ارشيف من :ترجمات ودراسات
تركيا قوة أميركا "الناعمة" في الداخل السوري
إعداد : علي شهاب
بات جليا ان تركيا تقود الحملة الإقليمية ضد سوريا بضغط دولي، تقاطع مع قرار لدى النسيج الفكري الشبيه بذلك الحاكم في انقرة بالوصول الى السلطة وركوب موجة الثورات في دول المنطقة.
وحتى اندلاع الأحداث الأخيرة في سوريا، كانت العلاقة بين البلدين تشهد مرحلة تقارب بدأ مع تولي الرئيس بشار الأسد السلطة ومن ثم انتخاب حكومة حزب "العدالة والتنمية" في العام 2002.
التحول في الموقف التركي ومصلحة الولايات المتحدة في ذلك كانت محور تقرير بحثي نشره الباحث في الشؤون العربية "دايفيد شينكر" في صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" استهله بالقول إن "الموقف الحالي على الحدود السورية التركية يسلط الضوء على العلاقات المتدهورة بين البلدين. فخوفاً من وقوع مذبحة أخرى ترتكبها حكومة دمشق، يتدفق مئات السوريين المدنيين إلى داخل الأراضي التركية، وهو تطور سيؤدي إلى تفاقم التوترات ويدفع أنقرة إلى اتخاذ موقف أكثر تشدداً من دمشق، ومن ثم زيادة عزلة نظام الأسد في النهاية".
ويتابع "شينكر" في بحثه:
"إن التحول في سياسة تركيا ينبغي أن يزود واشنطن والغرب بالفرصة، إن لم يكن بالحافز، لتبني موقف أكثر حزماً بشأن سوريا.
بعد سنوات عديدة من العداء بين البلدين، نجد أن السرعة التي تطورت بها العلاقات التركية السورية تلفت النظر. فبين عامي 2002 و 2009، أبرمت سوريا وتركيا ما يقرب من 50 اتفاقية تعاون بينهما، وأعلنتا عن إنشاء "المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي" وأجريتا أول مناورات عسكرية مشتركة في تاريخهما. وفي الآونة الأخيرة، وتحديداً في عام 2010، وقعت تركيا وسوريا اتفاقية تاريخية لمكافحة الإرهاب وأتبعتاها منذ شهرين فقط بمعاهدة لمكافحة التمرد. وبحلول عام 2011 كانت تركيا قد أصبحت أكبر شريك تجاري لسوريا.
وقد كانت العلاقات بين البلدين مُبشرة إلى درجة كبيرة بحيث أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو كان قد صرح في عام 2009 بأن الدولتين تشتركان في "مصير وتاريخ ومستقبل مشترك".
وقد تكرر مسار علاقات تركيا الناشئة مع دمشق من خلال صلاتهما المزدهرة مع المنافس الإقليمي السابق وهو طهران مما سهل تطبيق سياسة خارجية تتبع نهج "تفادي المشاكل مع الجيران." وربما ليس من المدهش أن يتزامن تنامي علاقات أنقرة مع هاتين الدولتين الإرهابيتين، مع تبريد العلاقات مع واشنطن وإسرائيل.
تدهور العلاقات
ولكن بعد ذلك وصل "الربيع العربي" إلى سوريا، وعندئذ تدهورت العلاقات بين دمشق وأنقرة بنفس السرعة التي كانت قد تحسنت بها.
وعندما تزايد عدد القتلى من بين المحتجين المدنيين الأبرياء في سوريا، خرجت تركيا عن صمتها إزاء التطورات التي تحدث في جنوب البلاد.
وفي آذار/ مارس، أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه كان "من المستحيل أن نبقى صامتين في وجه هذه الأحداث." وبإشارته إلى أنه كان بالفعل قد تحدث مع الأسد مرتين صرح أردوغان أنه كان يأمل أن يتبنى الأسد "نهجاً إيجابياً وإصلاحياً" لتجنب تكرار "الأحداث المؤلمة" في ليبيا.
ثم في نيسان/ أبريل، أرسلت تركيا وزير خارجيتها داود أوغلو لمقابلة الأسد في دمشق حيث عرض عليه "كل مساعدة ممكنة" لتنفيذ الإصلاحات التي تعهد بها الأسد للمساعدة على تثبيت استقرار سوريا وتأمين النظام.
ولكن كل ذلك لم يُجدِ نفعاً. وأخيراً في أيار/ مايو، صرح أردوغان علناً وقوف تركيا إلى جانب المحتجين الذين وصفهم بأنهم قد انخرطوا في "كفاح من أجل الحرية."
وفي حين أشاد المحتجون السوريون بموقف أردوغان، هاجمت الصحافة الحكومية السورية موقف أنقرة واعتبرته منافقاً و"متسرعاً ومرتجلاً."
ليس من الواضح ما السبب الذي استحث السياسة الخارجية الأخلاقية المفاجئة التي اتخذتها تركيا. وعلى كل حال، في عام 2009، هنَّأ أردوغان علناً الرئيس محمود أحمدي نجاد على إعادة انتخابه المزيف، ولم يعلق على المظاهرات السلمية التي أعقبت تلك الانتخابات.
وعلاوة على ذلك، ففي وجه الفظائع الواضحة، على الأقل في البداية، عارضت أنقرة مهمة منظمة حلف شمال الاطلسي في ليبيا.
وربما كان موقف أردوغان غير المسبوق تجاه سوريا متأثراً بالسياسات الانتخابية (بهدف اثارة عواطف الناخبين الأتراك في الانتخابات البرلمانية الأخيرة).
ويُشير الاستغلال الساخر من قبل أردوغان في قضية أسطول "مافي مرمرة" حول تقديم المساعدة إلى غزة في أيار/مايو 2010، إلى أن هذا النوع من الاستغلال للمشاعر الشعبوية ليس مستبعداً عند «حزب العدالة والتنمية».
أو ربما يكون «حزب العدالة والتنمية» حزباً انتهازياً فقط، بحيث يأمل أن توفر نهاية النظام في دمشق فرصة لكي يصل إلى السلطة نظام ذو تفكير إسلامي مماثل، في بلدهم المجاور.
وبغض النظر عن السبب في تغيير أنقرة لنبرتها تجاه بشار الأسد، إلا أن هذا التطور جديراَ بالترحيب. فمن دون تركيا يكون الأسد في الوقت الراهن أقل حصانة وأكثر عرضة للضغوط الخارجية، كما يكون النظام السوري أقل أمناً. وبالفعل لا تبتعد تركيا فقط عن نظام الأسد بل تتطلع إلى المساعدة على تنظيم من سيخلفه. وفي الأسبوع الماضي، وفي خطوة جريئة واستشرافية للمستقبل، استضافت تركيا مؤتمراً للمعارضة السورية على أراضيها، كان بمثابة تصريح واضح من جانب «حزب العدالة والتنمية» بأنه قد اعتبر بأنه ليس هناك سبيل لإصلاح الأسد. وبجهدٍ قليل وحظ أوفر سوف تحذو واشنطن حذو تركيا في قيادتها لهذا التغيير".
وفي السياق نفسه، يسلط مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن سونر چاغاپتاي، في مقال نشرته "فوين بوليسي"، الضوء على التحول في الموقف التركي ازاء سوريا من منطلق ان "كيفية تعامل تركيا مع الانتفاضات في العالم العربي ستلعب دوراً هاماً في تحديد هويتها الدولية لسنوات قادمة".
ويوضح الكاتب أنه "منذ وصوله إلى السلطة عام 2002، تبنى «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا سياسة "تفادي المشاكل" مع جيرانه حيث حاول حل النزاعات القائمة منذ زمن طويل وركز على أهمية التعاون بدل المواجهة. كما أطلق الحزب عملية تقارب مع سوريا ودول عربية أخرى، مما أدى إلى حدوث تحسن كبير في العلاقات بين سوريا وتركيا في أوائل عام 2003.
كان «حزب العدالة والتنمية» يؤمن أن إقامة علاقات مع الشعوب الإسلامية المجاورة لتركيا سيعطي أنقرة نوعاً من "القوة الناعمة". غير أن هذه الخطة كان فيها خلل كامن: ففي دول غير ديمقراطية كسوريا وليبيا، لم تعزز أنقرة علاقاتها مع الشعوب، وإنما مع الزعماء . لكن في ظل "الربيع العربي" الذي يطيح بالطغاة يميناً ويساراً، فإن على تركيا ألا تأخذ في عين الاعتبار علاقاتها مع الحكام المستبدين فحسب، ولكن أيضاً مع الانتفاضات الشعبية التي تتحدى هؤلاء الحكام. وستكون طريقة تعامل «حزب العدالة والتنمية» مع هذا اللغز قضية حاسمة في تحديد السياسة الخارجية التي ستنتجها الحكومة التركية القادمة.
إن تدليل تركيا لنظام الأسد ليس من منطلق الرفق أو المحبة. ففي عام 2003، كان «حزب العدالة والتنمية» يتطلع إلى توسيع نفوذ تركيا في اتجاه الشرق، وكانت سوريا تتمتع بشعبية في صفوف اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين، وبالتالي كانت تعتبر بوابة منطقية لهذا الغرض. وفي ذلك الحين، كان يبدو أن النظام السوري يحكم قبضته على السلطة داخلياً، لكنه كان يواجه ضغوطاً دولية هائلة بسبب الاشتباه في تورطه في عمليات اغتيال سياسية في لبنان واستضافته لمجموعة «حماس» الفلسطينية المتشددة وسماحه بتسرب المقاتلين الأجانب من أراضيه لمهاجمة القوات الأمريكية في العراق. لقد وفرت تركيا دعماً سياسياً واقتصادياً لنظام الأسد كان في أشد الحاجة إليه، حيث ساعدته على الخروج من عزلته الدولية واستقطاب الاستثمارات الأجنبية التي كان في أمس الحاجة إليها؛ وهو ما لم يستطع تحقيقه تحالف سوريا مع إيران القائم منذ فترة طويلة.
وقد تجسد احتشاد المصالح هذا بصورة رسمية من خلال زيارة الأسد لتركيا في كانون الثاني/يناير 2004، والتي تعتبر أول زيارة قام بها رئيس سوري إلى تركيا، وتوقيع معاهدة شراكة استراتيجية بين البلدين في وقت لاحق من ذلك العام. وفي النهاية شملت المعاهدة ما يقرب من 50 اتفاق ثنائي، كما تم إلغاء الحواجز التجارية والقيود المفروضة على تأشيرات الدخول بين البلدين. وفي نيسان/أبريل 2009، أجرى البلدان مناورات عسكرية غير مسبوقة دامت ثلاثة أيام وأبرما معاهدة تعاون دفاعي. وفي المقابل، دعمت سوريا طموحات تركيا الإقليمية بتكليف أنقرة في عام 2008 بلعب دور الوسيط الرئيسي في مفاوضاتها غير المباشرة مع إسرائيل، وهو دور طالما سعت إليه فرنسا وجهات أخرى. كما لم تعارض سوريا على لعب تركيا دوراً أكبر في الشؤون اللبنانية والفلسطينية.
لكن الانتفاضة السورية الحالية أوقفت هذه الشراكة الاستراتيجية وكانت بمثابة ضربة مدوية لها. كما كان على تركيا أن تتعامل مع احتمال استمرار الفوضى في شمال غرب سوريا الذي من شأنه أن يفتح المجال أمام المتشددين الأكراد باستخدام المنطقة كقاعدة لشن عمليات ضدها. ولا تشكل هذه التطورات تهديداً أمنياً كبيراً عبر الحدود التركية فحسب، بل قد تضر بموقف «حزب العدالة والتنمية» في الداخل قبل الانتخابات العامة.
وتعكس محاولة تركيا الأخيرة لتنظيم المعارضة رغبة جلية في أن تصبح وسيطاً قوياً في سياسة سوريا الداخلية والمشرق الأوسع على حد سواء. ولا يزال احتمال سقوط الأسد أو حفاظه على عرشه غير واضحاً. وفي كلتا الحالتين، تريد تركيا أن تلعب دوراً جوهرياً.
تتمتع تركيا، على عكس الولايات المتحدة وأوروبا وقوى إقليمية أخرى، بنفوذ كبير مع سوريا وهي في موقف فريد من نوعه يسمح لها العمل على هندسة "هبوط ناعم" للانتفاضة الحالية. وتستطيع تركيا استخدام نفوذها الاقتصادي والعسكري، وحتى تحكمها في مصادر المياه، إذا أصبح إصرار الأسد على البقاء في السلطة يهدد أمن تركيا والمنطقة. ومع ذلك، فلحد الآن، يبدو أن «حزب العدالة والتنمية» قد وجد طريقة للإبقاء على سياسة "تفادي المشاكل" التي يتبعها مع جيرانه، ألا وهي التعامل مع الحكام والانتفاضات الشعبية على حد سواء، مع التركيز على اختيار الجهة الرابحة.
وإذا لعب «حزب العدالة والتنمية» بطاقاته بشكل صحيح، فإن "الربيع العربي" قد يعطي أخيراً لتركيا تلك القوة الناعمة التي تتطلع إليها في العالم العربي. غير أن الموازنة الصعبة التي تطبقها تركيا بين الشعوب والحكام قد تأتي بنتيجة عكسية إذا كانت علاقاتها مع الطغاة المكروهين لا تواكب تطلعات الشعوب العربية التي بدأت مؤخراً تتحكم فعلاَ في مصيرها.
يقول مثل تركي شهير، في إشارة طريفة إلى مدينة دمياط المصرية، "قد يخسر المرء أرزه وهو يحاول الاستيلاء على دمياط". أو بعبارة أخرى، قد تخسر تركيا العرب كلهم، شعوباً وحكاماً، إذا راهنت على الحصان الخاسر".
بات جليا ان تركيا تقود الحملة الإقليمية ضد سوريا بضغط دولي، تقاطع مع قرار لدى النسيج الفكري الشبيه بذلك الحاكم في انقرة بالوصول الى السلطة وركوب موجة الثورات في دول المنطقة.
وحتى اندلاع الأحداث الأخيرة في سوريا، كانت العلاقة بين البلدين تشهد مرحلة تقارب بدأ مع تولي الرئيس بشار الأسد السلطة ومن ثم انتخاب حكومة حزب "العدالة والتنمية" في العام 2002.
التحول في الموقف التركي ومصلحة الولايات المتحدة في ذلك كانت محور تقرير بحثي نشره الباحث في الشؤون العربية "دايفيد شينكر" في صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" استهله بالقول إن "الموقف الحالي على الحدود السورية التركية يسلط الضوء على العلاقات المتدهورة بين البلدين. فخوفاً من وقوع مذبحة أخرى ترتكبها حكومة دمشق، يتدفق مئات السوريين المدنيين إلى داخل الأراضي التركية، وهو تطور سيؤدي إلى تفاقم التوترات ويدفع أنقرة إلى اتخاذ موقف أكثر تشدداً من دمشق، ومن ثم زيادة عزلة نظام الأسد في النهاية".
ويتابع "شينكر" في بحثه:
"إن التحول في سياسة تركيا ينبغي أن يزود واشنطن والغرب بالفرصة، إن لم يكن بالحافز، لتبني موقف أكثر حزماً بشأن سوريا.
بعد سنوات عديدة من العداء بين البلدين، نجد أن السرعة التي تطورت بها العلاقات التركية السورية تلفت النظر. فبين عامي 2002 و 2009، أبرمت سوريا وتركيا ما يقرب من 50 اتفاقية تعاون بينهما، وأعلنتا عن إنشاء "المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي" وأجريتا أول مناورات عسكرية مشتركة في تاريخهما. وفي الآونة الأخيرة، وتحديداً في عام 2010، وقعت تركيا وسوريا اتفاقية تاريخية لمكافحة الإرهاب وأتبعتاها منذ شهرين فقط بمعاهدة لمكافحة التمرد. وبحلول عام 2011 كانت تركيا قد أصبحت أكبر شريك تجاري لسوريا.
وقد كانت العلاقات بين البلدين مُبشرة إلى درجة كبيرة بحيث أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو كان قد صرح في عام 2009 بأن الدولتين تشتركان في "مصير وتاريخ ومستقبل مشترك".
وقد تكرر مسار علاقات تركيا الناشئة مع دمشق من خلال صلاتهما المزدهرة مع المنافس الإقليمي السابق وهو طهران مما سهل تطبيق سياسة خارجية تتبع نهج "تفادي المشاكل مع الجيران." وربما ليس من المدهش أن يتزامن تنامي علاقات أنقرة مع هاتين الدولتين الإرهابيتين، مع تبريد العلاقات مع واشنطن وإسرائيل.
تدهور العلاقات
ولكن بعد ذلك وصل "الربيع العربي" إلى سوريا، وعندئذ تدهورت العلاقات بين دمشق وأنقرة بنفس السرعة التي كانت قد تحسنت بها.
وعندما تزايد عدد القتلى من بين المحتجين المدنيين الأبرياء في سوريا، خرجت تركيا عن صمتها إزاء التطورات التي تحدث في جنوب البلاد.
وفي آذار/ مارس، أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه كان "من المستحيل أن نبقى صامتين في وجه هذه الأحداث." وبإشارته إلى أنه كان بالفعل قد تحدث مع الأسد مرتين صرح أردوغان أنه كان يأمل أن يتبنى الأسد "نهجاً إيجابياً وإصلاحياً" لتجنب تكرار "الأحداث المؤلمة" في ليبيا.
ثم في نيسان/ أبريل، أرسلت تركيا وزير خارجيتها داود أوغلو لمقابلة الأسد في دمشق حيث عرض عليه "كل مساعدة ممكنة" لتنفيذ الإصلاحات التي تعهد بها الأسد للمساعدة على تثبيت استقرار سوريا وتأمين النظام.
ولكن كل ذلك لم يُجدِ نفعاً. وأخيراً في أيار/ مايو، صرح أردوغان علناً وقوف تركيا إلى جانب المحتجين الذين وصفهم بأنهم قد انخرطوا في "كفاح من أجل الحرية."
وفي حين أشاد المحتجون السوريون بموقف أردوغان، هاجمت الصحافة الحكومية السورية موقف أنقرة واعتبرته منافقاً و"متسرعاً ومرتجلاً."
ليس من الواضح ما السبب الذي استحث السياسة الخارجية الأخلاقية المفاجئة التي اتخذتها تركيا. وعلى كل حال، في عام 2009، هنَّأ أردوغان علناً الرئيس محمود أحمدي نجاد على إعادة انتخابه المزيف، ولم يعلق على المظاهرات السلمية التي أعقبت تلك الانتخابات.
وعلاوة على ذلك، ففي وجه الفظائع الواضحة، على الأقل في البداية، عارضت أنقرة مهمة منظمة حلف شمال الاطلسي في ليبيا.
وربما كان موقف أردوغان غير المسبوق تجاه سوريا متأثراً بالسياسات الانتخابية (بهدف اثارة عواطف الناخبين الأتراك في الانتخابات البرلمانية الأخيرة).
ويُشير الاستغلال الساخر من قبل أردوغان في قضية أسطول "مافي مرمرة" حول تقديم المساعدة إلى غزة في أيار/مايو 2010، إلى أن هذا النوع من الاستغلال للمشاعر الشعبوية ليس مستبعداً عند «حزب العدالة والتنمية».
أو ربما يكون «حزب العدالة والتنمية» حزباً انتهازياً فقط، بحيث يأمل أن توفر نهاية النظام في دمشق فرصة لكي يصل إلى السلطة نظام ذو تفكير إسلامي مماثل، في بلدهم المجاور.
وبغض النظر عن السبب في تغيير أنقرة لنبرتها تجاه بشار الأسد، إلا أن هذا التطور جديراَ بالترحيب. فمن دون تركيا يكون الأسد في الوقت الراهن أقل حصانة وأكثر عرضة للضغوط الخارجية، كما يكون النظام السوري أقل أمناً. وبالفعل لا تبتعد تركيا فقط عن نظام الأسد بل تتطلع إلى المساعدة على تنظيم من سيخلفه. وفي الأسبوع الماضي، وفي خطوة جريئة واستشرافية للمستقبل، استضافت تركيا مؤتمراً للمعارضة السورية على أراضيها، كان بمثابة تصريح واضح من جانب «حزب العدالة والتنمية» بأنه قد اعتبر بأنه ليس هناك سبيل لإصلاح الأسد. وبجهدٍ قليل وحظ أوفر سوف تحذو واشنطن حذو تركيا في قيادتها لهذا التغيير".
وفي السياق نفسه، يسلط مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن سونر چاغاپتاي، في مقال نشرته "فوين بوليسي"، الضوء على التحول في الموقف التركي ازاء سوريا من منطلق ان "كيفية تعامل تركيا مع الانتفاضات في العالم العربي ستلعب دوراً هاماً في تحديد هويتها الدولية لسنوات قادمة".
ويوضح الكاتب أنه "منذ وصوله إلى السلطة عام 2002، تبنى «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا سياسة "تفادي المشاكل" مع جيرانه حيث حاول حل النزاعات القائمة منذ زمن طويل وركز على أهمية التعاون بدل المواجهة. كما أطلق الحزب عملية تقارب مع سوريا ودول عربية أخرى، مما أدى إلى حدوث تحسن كبير في العلاقات بين سوريا وتركيا في أوائل عام 2003.
كان «حزب العدالة والتنمية» يؤمن أن إقامة علاقات مع الشعوب الإسلامية المجاورة لتركيا سيعطي أنقرة نوعاً من "القوة الناعمة". غير أن هذه الخطة كان فيها خلل كامن: ففي دول غير ديمقراطية كسوريا وليبيا، لم تعزز أنقرة علاقاتها مع الشعوب، وإنما مع الزعماء . لكن في ظل "الربيع العربي" الذي يطيح بالطغاة يميناً ويساراً، فإن على تركيا ألا تأخذ في عين الاعتبار علاقاتها مع الحكام المستبدين فحسب، ولكن أيضاً مع الانتفاضات الشعبية التي تتحدى هؤلاء الحكام. وستكون طريقة تعامل «حزب العدالة والتنمية» مع هذا اللغز قضية حاسمة في تحديد السياسة الخارجية التي ستنتجها الحكومة التركية القادمة.
إن تدليل تركيا لنظام الأسد ليس من منطلق الرفق أو المحبة. ففي عام 2003، كان «حزب العدالة والتنمية» يتطلع إلى توسيع نفوذ تركيا في اتجاه الشرق، وكانت سوريا تتمتع بشعبية في صفوف اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين، وبالتالي كانت تعتبر بوابة منطقية لهذا الغرض. وفي ذلك الحين، كان يبدو أن النظام السوري يحكم قبضته على السلطة داخلياً، لكنه كان يواجه ضغوطاً دولية هائلة بسبب الاشتباه في تورطه في عمليات اغتيال سياسية في لبنان واستضافته لمجموعة «حماس» الفلسطينية المتشددة وسماحه بتسرب المقاتلين الأجانب من أراضيه لمهاجمة القوات الأمريكية في العراق. لقد وفرت تركيا دعماً سياسياً واقتصادياً لنظام الأسد كان في أشد الحاجة إليه، حيث ساعدته على الخروج من عزلته الدولية واستقطاب الاستثمارات الأجنبية التي كان في أمس الحاجة إليها؛ وهو ما لم يستطع تحقيقه تحالف سوريا مع إيران القائم منذ فترة طويلة.
وقد تجسد احتشاد المصالح هذا بصورة رسمية من خلال زيارة الأسد لتركيا في كانون الثاني/يناير 2004، والتي تعتبر أول زيارة قام بها رئيس سوري إلى تركيا، وتوقيع معاهدة شراكة استراتيجية بين البلدين في وقت لاحق من ذلك العام. وفي النهاية شملت المعاهدة ما يقرب من 50 اتفاق ثنائي، كما تم إلغاء الحواجز التجارية والقيود المفروضة على تأشيرات الدخول بين البلدين. وفي نيسان/أبريل 2009، أجرى البلدان مناورات عسكرية غير مسبوقة دامت ثلاثة أيام وأبرما معاهدة تعاون دفاعي. وفي المقابل، دعمت سوريا طموحات تركيا الإقليمية بتكليف أنقرة في عام 2008 بلعب دور الوسيط الرئيسي في مفاوضاتها غير المباشرة مع إسرائيل، وهو دور طالما سعت إليه فرنسا وجهات أخرى. كما لم تعارض سوريا على لعب تركيا دوراً أكبر في الشؤون اللبنانية والفلسطينية.
لكن الانتفاضة السورية الحالية أوقفت هذه الشراكة الاستراتيجية وكانت بمثابة ضربة مدوية لها. كما كان على تركيا أن تتعامل مع احتمال استمرار الفوضى في شمال غرب سوريا الذي من شأنه أن يفتح المجال أمام المتشددين الأكراد باستخدام المنطقة كقاعدة لشن عمليات ضدها. ولا تشكل هذه التطورات تهديداً أمنياً كبيراً عبر الحدود التركية فحسب، بل قد تضر بموقف «حزب العدالة والتنمية» في الداخل قبل الانتخابات العامة.
وتعكس محاولة تركيا الأخيرة لتنظيم المعارضة رغبة جلية في أن تصبح وسيطاً قوياً في سياسة سوريا الداخلية والمشرق الأوسع على حد سواء. ولا يزال احتمال سقوط الأسد أو حفاظه على عرشه غير واضحاً. وفي كلتا الحالتين، تريد تركيا أن تلعب دوراً جوهرياً.
تتمتع تركيا، على عكس الولايات المتحدة وأوروبا وقوى إقليمية أخرى، بنفوذ كبير مع سوريا وهي في موقف فريد من نوعه يسمح لها العمل على هندسة "هبوط ناعم" للانتفاضة الحالية. وتستطيع تركيا استخدام نفوذها الاقتصادي والعسكري، وحتى تحكمها في مصادر المياه، إذا أصبح إصرار الأسد على البقاء في السلطة يهدد أمن تركيا والمنطقة. ومع ذلك، فلحد الآن، يبدو أن «حزب العدالة والتنمية» قد وجد طريقة للإبقاء على سياسة "تفادي المشاكل" التي يتبعها مع جيرانه، ألا وهي التعامل مع الحكام والانتفاضات الشعبية على حد سواء، مع التركيز على اختيار الجهة الرابحة.
وإذا لعب «حزب العدالة والتنمية» بطاقاته بشكل صحيح، فإن "الربيع العربي" قد يعطي أخيراً لتركيا تلك القوة الناعمة التي تتطلع إليها في العالم العربي. غير أن الموازنة الصعبة التي تطبقها تركيا بين الشعوب والحكام قد تأتي بنتيجة عكسية إذا كانت علاقاتها مع الطغاة المكروهين لا تواكب تطلعات الشعوب العربية التي بدأت مؤخراً تتحكم فعلاَ في مصيرها.
يقول مثل تركي شهير، في إشارة طريفة إلى مدينة دمياط المصرية، "قد يخسر المرء أرزه وهو يحاول الاستيلاء على دمياط". أو بعبارة أخرى، قد تخسر تركيا العرب كلهم، شعوباً وحكاماً، إذا راهنت على الحصان الخاسر".