ارشيف من :آراء وتحليلات
ثورات العالم العربي والرهانات الأميركية الخاسرة!
عقيل الشيخ حسين
أميركا الطامحة إلى "قيادة العالم"، والتي تتصرف على أساس أنها قائدة العالم فعلاً، على ما يقوله زعماؤها جهاراً نهاراً، خصوصاً خلال عقد التسعينيات الذي أعقب انهيار المعسكر الشيوعي، لا تفهم القيادة بغير معنى السيطرة. لا عن طريق الاقتراع الحر والعملية الديموقراطية لأن الديموقراطية التي تبشّر بها، شأنها شأن الحرية وحقوق الإنسان، ليست غير غشاء رقيق يغلف مشاريع الهيمنة.
ومن أجل السيطرة تشن الحروب بأشكال مباشرة، كما في كوريا وفيتنام، وصولاً إلى أفغانستان والعراق، بعد المرور بمئات التدخلات العسكرية في شتى أنحاء العالم. ولتسهيل المهمة ينشر الأميركيون قواعدهم العسكرية في جميع القارات وأساطيلهم في جميع البحار والمحيطات. وبأشكال غير مباشرة من خلال أنشطة أجهزتها الاستخباراتية.
وبالتوازي مع الحروب، تمارس الضغوط وتفرض العقوبات وتستخدم منظمة الأمم المتحدة وما يلحق بها من مؤسسات عسكرية ومدنية تتكاثر بشكل لافت، وتتغلغل في شتى مرافق حياة الشعوب، وتقضم صلاحيات الدول والحكومات بهدف إضعافها وتعزيز نفوذ المركز الأميركي العالمي.
وتكفي للتدليل على ذلك نظرة سريعة على نوعية الحكام في معظم بلدان العالم، ممن لا شرعية لهم غير ما يحظون به من دعم أميركي، وعلى اهتمامات هؤلاء الحكام المركزة، بتوجيه أميركي، على الإسراع في تكديس المليارات ونقلها إلى مصارف أميركا والغرب، على طريق الإجهاز على بلدانهم بغرغرينا الفساد، والدمار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والخلقي.
ومع الحروب والضغوط، تصطنع الولايات المتحدة حروباً بالوكالة عن طريق ما يدور في فلكها من أنظمة وأحزاب حليفة أو عميلة. وقد ازداد ميلها إلى استخدام هذه الوسيلة غير المكلفة في ظل الهزائم غير المتوقعة التي مُني بها المعسكر الأميركي ـ الصهيوني وملحقاته المحلية في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان والصومال وغيرها.
وبشكل خاص، في ايران التي صمدت أمام الحروب والتهديدات الظالمة وخرجت منها ظافرة وبقوة أكبر، استدعت، بعد هزيمة النظام العراقي وحلفائه في حرب الخليج الأولى، تحشيد جبهة عربية واسعة تحت شعار مواجهة الخطر الإيراني والدفاع عن عروبة تتصالح مع الكيان الصهيوني وتعوّل عليه في ضرب دول الممانعة وحركات المقاومة.
وبشكل خاص أيضاً في سوريا التي وقف عند حدود وجودها في لبنان، وعند استراتيجيتها في توازن الرعب، طوفان اتفاقيات السلام، بعد أن بدا للزعماء العرب، منذ خطاب السادات في الكنيست، أن الأمر قد انتهى وأن حاضر العرب ومستقبلهم يجب أن يضبط على عقارب الساعة الإسرائيلية.
وفي جملة الحروب بالوكالة، وفي الوقت الذي تندلع فيها الثورات في بلدان عربية وتختمر فيه ظروف اندلاعها في بلدان عربية أخرى، تتخذ الولايات المتحدة مواقف مؤيدة للأنظمة الاستبدادية التي تدور في فلكها، كما في حالة البحرين، ومعادية لأنظمة أخرى، كما في حالة سوريا وليبيا. وفي الحالتين، تدفع باتجاه تعميق الصراعات وإطالة أمدها على أساس أنها صراعات تدور في بلدان ستنتهي عاجلاً أو آجلاً إلى الاهتداء إلى السبيل القويم المتمثل بالوقوف في صف قوى التحرر الحقيقي والدخول، تبعاً لذلك، في تناقض مباشر مع سياسات الهيمنة.
يبدو ذلك جلياً في ليبيا واليمن. ففي حالة ليبيا، تفيد آخر التصريحات الصادرة عن مسؤولين كبار في التحالف الغربي ـ العربي، أن التحالف يحتاج بعد ثلاثة أشهر من التدخل العسكري، إلى ثلاثة أشهر أخرى يمكن بعدها أن تسمح الظروف بحسم المعركة وتنحية العقيد القذافي. وكل ذلك رغم الفارق الكبير في ميزان القوى بين الفريقين المتصارعين، الأمر الذي يدلل على أن المطلوب هو أن يقوم الليبيون، من الطرفين، بتدمير بعضهم البعض.
وفي اليمن، يبدو أن مصممي المبادرة الخليجية التي أشرف الأميركيون على صياغتها، قد صمموها خصيصاً لا من أجل إخراج البلاد من أزمتها، بل من أجل دفعها نحو أتون حرب أهلية يراهنون عليها كوسيلة يمكن من خلالها لليمن أن يدمر نفسه بنفسه.
والاستراتيجية نفسها يعتمدها الأميركيون حتى في باكستان، حليفتهم الأولى في الحرب على الإرهاب، حيث لا يمر يوم من دون أن نسمع تصريحات أميركية، تتهم باكستان، أو جيشها أو بعض أجهزة استخباراتها بالتواطؤ مع من تسميهم بـ "الإرهابيين"، في مسعى واضح لدفع البلاد نحو الاقتتال الداخلي.
والسيناريو نفسه يعتمدونه في أفغانستان حيث يسعون إلى تكوين جيش أفغاني يضم مئات الألوف من الجنود، مهمته تنفيذ المهام التي عجز عن تنفيذها كل ما يمتلكونه من قوى ضاربة.
والمعروف أن الأميركيين وحلفاءهم كانوا يفركون أيديهم فرحاً بالخلاف بين فتح وحماس، ويفعلون كل ما بوسعهم من أجل تعميقه ومفاقمته، وأنهم أصيبوا بإحباط شديد انعكس في مواقفهم السياسية إزاء المصالحة بين الحركتين الفلسطينيتين.
لكن إحباطات أكثر شدة تنتظر الأميركيين وحلفاءهم، رغم ما يحيط بتطور الأوضاع من مظاهر الغموض والاختلاط، عندما تتساقط رهاناتهم على اختطاف هذه الثورة العربية أو تلك. فعجزهم في عزّ قوّتهم عن تحقيق أهدافهم في الهيمنة، لن يتحوّل إلى قدرة وقوة في وقت يعانون فيه من مظاهر الضعف على جميع المستويات، وتتحوّل فيه جميع رهاناتهم إلى إخفاقات مجلجلة.