ارشيف من :أخبار لبنانية
دراسة: إسرائيل والثورة المصرية(*)
إعداد: د. محمود محارب
تعرض هذه الدراسة المواقف الإسرائيلية من الثورة المصرية، التي عبر عنها القادة السياسيون والعسكريون وخبراء الشؤون العربية والأكاديمية ومراكز البحث في إسرائيل. وتقف أمام مفاجأة إسرائيل من اندلاع الثورة المصرية، وتتابع دوافع دعم إسرائيل لاستمرار حكم مبارك حتى اللحظة الأخيرة، وأسباب اتخاذها موقفاً معادياً من الثورة المصرية. كما تستشرف تأثيرات هذه الثورة في إسرائيل كما عبر عنها الإسرائيليون، في النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستراتيجية. أولت إسرائيل ـ منذ نشوئها وحتى اليوم ـ اهتماما كبيرا بمصر وبدورها بالغ الأهمية في معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي، سواء في مرحلة الحرب بين الدولتين أو بعد توقيع اتفاقية السلام بينهما. ويعود هذا الاهتمام لعاملين أساسيين؛ أولهما: قوة مصر الذاتية بوصفها دولة كبيرة ومتماسكة، وفيها طاقات كامنة وعوامل قوة تجعلها القوة العربية القادرة على الصمود أمام إسرائيل والتصدي لها. وثانيهما: دور مصر العربي والإقليمي الذي مكنها من تبوّء العمل العربي المشترك فترة طويلة. لم تنه اتفاقية كامب ديفيد ـ من المنظور الإسرائيلي ـ الصراع بين مصر وإسرائيل، لكنها منحته شكلاً جديداً؛ فبعد توقيعهما المعاهدة استمر الصراع على جملة واسعة من القضايا، وفي مقدمتها الصراع على المكانة والدور والنفوذ وقدرة التأثير في تطور الأحداث بالمنطقة. واستندت إسرائيل في إدارة هذا الصراع إلى عوامل قوتها، وأهمها: 1.تفوقها العسكري على مصر وبقية الدول العربية في الأسلحة التقليدية.
2.احتكارها السلاح النووي في المنطقة.
3.وضعها الاقتصادي المتقدم الذي يقترب فيه معدل دخل الفرد السنوي ـ منذ نحو عقدين ـ من معدل دخل نظيره في أوروبا.
4.امتلاكها إرادة سياسية موحدة في قضايا الأمن القومي، وتساهم المؤسسة الأمنية في بلورتها وفي حشد المجتمع الإسرائيلي خلف أهدافها، وفي ظل العملية الديمقراطية الإسرائيلية القائمة على مسلمات و"مقدسات" أيديولوجية وسياسية وأمنية.
5.تمتعها بعلاقات راقية للغاية مع الولايات المتحدة الأمريكية، تحصل إسرائيل بموجبها على دعم أمريكي مهم وحيوي في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية؛ بهدف استمرار تفوق إسرائيل على جميع الدول العربية.
واستناداً إلى عوامل قوّتها هذه، سعت إسرائيل في العقود الأخيرة إلى التقليل من مكانة مصر، وتهميش دوريْها العربي والإقليمي، وتقليص تأثيرها المستقل في تطور الأحداث في المنطقة، وفرض الأجندة الإسرائيلية عليها في ما يخص قضايا الصراع الأساسية في المنطقة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وجعلها مقاولاً للسياسة الإسرائيلية تجاه هذه القضية وقضايا أخرى، تحت أغطية "الوساطة" ومكافحة "الإرهاب" والتصدي "للتطرف الإسلامي". وساعد إسرائيل في تحقيق الكثير من هذه السياسات، وجود حكم في مصر قائم على الفساد والاستبداد، كغيره من أنظمة الحكم في الدول العربية. فلا عجب ـ والحال كهذه ـ أن ناصبت إسرائيل منذ اللحظة الأولى العداء للثورة المصرية والثورات العربية الأخرى، وتمسكت بثبات في دعمها لاستقرار نظم الاستبداد والفساد.الصلاة لسلامة مبارك: لعل المقال الذي نشره الصحفي الإسرائيلي ألوف بن ـ قبْل نصف عام من نشوب الثورة المصرية ـ كان الأكثر قرباً إلى وصف طبيعة موقف إسرائيل من مصر وعلاقاتها معها خلال فترة حكم مبارك. حيث ابتدأ ألوف بن مقالَه، الذي جاء تحت عنوان "صلاة لسلامة مبارك"، بقوله: إن الشخص الأكثر قرباً من رئيس الحكومة الإسرائيلية من بين جميع رؤساء العالم هو رئيس مصر "مبارك". ثم استند ألوف بن إلى مصدر إسرائيلي رفيع أكد أن العلاقة بين مبارك ونتنياهو "وثيقة أكثر بكثير ممّا تبدو عليه"، فقد أصبحت مصر بفضل مبارك حليفا استراتيجيا لإسرائيل بدل إيران، ومزودها الأساسي بالطاقة، كما إن مصر منحتها التكئة الاستراتيجية، وضمنت لها الاستقرار الأمني، وبفضل السلام بين مصر وإسرائيل تقلص عبء ميزانية الأمن الإسرائيلي، وخُفض عدد الجيش، وصمد هذا السلام أمام امتحانات الحروب والانتفاضات في الجبهات الإسرائيلية الأخرى، والمسؤول عن هذا كله هو مبارك، الذي حكم بلاده أطول فترة منذ محمد علي؛ ونتيجة لكل ذلك فإنه "لو مُنح قادة إسرائيل اختيار أُمنية واحدة، كانوا سيطلبون إطالة حياة مبارك إلى الأبد"[1].لكن أمنيات الإسرائيليين وصلواتهم لم تشفع في إطالة حكم مبارك، وعندما بدأت المظاهرات الشعبية وازداد زخمها يوما بعد آخر، صدمت إسرائيل وأصابتها الدهشة مما يحدث. كان الوضع مقلقا وحرجا إلى أقصى حد.. وهو قلق على مصير أهم حليف إقليمي في العقود الثلاثة الأخيرة، وطالما تمنت ـ بكل صدق ـ أن يظل حاكما لمصر إلى الأبد، وحرج من الموقف العلني الذي على إسرائيل اتخاذه من الثورة الشعبية؛ فإذا عبرت علناً عن موقفها الداعم لمبارك والمعارض لمطالب الثورة، فقد يصبّ ذلك الزيت على نار الثورة الملتهبة. ونتيجة لحساسية الوضع، أصدر مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية توجيهاً إلى جميع الوزراء والناطقين باسم الحكومة الإسرائيلية يطالبهم بعدم التطرق إلى ما يحدث بمصر في وسائل الإعلام، وفي الوقت نفسه أعلن مكتب كل من رئيس الحكومة ووزير الخارجية أنهما يتابعان عن كثب الأحداث في مصر، وأن وزارة الخارجية تعقد اجتماعات كل عدة ساعات لبحث تطورات الوضع في مصر وتقديرها [2].
وإزاء استمرار المظاهرات الشعبية في مصر، عقد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في 29 يناير 2011 اجتماعا مطولاً مع قادة أجهزة الأمن ومستشاريه لشؤون الأمن، حول الأوضاع في مصر وإمكانية حدوث ثورة فيها وتأثير ذلك في إسرائيل. وفي أعقاب هذا الاجتماع صرح مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى بأن ما يحدث في مصر يتسم بعدم الوضوح، ولم يقدّر أحد بشكل صحيح التطورات في مصر، وأن "الجميع يريد أن يعتقد بأن الخطوات التي اتخذها مبارك ستؤدي إلى وقف أعمال الشغب". وأضاف المسؤول نفسه: إذا استمرت "أعمال الشغب"، وقادت إلى استقالة مبارك في نهاية الأمر، فإن كل شبكة العلاقات بين إسرائيل ومصر سيتم بحثها[3].
ونتيجة لحساسية الوضع، أصدر وزير الخارجية الإسرائيلية تعليمات صارمة للمسؤولين في وزارته بعدم السماح للصحفيين بالدخول إلى وزارة الخارجية وعدم الحديث مع الصحفيين حول مصر؛ لأن "الموضوع حساس للغاية، وكل تصريح يمكنه أن يسبب أذى". وكذلك بادرت وزارة الخارجية الإسرائيلية ونقلت عائلات الدبلوماسيين الإسرائيليين من مصر إلى تل أبيب بطائرة خاصة نتيجة لخطورة الوضع وحساسيته[4].إسرائيل تنفرد في الدفاع عن مبارك: لم تفاجَأ إسرائيل من اندلاع الثورة المصرية ومن زخمها فقط، بل امتد ذلك إلى مواقف قادة أمريكا وأوروبا الضاغطة على مبارك من أجل إجراء إصلاحات، وعدم استعمال القوة في قمع المتظاهرين. وفي الوقت الذي حاولت فيه حكومة إسرائيل ـ في بداية الثورة ـ عدم التطرق علناً لما يحدث في مصر، فإنها نشطت دبلوماسيا للدفاع عن مبارك لدى الدول الكبرى، كما حاولت التأثير في مواقف هذه الدول.فبعد بدء الثورة المصرية بعدة أيام أرسلت وزارة الخارجية الإسرائيلية تعليمات سرية إلى سفراء إسرائيل في أكثر من عشر دول مهمة، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وكندا وعدد من الدول الأوروبية ذات الأهمية، وأمرتهم بالاتصال فوراً بالسلطات العليا في هذه الدول، والطلب من قادتها وقف انتقاد الرئيس المصري مبارك، والتأكيد لقادة هذه الدول على أن الاستقرار في مصر سيؤثر بدوره في مجمل الاستقرار في جميع أرجاء الشرق الأوسط[5].
وذكرت صحيفة هآرتس أنه يسود امتعاض في إسرائيل من موقف كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من "الأحداث" في مصر.
وذكر مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى أن الأمريكيين والأوروبيين ينجرون وراء الرأي العام ولا يفكرون في مصالحهم الحقيقية. وأضاف: حتى وإن كانت هناك انتقادات لمبارك فينبغي الوقوف معه و"منح الأصدقاء شعورا بأنهم ليسوا وحدهم. ففي الأردن والسعودية يرون رد فعل الغرب، وكيف يترك الجميع مبارك، وستكون لذلك نتائج وخيمة"[6].انفردت إسرائيل عن بقية دول العالم باستمرارها في دعم مبارك ونظامه والدفاع عنه والتحذير من مخاطر إسقاطه، على الرغم من تعاظم المظاهرات وازدياد زخمها يوما بعد آخر. واستعملت إسرائيل ثنائية الإسلام السياسي الراديكالي، في مقابل استقرار نظام الحكم المستبد "المعتدل" في سياسته تجاه إسرائيل والغرب.. فقد حذر رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، في خطاب بالقدس أمام اجتماع أصدقاء إسرائيل من البرلمانيين الأوروبيين، من إمكانية أن تستولي "قوى إسلامية متطرفة" على الحكم في مصر، إذا ما سقط حكم مبارك، وأن تسير مصر عندئذ خلْف النموذج الإيراني. وادعى نتنياهو، بعد أن أسهب في توضيح مخاطر الثورة على الاستقرار في مصر والمنطقة، "بأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لها قيم ومصالح متماثلة مع تلك الموجودة في أوروبا"[7].الفشل في توقع الثورة: تفاجأت إسرائيل من حدوث الثورة في مصر ونجاحها في إسقاط الرئيس المصري حسني مبارك، فقد اعتقد الإسرائيليون أن نظام مبارك مستقر، وأن مبارك سيورث الحكم لابنه جمال أو لعمر سليمان، غير أن المفاجأة شملت جميع من يتابع الوضعيْن المصري والعربي؛ من أجهزة مخابرات ومراكز أبحاث وخبراء الشؤون العربية وأساتذة الجامعات والصحفيين والساسة والقادة العسكريين. وجاءت هذه المفاجأة رغم الضوء الأحمر الذي أشعلته الثورة التونسية، ورغم إرهاصات المظاهرات المنادية بالديمقراطية وازدياد حركة الاحتجاج ضد التوريث وتكاثر الإضرابات العمالية في مصر. كما لم تكن مفاجأة إسرائيل من اندلاع الثورة فقط، لكنها جاءت من الشكل الذي جرى به إسقاط مبارك أيضا، فضلا عن رد فعل أمريكا وأوروبا عند تخليهما عن مبارك.لقد تمسك كل من جهاز المخابرات العسكرية (أمان) وجهاز الموساد، حتى اندلاع الثورة، بالتقييم الذي أكد "أن نظام الحكم في مصر مستقر"، وأنه "لا يوجد عليه خطر آني"[8]. ولم تفشل إسرائيل في توقع حدوث الثورة فقط، وإنما فشلت ـ أيضا ـ في قراءة الواقع وتفسيره عندما بدأت الثورة؛ فقد أكد رئيس جهاز المخابرات العسكرية (أمان) الجنرال أفيف كوخافي، بعد مرور عدة أيام على بدء المظاهرات الجماهيرية، أنه "لا توجد خشية على استقرار الحكم في مصر"[9].
وفشل أيضا رئيس جهاز المخابرات العسكرية الأسبق أهرون زئيف فركش في قراءة الواقع؛ إذ أكد في مقابلة له مع راديو إسرائيل أن فرص نجاح الجيش المصري في قمع المتظاهرين المصريين، وفي استعادة النظام والهدوء، ووضع حد للمظاهرات، مرتفعة للغاية. واستنكر فركش في المقابلة نفسها مواقف الولايات المتحدة وأوروبا من الثورة، وقال: إنه لا يفهم هذه المواقف ولا يفهم دعمها "لدمقرطة" مصر[10].وشبّه الصحفي الإسرائيلي ألوف بن فشلَ إسرائيل ـ خاصة جهاز المخابرات العسكرية (أمان) ـ في توقع حدوث الثورة المصرية، بالفشل في توقع حدوث حرب أكتوبر عام 1973. وعزا ألوف بن أسبابَ هذا الفشل إلى العوامل التالية:أولاًـ كانت الفكرة السائدة في أجهزة المخابرات الإسرائيلية والمؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث ولدى خبراء الشؤون العربية على اختلاف اتجاهاتهم، أن في مصر نظاما قويا ومعارضة ضعيفة تخضع لرقابة صارمة.
ثانيا: كثفت أجهزة الأمن الإسرائيلية نشاطها ـ منذ توقيع اتفاقية السلام مع مصر ـ حول ما يجري في الساحات الفلسطينية والسورية واللبنانية والإيرانية، وخفضت من متابعتها العميقة لما يجري في مصر.
ثالثا: أسهمت العلاقات الوطيدة والمباشرة التي نشأت بين قيادات الأجهزة الأمنية في البلدين، وكذلك العلاقات المباشرة والودية بين القيادات السياسية، في تبني وجهة نظر ترى أن الأوضاع في مصر مستقرة[11]."الديمقراطية ليست للعرب":
هناك موقفان متأصلان في إسرائيل، وفي ثقافتها السياسية تجاه العرب، وهما: العداء للوحدة العربية، والعداء للديمقراطية في الدول العربية. ويعود هذا العداء أساساً إلى أسباب سياسية؛ فقادة الصهيونية وإسرائيل اعتقدوا ـ وما زالوا ـ أن الديمقراطية والوحدة العربية تعززان من قوة العرب، وتفتحان المجال واسعاً ـ في المدى المتوسط والبعيد ـ لمقاومة إسرائيل وربما هزيمتها.لقد عالج ذلك دافيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل وواضع نظرية أمنها، حيث كتب في يومياته بتاريخ 29 يناير 1949 ـ عقب اطلاعه على برنامج حزب عربي ظهر في أواخر الأربعينات ـ الآتي: "أخيراً ظهر العرب الذين يرون الوضع بشكل واضح". وأضاف: إن هذا الحزب ينادي بالوحدة العربية، و"يرى أن الشعب هو مصدر السلطة، ويؤمن بحق الجميع في المساواة في الحقوق والواجبات"، وينادي بحرية الفرد في العيش بكرامة، وبالحرية من الاستعمار.
ثم عبر بن غوريون عن خشيته من أن يسير العرب في الطريق التي ينادي بها هذا الحزب، فكتب: "هذه هي الطريق للعرب، وطيلة الوقت وأنا أخشى أن يقوم قائد عربي ليقود العرب في هذه الطريق. إنهم يتجاهلون المعوقات الداخلية والخارجية والزمن المطلوب لوحدة العرب. يا ويلنا ويا ويلنا إذا لم نعرف استغلال هذا الزمن لنكبر ونتحصن ونحتل مكانة في العالم..."[12].منذ أن اندلعت الثورة المصرية في يناير 2011 هيمنت الخشية على الغالبية العظمى من المسؤولين الإسرائيليين من أن تقود هذه الثورة إلى إقامة نظام ديمقراطي في مصر، وشاركهم الشعور ذاته المحللون ووسائل الإعلام والخبراء في الشؤون العربية وغيرهم من الذين تطرقوا إلى الثورة المصرية. وعبر هؤلاء عن الخشية من "خطر" الديمقراطية في مصر بأشكال تنوعت بين الصراحة والإخفاء.وقد بلغ العداء الإسرائيلي لقيام نظام ديمقراطي في مصر والخشية منه حداً أثار الصحفي والكاتب الإسرائيلي عوفر شيلح، الذي عالج هذه المسألة في مقال له تحت عنوان "الديمقراطية ليست للعرب"، حيث استهل مقاله بالتأكيد على أنه "لا يوجد إسرائيلي عاقل لا يخشى من نتائج الأحداث في مصر"، خاصة أن اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر مهمة للغاية، وأي إخلال بها يؤثر في جميع نواحي الحياة في إسرائيل. وأضاف عوفر شيلح: "هناك شيء واحد أسمعه من الناطقين باسم إسرائيل ومن جزء كبير في الجمهور الإسرائيلي وهو: الديمقراطية ليست للعرب.
فمثلاً سمعنا أمس "جنرال" يقول ذلك بوضوح: إن الديمقراطية ليست للعرب، وإنهم غير جديرين بها، وإن ما تحتاج إليه إسرائيل هو أنظمة حكم عربية مستقرة وغير ديمقراطية. وبكلمات بسيطة: نحن نريد حكاماً عرباً مستبدين يعتمدون على الغرب".ثم حلل عوفر شيلح هذه الرؤية الإسرائيلية التي تنادي بأنظمة حكم عربية دكتاتورية، واستخلص أن وراءها دافعين: أولهما، الخشية من أن توصل الديمقراطيةُ الإسلام السياسي إلى سدة الحكم. وثانيهما، مصدره الاستعلاء الإسرائيلي.. فالاستعلاء "بات حاجة وضرورة نفسية لنا بأن يكون العرب متخلفين وظلاميين، وغير جديرين بنيل حقوق إنسانية أساسية". فهم ـ وفق الرؤية الإسرائيلية ـ متخلفون مئات السنين عن الغرب وعن إسرائيل؛ بسبب ثقافتهم وتقاليدهم وطابعهم الجماعي غير القابل للتغيير. لذلك من الأفضل لهم وللعالم أن تحكمهم أنظمة دكتاتورية تستند في حكمها إلى القوة العسكرية، وتورث الحكم إلى الأبناء.
فالحرية ليست جيدة لهم؛ لأن طابعهم الظلامي يتفجر إلى الخارج في موجات من العنف ضد محيطهم في حال نيلهم الحرية، وكل من يفكر خلاف ذلك ـ "خاصة الغرب المتكلس والرجل الساذج في البيت الأبيض ـ فإنه ببساطة لا يفهم الحياة، أو لا يعيش هنا مثلنا".وأكد عوفر شيلح أن هذه الرؤية الإسرائيلية سائدة بين الإسرائيليين بغض النظر عن تصنيفات يسار ويمين؛ فاليسار الإسرائيلي ـ الذي تعود جذوره إلى أولئك الذين هاجروا إلى البلاد من أجل تأسيس "فيلا في الغابة"، وحملوا مقولة "وطن بلا شعب لشعب بلا وطن"، ويمتاز باستعلائه هذا ـ ليس أقل من اليمين.وفي ختام مقاله ميز عوفر شيلح موقفه عن الرأي السائد بين النخب والعامة في إسرائيل بخصوص مسألة الديمقراطية في الدول العربية بقوله: "أنا لا أعرف ماذا سيكون في مصر... أنا أعرف إذا كانت الديمقراطية جيدة لنا، فهي جيدة أيضاً للعرب"[13].تأثير الثورة المصرية في إسرائيل: أولت المؤسسة الأمنية والقادة الإسرائيليون والباحثون وأساتذة الجامعات والصحفيون وخبراء الشؤون العربية اهتماماً كبيراً بتأثيرات الثورة المصرية في إسرائيل، وشمل ذلك مجالات واسعة، يأتي في مقدمتها: مستقبل اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، وطبيعة العلاقات الثنائية المستقبلية، وانعكاسات الثورة المصرية على وضع إسرائيل العسكري، وعلى ميزان القوى في المنطقة، وتركيبة الجيش الإسرائيلي وحجمه، ووضع إسرائيل الاقتصادي والسياسي، ومكانة إسرائيل ودورها في المنطقة، والقضية الفلسطينية بملفاتها المختلفة.ومن أجل تغطية هذه المواضيع، سنقوم بعرض مواقف نخبة واسعة من الإسرائيليين، وتحليل كتاباتهم وخطاباتهم حول تأثيرات الثورة المصرية في إسرائيل والمنطقة.في الأسبوع الأول للثورة المصرية، حلل عاموس هارئيل تأثيرات هذه الثورة في إسرائيل إذا نجحت في الإطاحة بمبارك، فذكر أنه إذا أسقطت الثورة مبارك فسيكون لذلك تأثيرات أمنية كبيرة على المستويين القريب والبعيد؛ فعلى المدى القريب سيتضرر التنسيق الأمني الخفي الجاري بين مصر وإسرائيل، ويحدث انفراج في علاقات مصر مع حكومة حماس في قطاع غزة، ويقود إلى المساس بمكانة القوة متعددة الجنسيات في سيناء، ومنع السفن الحربية الإسرائيلية من المرور في قناة السويس، خاصة تلك التي استعملت في العامين الأخيرين في مكافحة تهريب السلاح من السودان إلى قطاع غزة.
أما على المدى البعيد، فأشار عاموس هارئيل إلى أنه إذا جاء نظام حكم راديكالي فسيجمد السلام بين إسرائيل ومصر تجميداً حقيقياً، وإذا حدث هذا الأمر، فإنه يستدعي إعادة تنظيم الجيش الإسرائيلي.
(*) المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات