ارشيف من :آراء وتحليلات
أجواء الثورات العربية تخيم فوق أوروبا!
عقيل الشيخ حسين
مجرد الكلام عن "ثورات عربية" يثير الخوف في صفوف معسكر الهيمنة الأميركي ـ الأوروبي ـ الصهيوني وامتداداته المحلية. فالثورة تعني الرفض للأوضاع القائمة، والأوضاع القائمة في معظم البلدان العربية تهب رياحها وفق ما تشتهيه سفن الهيمنة، من فساد الحكام إلى خراب البلاد وتدهور أوضاع العباد على جميع الصعد.
وهذا ما يفسر وفاء الغرب لماضيه الاستعماري الطويل عندما اتخذ مواقف عدائية انبرت إليها فرنسا خصوصاً إزاء أولى الثورات العربية الحالية، أي الثورة التونسية، ثم إزاء جميع تلك الثورات كلاً بحسب الظروف، حتى ولو اتخذت تلك المواقف، أحياناً، شكل تأييد الثورات ودعمها كوسيلة من وسائل اختطافها.
ولا يعود الخوف الغربي من الثورات العربية إلى كونها تخرج البلدان العربية من دائرة الخضوع للهيمنة وحسب، بل إلى كونها تشكل حافزاً للثورة عند الشعوب الأخرى، ومنها تحديداً شعوب الغرب التي تعيش حالياً ما أسماه بعض المراقبين بـ "الثورة الصامتة"، ببُعديها القومي والاجتماعي.
فعلى المستوى القومي، تتصاعد النبرة الانفصالية في جنوب إسبانيا "كاتولونيا" وشمالها "بلاد الباسك"، وتمتد إلى فرنسا مع الباسك وكورسيكا وبريتانيا، ثم إلى بريطانيا بين الانكليز والاسكوتلنديين، قبل أن ترتد إلى بلجيكا حيث يتعطل تشكيل الحكومة هناك منذ أكثر من سنة بسبب الخلافات بين الفلامنك والفالون، وإيطاليا حيث يتعمق الخلاف بين الشماليين والجنوبيين، وكل ذلك يزداد خطورة على خلفية الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وحلولها " الأمنية" المتمثلة بإجراءات التقشف وخفض الإنفاق.
على هذا المستوى الأخير، لم تفلح القروض الأوروبية وتلك المقدمة من صندوق النقد الدولي إلا في تعميق الأزمة اليونانية، الأمر الذي يدفع اليونانيين إلى التفكير بالانفصال عن منطقة اليورو في ظل أوضاع تزداد تعقيداً مع الصعود المستمر في اسعار العملة الموحدة.
ويتوقع المراقبون أن يؤدي انهيار اليونان اقتصادياً إلى انهيار مماثل في إسبانيا وإيطاليا، بعد أن هرعت المؤسسات المالية الأوروبية والدولية إلى نجدة البرتغال، أكثر تلك البلدان هشاشة، لإخراجها مؤقتاً من أزمتها الاقتصادية.
ولا يختلف حال إيرلندا عن البلدان المذكورة، وتكفي أية أزمة عابرة لزعزعة أركان الاقتصادين البريطاني والفرنسي حيث لم تتوقف المظاهرات التي اجتاحت البلدين قبل أشهر، احتجاجاً على سياسات التقشف، بسبب التراجع عن تلك السياسات، بل بسبب القمع والمشاكل البنيوية التي تعاني منها التنظيمات النقابية والسياسية المعارضة.
وفي هذه السياقات تأتي الثورات العربية، حتى تلك التي يدعمها الحلف الأطلسي، لتزيد من مشكلات أوروبا، حيث يدفع تدفق النازحين من ليبيا وتونس باتجاه إعادة النظر باتفاقيات شينيغن التي تضمن حرية تنقل الأشخاص بين البلدان الموقعة عليها. فقد بدأت النمسا بفرض رقابة صارمة على حدودها، وأقدمت فرنسا على وقف مرور القطارات القادمة من إيطاليا ضاربة بذلك عرض الحائط بتلك الاتفاقيات، الأمر الذي قال عنه أحد المعلقين لما يشكله هذا الإجراء من خطر جدي على الاتحاد الأوروبي: لو رأى ذلك الآباء المؤسسون للاتحاد الأوروبي لما صدّقوا أعينهم ولعادوا إلى قبورهم.
وبالإضافة إلى تدفق النازحين يبدو أن أجواء الثورات العربية قد بدأت بالانتقال إلى أوروبا مروراً بإسبانيا. فساحة بيورتا ديل سول الواقعة في وسط مدريد أخذت في الأيام القليلة الماضية شكل ميدان التحرير في القاهرة، حيث اعتصم الآلاف احتجاجاً على القمع "الوحشي" الذي تعرضت له في برشلونة تظاهرة سلمية شارك فيها عشرات الألوف من الأشخاص، تحت شعارات المطالبة بالحرية والديموقراطية وتأمين الوظائف والحد من إجراءات التقشف، في وقت تشارك فيه القوات الإسبانية في الحرب على ليبيا، وهي الحرب التي يفترض أن هدفها هو منح الحرية والديموقراطية للشعب الليبي.
ومن المنتظر أن تنتقل عدوى التظاهر قريباً من إسبانيا إلى بلدان أوروبية أخرى بسرعة قد تفوق عدوى المرض الذي ينقله الخيار القادم من إسبانيا، بحسب التخمينات الألمانية، والذي أدى إلى وفاة تسعة أشخاص في ألمانيا، وإلى إصابات في العديد من بلدان أوروبا الأخرى.
فإذا كانت أوروبا الغربية التي شكلت، قبل عشرين عاماً، مثالاً يحتذى لربيع الثورات في أوروبا الشرقية، قد انخرطت في مسيرة التضعضع، وإذا كانت بلدان أوروبا الشرقية تعض أصابعها اليوم ندماً على ما اقترفته من ثورات بائسة، فكيف يتجاسر باراك أوباما على التصريح أمام أكثر من عشرين زعيماً أوروبياً جمعهم في العاصمة البولندية وارسو... كيف يتجاسر على دعوة الثورات العربية إلى الاقتداء بربيع أوروبا الشرقية!؟
لا عجب، فقد جاءت تلك الدعوة ثانياً، بعد أن استهل كلامه، أولاً، بتوجيه التحية إلى اليهود الذين قتلتهم النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ما يعطي فكرة عن مدى حرصه وحرص حلفائه على حقوق الجماهير العربية.