة..منذ ذلك التاريخ بدأت حكاية المقاومة الاسلامية، "هذه الحرب التي بدأناها منذ الطلقات الأولى في خلدة سنة 1982 (...) كنا بوعي كامل من نقاتل وفي أي ذات شوكة نمضي ونسير".. من كلمة للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله 17 آب/أغسطس 1999.

بدأت حرباً بلون آخر جعلت العدو يوقن بأن قوته أسطورة مزعومة سقطت بالضربة القاضية في الرابع والعشرين من أيار/ مايو 2000.

لم يكن هناك من حاجة لأن يدخل الخوف الى القلوب الوجلة، فهو كان يقتحم كل شيء مع الآلة العسكرية الصهيونية التي تتقدم براً وبحراً وجواً غير عابئة بشيء، تقتل تدمر وتحاصر، راسمة بالدم المسفوك طريقها نحو العاصمة بيروت.. لا أحد يعرف كيف ومتى وماذا يريد هذا العدو الذي يتقدمه جنرال مفطور على القتل، آرييل شارون، الذي أينما احتل كان يسبقه شغفه الى القتل.

ثلاثة أيام فقط ـ من السادس حتى التاسع من حزيران/يونيو 1982 ـ هي التي احتاجها العدو ليطرق أبواب العاصمة بيروت راسماً حولها زناراً من النار، وطائراته تدك أحياءها وأحياء الضاحية، محوّلة أبنية بأكملها الى ركام مخلفة الموت والدمار.

ووسط كل هذا ثمة شباب التقوا على الايمان بربهم، يتجمعون في مساجد الضاحية الجنوبية، يتدارسون ما آلت اليه الأمور، وكيف السبيل الى مقاومة هذا الغزو والدفاع عن أحياء الفقراء..

انطلق كل الى سبيله، وبعد ساعات قليلة كان يعود حاملاً السلاح مستعداً للمواجهة المرتقبة.

اصطلاح "الشباب المؤمنين" كان متداولاً وقتها، ويدل على الشباب الذين انتهجوا خط الامام الخميني والتقوا على دعوته التي أطلقها وقتها: "قاتلوا (اسرائيل) بأسنانكم وأظافركم، ولا تدعوها تحتل أرضكم".

نزلت قوات الاحتلال في منطقة خلدة يوم التاسع من حزيران / يونيو عام اثنين وثمانين بعد عدة محاولات فاشلة استمرت على مدى ساعات، كانت تواجه بمقاومة عنيفة.. استخدم الصهاينة جبروت آلتهم الحربية من الجو والبحر، وبعد صب كميات هائلة من الحمم  استطاعوا ظهيرة ذلك اليوم إسكات كل مقاومة، وأخذوا يتحركون باطمئنان معتمدين على ما ظنوا أنهم حققوه من سيطرة ميدانية.. ولكن في لحظة نزول القوات الإسرائيلية في تلك المنطقة وصل الخبر الى منطقة الأوزاعي.

كان هناك عشرات من الشباب المسلحين يقفون قرب مسجد الأوزاعي القديم، وقف مجاهد ومعه مجموعة من الشباب المؤمن وسط الشباب المتجمعين وقال لهم: إن الإسرائيليين وصلوا الى خلدة، وإذا لم نوقفهم هناك ونمنع تقدمهم فسيدخلون الى بيروت.. وسألهم: من يرغب في القتال ضد هؤلاء الأعداء؟..

وقف أمامهم جميعاً وصرخ بهم: الآن باب الجنة مفتوح، ومن يرد الإمام الحسين حقيقة فإن الإمام الحسين موجود في خلدة، ومن يرد أن يصل الى الجنة فليذهب معنا الى هذه المواجهة.

كان التجاوب أقل من المتوقع، فذهبت مجموعة من الإخوة عددها اثنا عشر شاباً.. بقيت مجموعة من أربعة شباب قرب الجسر، وذهبت مجموعة من ثمانية آخرين الى الأمام.

أكمل المجاهدون سيرهم الى أن وصلوا الى منطقة على طريق الجنوب القديم، هناك بدت لهم الآليات الصهيونية بشكل واضح. كانت هذه الآليات تتقدم من دون أن يواجهها أحد، وكان هناك دبابة واحدة مصابة نتيجة المحاولات السابقة لصد الإنزال الصهيوني قبل انسحاب المقاتلين.

تموضع المجاهدون في "الزواريب" المتفرعة من طريق الجنوب القديم  بين مسبح بيتش كلوب ومطعم جزيرة مرّوش الذي تتحرك عليه الدبابات والملاّلات المعادية، التي اتخذت لها مواقع على طول الطريق.

مباشرة بعد أن أخذ المجاهدون مواقعهم بدأوا بإطلاق القذائف المضادة للدروع "بـ7" والرصاص، وبدأ العدو بالقصف على المواقع التي يقف فيها المجاهدون.

عندما وقفت هذه المجموعة وتصدّت للقوة الصهيونية بحزم، بدأت المواقع البعيدة والقريبة التي كانت قد أسكتتها الغارات الإسرائيلية بالتحرك، وصار عناصرها يطلقون النار على موقع المواجهة. عندما بدأت المعركة بدأت النيران تخرج من المواقع التي سكنت سابقاً.

لم تنتهِ هذه المعركة التي خاضها المجاهدون بعددهم القليل، إلا بعد تدمير كل الدبابات الصهيونية وعددها ثلاث، إضافة إلى ملالة، فيما بقيت إحدى الملالات.

ما تبقى من القوة الصهيونية التي كانت تنوي استكمال الإنزال انسحبت الى عرض البحر من جديد بعد المواجهة، وذلك من خلال جسر بحري، أما القوة التي كانت قد نزلت الى الأرض فقد أبيدت تماماً ولم يبقَ منها أحد.

حكاية الرصاصات الأولى للمقاومة الإسلامية في خلدة..هذه المعركة التي حصلت بهذه الكيفية والقوة وبالشجاعة التي ووجهت بها القوات الإسرائيلية، أعادت للمقاتلين الآخرين الذين كانوا قد انسحبوا من المنطقة الحماسة كي يعودوا للمشاركة في المعركة ولمعرفة ما حصل.

كانت الملالة التي بقيت قد أصيبت في بداية المعركة بقذيفة Energa ما أدى الى إحداث أضرار فيها، نظراً لكون الآليات العسكرية في ذلك الحين قابلة للإعطاب بهذه القذائف، وللتدمير والإحراق بقذائف الـ(بـ7)، وحتى الميركافا كان يمكن في تلك الأيام تدميرها بالقذائف المضادة للدبابات، وليس كما هي الحال اليوم.

كان أحد الإخوة مصاباً حينها ـ يتهيأ لإطلاق الـ(بـ7) على الملالة، فطلب منه مجاهد آخر التوقف، لأن الملالة تتحرك ولا تطلق منها النيران، ما يعني أن هناك مشكلة فيها.

بعد اقتراب الملالة من المجاهدين طوّقوها وأخذوا بإطلاق الرصاص عليها، فنزل منها جنود العدو مرعوبين وهم يصرخون، ودارت معركة بالأسلحة الرشاشة وجهاًً لوجه، بينما كانت الدبابات في الخلف تحترق، فقُتل من قتل بداخلها ونزل الآخرون للمشاركة بالمعركة المباشرة، فيما صرخات الخوف تتعالى منهم.

المعركة بالأسلحة الرشاشة دامت حوالى نصف ساعة، أُجهز خلالها على جنود العدو.

كان هناك عدد كبير من الجثث للجنود قُتلوا بالرصاص، إضافة الى جثتين لجنديين بقيا في الملالة.

سيطر المجاهدون على الملالة، ومن ثم جمعوا الجثث ووضعوها قربها.

هدأت الأمور وتدفق المقاتلون من أكثر من جهة، ووصلوا الى الساحة حيث دارت المعركة.

أخذت بعض الفصائل عدداً من الجثث، فيما أبقى المجاهدون بعض الجثث معهم..

أراد صحافيون موجودون في مكان العملية معرفة من هم هؤلاء المجاهدون الذين خاضوا هذه المعركة، فسأل أحدهم: من أين أنتم؟ فقال له: نحن من منطقة الأوزاعي. ورداً على سؤال أجابه: نحن أتباع الإمام الخميني، الخمينيون.. واستغرب الصحافي هذا الإسم الذي كان يُذكر لأول مرة .

بدأ التحضير لسحب الملاّلة التي بقيت سالمة نتيجة عدم إطلاق قذائف الـ(بـ7) عليها، فانطلق أحد المجاهدين قبل تحرّك الموكب الذي ضم الملالة الى منطقة الأوزاعي لتهيئة الأجواء لاستقبالها.

عندما وصل الى الأوزاعي وجد الناس مجتمعين عند مفرق البرج، وكان معه خوذة أحد الجنود الصهاينة وسلاح "ماغ" تابع لجندي آخر، وقطعة سلاح ثالثة.

حكاية الرصاصات الأولى للمقاومة الإسلامية في خلدة..اقتحم الازدحام ووقف أمام الناس، صعد على سطح السيارة وقال للجموع: "هؤلاء الإسرائيليون الذين نخافهم ولا نريد قتالهم لأنهم أقوياء، خذوا خوذاتهم وأسلحتهم ـ ورمى بها الى الأرض ـ ها هي آلياتهم تحترق في خلدة، وبعد قليل ستشاهدون الغنائم بأعينكم، وهي ستمر من أمامكم من هنا، فابقوا في الساحة لتروا ماذا حصل للإسرائيليين.. وعاد أدراجه الى موقع المعركة، وكان الموكب قد انطلق لتوّه من منطقة خلدة.

عندما وصل الموكب الى الأوزاعي كان المشهد فريداً، لم يرَ أحد شبيهاً له طوال السنوات التي تلت، إلا عندما وصلت الغنائم التي أسرتها المقاومة الإسلامية من العدو الصهيوني بعد تحرير جنوب لبنان في العام 2000.

لا اختلاف في ان الارادة التي قاتل من خلالها المجاهدون بدءاً من خلدة حتى كلية العلوم والمطار والأوزاعي والطيونة والغبيري.. استطاعت بناء جدار مانع أمام محولات العدو اسقاط الضاحية وقهر إرادتها.. وحتى غاراته الجوية التي ألهبت أحياء الضاحية لم تؤثر في عزيمة أهلها الذين خرجوا في 6 شباط/فبراير عام 1984 يقاتلون عملاء العدو، وفي 17 أيار/مايو من العام 1983 ليسقطوا اتفاق الذل والعار مع العدو، فقدموا الشهيد محمد نجدي، ليوقّع بدمه ان لا استسلام للعدو.. وطريق المقاومة هو الذي يحقق الانتصار.

شهداء ما زالت أسماؤهم تزين رأس القافلة، ومجاهدون خرجوا من أحيائهم ودساكرهم الفقيرة.. هم في قلب المسيرة.. ونصب أعينهم النصر او الشهادة.

حموا بسواعدهم الضاحية والوطن، فعصيت الضاحية على الاحتلال.. وتحررت أرض الوطن.. وهم على العهد ما بدّلوا تبديلاً.

من ذاكرة "الانتقاد" ـ 24 أيار/ مايو 2002
2011-05-26