ارشيف من :آراء وتحليلات
الانتفاضات العربية: نُذر خطر يجب الوقوف عندها... وإلا!
مصطفى الحاج علي
حان الوقت للخروج من لحظة الانتشاء بالانتفاضات العربية، لطرح الأسئلة الجادة المتعلقة بالهواجس عما يمكن أن تؤول اليه أوضاعها في ظل المحاولات الاميركية والأوروبية الحثيثة لاحتوائها وضبطها تحت سقف مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، سواء ما اتصل منها بالحفاظ على أمن الكيان الاسرائيلي أم اتصل منها بالمصالح النفطية التي ستبقى المحور الاستراتيجي لمجمل الصراعات في المنطقة وحواليها.
ولكي يكون للكلام نصابه الموضوعي، لا بد ـ بادئ ذي بدء ـ من تسجيل خلاصات أساسية حول واقع هذه الانتفاضات، أبرزها:
أولاً: حضور العامل الشعبي على نحو قوي ولافت ومفاجئ لكثيرين، وتحوله من ثم ليس الى لاعب محلي أو وطني فحسب، وإنما الى لاعب اقليمي، وان كان هذا الدور يبقى مرتبطاً بتوافر شروط اضافية ليست متحققة حتى الآن، لعل أبرزها خروجه من الانحباس في إطار المطالب الداخلية الى فضاء الخدمات المرتبطة بالقضايا الاقليمية، وفي طليعتها قضية الصراع مع الكيان الاسرائيلي، وقضية مواجهة الاستعمار الاميركي للمنطقة.
ثانياً: عدم ضمور دور العامل الشعبي، حيث ما فتئ يسجل حضوراً في الساحات تماماً كما هو حادث في تجربتي مصر تحديداً وتونس، مع ملاحظة أساسية، أن هذا الدور لا يحظى باجماع وطني، حيث تستثني قوى سياسية بارزة نفسها أحياناً منه، كما هو حال الخلاف في وجهات النظر بين التيارات الاسلامية عموماً في مصر والقوى الوطنية اليسارية أو العلمانية منها.
ثالثاً: ما زالت الانتفاضات التي حققت نجاحاً حتى الآن حبيسة المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة تلعب فيها المؤسسة العسكرية والأمنية دوراً بارزاً من جهة، كما إن الأطراف التي تملأها هي في الغالب ليست من وجه الانتفاضة، وهذا قد يبدو مفهوماً أن ما حدث هو انتفاضات وليس ثورات تقودها حركات أو قيادات أو أحزاب من شأنها أن تفضي الى تغييرات جذرية، الأمر الذي يبقي مسافة ليست قليلة بين دوافع وأهداف المنتفضين الفعليين ومن يقود هذه المرحلة، لا سيما في ظل التمايز الفعلي القائم في ساحة المنتفضين أنفسهم، وهذا من شأنه ان يترك ثغرات يسهل النفاذ منها.
رابعاً: ان الانطباع الأول حول المحرّضات الأساسية على الانتفاضات هو مواجهة عنواني الظلم والفساد، أو لنقل عواني الاستبداد والفساد، وهذا ما دفع المنتفضين الى محورة مطالبهم في الدائرة الأسلوبية والشكلية، أي المطالبة بالديموقراطية بما هي مدخل لنشر الحريات، والتأسيس للتعددية على قاعدة الاختلاف، واطلاق ديناميات التنافس السياسي من جهة، والمطالبة بمحاكمة رؤوس وزبانية النظام من الطغاة والمستبدين والمرتشين والناهبين والوصوليين الى ما هنالك من صفات وعناوين من جهة أخرى.
هذا التمحور قد يكون مفهوماً ابتداءً انطلاقاً من مفاجأة الانتفاضة لمجمل الخريطة السياسية، وللناس أنفسهم، على صعيد تحقيق النتائج، وهو يكون مفهوماً أيضاً تحت إلحاح المعاناة القوية للمجتمع من الاستبداد والفساد، لكن لا يمكن أن يكون مفهوماً على المدى المتوسط والأبعد، أن لا يعمد المعنيون من المنتفضين الى بلورة قراءة مشخّصة للوضعين السياسي والاقتصادي، والشروع في صياغة رؤية تشكل القاعدة للنهوض الاستراتيجي بأبعاده الاقتصادية والسياسية المتنوعة، ذلك ان مكمن الخطر الفعلي الذي يجب أن يتنبه اليه المنتفضون هو الخاصرة الرخوة الاقتصادية، فتفكيك النظام السابق في مصر أو تونس أو غيرهما من البلدان التي تدور في الفلك الاميركي، لا يكون في المدخل السياسي فقط، بل من باب أولى يجب أن يكون اقتصادياً أيضاً، فثمة اعتماد متبادل بين البعد السياسي والبعد الاقتصادي للنظام، حيث كل منهما يدعم ويغذي الآخر، ويفرز النتائج التي من شأنها اعادة انتاج الآخر، في ما لو تم الاكتفاء بأحدهما دون سواه، هذا الى جانب، أن الارتهان السياسي هو في عمقه يرتكز على الارتهان الاقتصادي للخارج، فالارتهان الاقتصادي يحفظ للغرب عموماً أوراق تدخله، بل ورؤوس الجسر الاستراتيجية لهذا التدخل، ما يسمح له لاحقاً ليس فقط بإعادة انتاج النظام السابق بحلة جديدة، وانما ضبط التغيير في السياسة الخارجية في اطار اهدافه ومصالحه هو.
في هذا السياق، فإن لعبة المساعدات والقروض التي عمدت اليها الولايات المتحدة مؤخراً لا يمكن فهمها الا من خلال هذه الرؤية، وهذا ما يتطلب بدوره انتباهاً شديداً من اصحاب الانتفاضات والمعنيين بها.
خامساً: صحيح أنه ليس سهلاً ان تقود الانتفاضات في مصر وتونس (باعتبارها الانتفاضات المتميزة حتى الآن) الى الخروج بسرعة من ثقل إرث عقود من سياسات وارتهانات الأنظمة السابقة، إلا أنه ليس من الصحيح أيضاً عدم الشروع في تأسيس مرتكزات لسياسات وطنية وقومية تتغذى من المصالح الاستراتيجية لهذه البلدان، خصوصاً في ما يتعلق بسياساتها الخارجية، فالانتفاضات إما أن تكون شاملة وتعيد تقويم المصالح التي تمس أمنها القومي الفعلي، وإما لا تكون، ذلك أن التخلص من النظام السابق لا يمكن ان يكون استنسابياً لأنه كائن عضوي بكل ما في الكلمة من معنى. ما صدر من مواقف حتى الآن في مصر تمس العلاقة مع قطاع غزة، والمصالحة الفلسطينية، والعلاقة مع ايران، واعادة تقويم نمط العلاقة مع الكيان الاسرائيلي، اضافة الى تقويم النظرة الى مشكلة السودان، ومياه النيل، تشير لى وجود ارهاصات مهمة في هذا الاتجاه، وإن كانت ارهاصات تحتاج الى تنمية متواصلة.
سادساً: في الخلاصة يمكن القول، ان الانتفاضات المنجزة ما زال طريقها مملوءاً بالأشواك والألغام والموانع والتحديات، التي تتطلب منها يقظة مستمرة، وحضوراً متواصلاً لا يقف الا عند حدود تحقيق الاستقلال الوطني الفعلي، وأما الانتفاضات الأخرى في اليمن وليبيا فهي أمام سيناريوهات خطيرة قد تأخذ تضحيات القائمين بها الى اللاشيء، حيث ما يجب مواجهته وإسقاطه هو نفس من سيقبض الأثمان... وهذا حديث آخر له شجونه.