ارشيف من :آراء وتحليلات

نهاية الرأي والرأي الآخر: الثورات العربية تسقط فضائيات عربية ايضاً

نهاية الرأي والرأي الآخر: الثورات العربية تسقط فضائيات عربية ايضاً

عبد الحسين شبيب

سيتوقف الباحثون الرصينون كثيراً قبل أن يحصوا لائحة النهايات التي أطلقت الثورات العربية العد العكسي لها. ليست الأنظمة القمعية هي التي سقطت وستسقط فقط، بل هناك سقوطات كثيرة لقوى معلنة وخفية، ولمفاهيم كادت تصبح حقيقية وأخرى هي في الأصل تلفيقية وتضليلية. ومع أن بعض الفضائيات تنسب الى نفسها "الشرف الأكبر" في اطلاق وتأجيج الثورات العربية، فان الآتي من الأيام، ولو تأخر قليلاً، سيعيد الأمور الى نصابها، ويفضح كيف تلاعبت هذه الفضائيات بالوقائع وتجاوزت الحقائق ولفقت ما هب ودب في اطار ما أعطته لنفسها من "حق" في الكذب على الرأي العام.

عندما أبصرت "قناة الجزيرة" النور من قطر خيِّل للبعض أنهم أمام فرصة حقيقية لاعلام موزون مأخوذٍ بهاجس البحث عن الحقيقة ونشرها من دون تجميل أو تقبيح، مهما كانت الخسائر والأرباح، سواء كانت للدولة الممولة او لحلفائها. أيضا التنظير الغربي على العرب بحرية الصحافة والحق في الوصول الى المعلومات والمعايير المهنية " الرصينة" في نشرها والتدقيق بها والدجل على الجمهور بمصطلحات "الموضوعية والدقة والمصداقية"، كل ذلك سقط دفعة واحدة. اصبحت الفضائيات العربية والغربية وأدوات التواصل الالكتروني تشبه السياسة الدولية كما هي تماما من دون اي امتياز ايجابي. لتوضيح الفكرة أكثر، يتحدث الاميركيون اليوم عن رفضهم للسلوك القمعي لأنظمة عربية ضد المتظاهرين، لكن سرعان ما يتبين أن هذا الرفض يتركز على دول بذاتها: سوريا، وينحسر عن دول اخرى كالبحرين والمغرب، وهو كان رفضاً لطيفاً وخجولاً ومتواطئاً مع ما ارتكبه النظامان التونسي والمصري ضد المتظاهرين السلميين. لكن الجدلية ليست فقط هنا، بل في تباكي الادارة الاميركية على بضع مئات من الضحايا العرب، في حين ان الاجهزة الرسمية في افغانستان والعراق لم تنجز بعد احصاءً نهائيا عن مئات الالوف من الضحايا العرب والمسلمين ممن قتلتهم حربان اميركيتان لم يفصل بينهما سوى عام وشهرين على الاكثر.

اليوم بالذات بلغ السيل الزبى ولم يعد حتى صديق واشنطن الرئيس الافغاني حامد كرزاي يستطيع غض النظر عن الضحايا الافغان من المدنيين وتحديدا النساء والاطفال الذين يتحولون فجأة من دون سابق انذار الى شهداء بغارة لطائرة اميركية تقرر ان هناك "هدفاً" وتعطي لنفسها "الحق" في قصفه مهما سقط من ضحايا ممن يرتحلون عن هذه الحياة ولا يعرفون ماذا يجري حولهم ولماذا هم قتلوا الآن وبهذه الطريقة الوحشية. الامر نفسه حصل ويحصل في باكستان واليمن والسودان والصومال واماكن اخرى تسرح فوق سمائها الطائرات الحربية الاميركية.

لا تشكل هذه الأخبار أي موجب للادانة أو لتغطية اعلامية مميزة تضع نصب عينيها وضع حد للقمع والارهاب الاميركي ضد الشعوب العربية والاسلامية، تماما كما تفعل الان بعض الفضائيات بما تزعمه من حرص وتعاطف مع ضحايا الثورات العربية من المعارضين. النفاق السياسي الاميركي وجد نظيرا له في الحقل الاعلامي، فباتت بعض الفضائيات العربية والغربية الرئيسة ممن يحفظ الجمهور اسمها ظهراً عن قلب، تشبه بخطابها وتغطيتها الاخبارية المسيسة السلوك الاميركي الآنف الذكر.

لا يستحي باراك اوباوما وهو يتحدث عن حقوق بعض الشعوب في تقرير مصيرها ان يستثني الشعب الفلسطيني من هذا الحق، ويضع قيودا غير مسبوقة على ممارسته، وايضا لم تعد وسائل الاعلام تستحي في ممارسة سياسة ازدواجية فتنتقي ما تريد من ثورات وتجهض ما لا يناسبها من ثورات، وبين الأمرين تستخدم كل الأدوات القذرة وترمي جانباً كل القواعد المهنية ومواثيق الشرف وسلوكيات التحرير ومتطلبات "الرأي والرأي الآخر"، وكل ما تم تسويقه على انه من خصائص هذا الاعلام "الحديث".

عينة صغيرة من طريقة التغطية توضح الصورة. صحيفة "الشرق الأوسط" وضعت على رأس صفحتها الأولى في عددها الصادر يوم السبت 28 ايار 2011 وعلى امتداد ثمانية اعمدة عنوانا من خمس كلمات فقط وبأعرض خط استخدمته الصحيفة في تاريخها: "السوريون يحرقون صور نصر الله". منطقياً تقول القواعد الصحفية ان عنواناً بهذا التضخيم يجب ان يرفق بصورة ولو لشخص واحد يقوم باحراق الصورة. الصفحة الاولى كانت خالية تماماً من الدليل الذي يبرر للصحيفة مهنياً ان تختار هذا الابراز. ولنفترض ان هناك سورياً او اثنين او مئة او الف احرقوا الصور، هل يجوز التعميم والقول "السوريون"؟ ام "الدقة والمهنية تستوجب القول "سوريون" من دون شمل الجميع؟. واضح ان "الشرق الاوسط" تعبر عن غبطتها بحدث كهذا لو حصل، لكن ما الذي يقنع القارئ ان هذا الخبر صحيح وهو ليس مرفقا بأي صورة؟.

"قناة الجزيرة" و"اخواتها" في السياسة لم يعرضوا على المشاهدين حتى الآن لقطة واضحة لمسيرة حاشدة وضخمة وواضحة من حراك المعترضين السوريين. فقط لقطات غير واضحة يقال انها التقطت عبر هواتف نقالة. قطعاً الجمهور يسأل: اذا كان احد ما يستطيع ان يلتقط من الشارع ومن قلب التظاهرة صوراً عبر الهاتف، الا يستطيع ان يلتقط من شباك منزله بكاميرا ولو من الجيل القديم وبطريقة أقل خطورة من التصوير في الشارع صوراً اكثر جودة واكثر اتساعاً لكي يقنع الرأي العام بان هناك حشوداً ضخمة من المتظاهرين السوريين في المدينة الفلانية او المحافظ الفلانية؟.

لا يوجد اي دليل يوثق حقيقة المشاهد التي تعرضها "الجزيرة" واخواتها عن تظاهرات سورية، حتى تاريخ التقاط الصور الذي يمكن ان يتم من خلال كاميرات عادية متوافرة في السوق وذات جودة عالية، ومع ذلك تخلو المشاهد المعروضة من هذا الدليل.

الخبر والصورة الاكثر اثارة للجدل اليوم هي تلك التي تعرض التعذيب والتشوية الذي تعرض له الفتى حمزة الخطيب، وتقول الرواية المتداولة "ان اجهزة الامن السورية اعتقلته قبل مدة اثناء مشاركته في تظاهرة مع اهله في مدينة درعا، ولم تسلمهم اياه الا جثة هامدة ومشوهة". قاتل ورجيم وملعون الى يوم الدين من قتل هذا الطفل البريء حتى ولو كان يشتم ويسب من يسب، فقتله عمل وحشي مدان ولا يمكن التساهل معه ابداً. ولكن من يؤكد ان قوات الأمن السورية هي التي قتلته فعلاً؟ بالمنطق، فان النظام السوري الذي يشاهد بأم عينه نوع الهجمة الاعلامية الشرسة التي يتعرض لها بما فيها من تلفيق، كيف يسمح لنفسه بان يوفر لهؤلاء الخصوم خبرا كهذا وصورة كهذه؟ ما الذي يمنع ان تكون عصابة اجرامية خطفت الفتى وقتلته وشوهته لكي تحرض الجماهير؟ لا شيء يمنع. استضافت "الجزيرة" في احدى نشراتها الليلية الاسبوع الماضي الباحث السوري د. طالب ابراهيم، وهو قريب من النظام، وحاولت المذيعة ان "تفحمه" متبنية الرواية التي تقول ان الـ 850 قتيلا من الجيش والشرطة السوريين قتلوا برصاص زملائهم لانهم رفضوا تنفيذ الأوامر بالتصدي للمتظاهرين، فسألها ابراهيم: والالفي جريح الذين تتحدثين عنهم من قوات الأمن هل جرحهم زملاؤهم ايضاً لأنهم تمردوا وابقوهم احياء لكي يكون شهوداً على هذا الأمر؟ هل هناك غبي يطلق النار على عسكري متمرد ويبقيه جريحاً أم يقتله؟ في النشرة نفسها استضافت المذيعة المعارض فايز سارة من دمشق، وقدمته على انه ناشط حقوقي، ولما صحح لها وقال لها انا مجرد كاتب وصحافي مقيم في سوريا، ولما لم يتجاوب معها في الهجوم العنيف على نظام بشار الاسد اختصرت حديثها وشكرته على اشياء كانت تود ان يقولها لكنه لم يفعل.

قناة الـ" بي بي سي" (عربي) التي نذرت نفسها للصحافة الاستقصائية وتزعم انها تنفق اموالاً ضخمة لتدريب صحفييها وصحفيين آخرين على الموضوعية والحياد استضاف فيها مكي هلال في برنامج "اجندة مفتوحة" ( مساء 23 ايار المنصرم) المخصصة حلقته لتداعيات الوضع السوري على لبنان، اربعة اشخاص: في الاستديو معارض سوري شرس هو وحيد صقر رئيس تحرير موقع " شفاف الشام"، وثلاثة عبر الاقمار الصناعية من بيروت: القيادي في تيار المستقبل مصطفى علوش والصحافي في جريدة "الحياة" حسام عيتاني المناهض لسوريا، والثلاثة مقابل صحافي لبناني يتيم مؤيد للرئيس بشار الاسد هو ميخائيل عوض! واذا اضفنا اليهم انحياز المقدم يكونون اربعة مقابل واحد. هل هذه هي الموضوعية؟ ايضاً سقطات وكالة "رويترز" كانت اكبر من تاريخها ومن سمعتها: الوكالة وزعت على مشتركيها صورا عن احداث ايار 2008 في لبنان على أنها في سوريا قبل ان تطلب من المشتركين الغاء الخبر وتصحيحه مع الاعتذار! لكن السيف سبق العَذْل، وكبريات الفضائيات الاميركية تلقفت المشاهد وبثتها وعرضتها على مواقعها الالكترونية كما اظهر ذلك تقرير لتلفزيون استرالي.

في ثورات اليوم اصبح كل شخص يستطيع ان يعبث بالحقيقة ويلفق اخباراً وصوراً ويدرجها على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، وتسارع الفضائيات الى تلقفها على أنها حقائق وتبني عليها أمجاداً وأوهاما وبطولات، لكن سرعان ما تتضح الحقيقة، فلا تبادر هذه الفضائيات حتى الى الاعتذار عن تضليلها الجمهور، وعن عدم ممارستها الحد الادنى من القواعد المهنية في التحقق من صحة الاخبار والصور وتنويع مصادرها، لتعلن بذلك نهاية حقبة اعلامية ظن الجمهور العربي انها بابه الى "القرية الكونية الجديدة" قبل ان يكتشف خيبة أمله.

2011-06-06