ارشيف من :خاص
العراق: لا يريد الأميركيون التمديد... بل البقاء!
من بين القضايا الاكثر اثارة وجدلا خلال هذه الفترة في المحافل السياسية ووسائل الاعلام والاوساط الشعبية العراقية هي انسحاب القوات الاميركية من البلاد في نهاية العام الجاري بصورة نهائية وفقا للاتفاقية المبرمة بين بغداد وواشنطن أواخر عام 2008.
طبيعة السجال والجدل والنقاش توحي بأمور عدة لعل من بينها ان هناك غموضا في مواقف معظم الكتل والقوى السياسية العراقية إزاء استمرار وجود القوات الاميركية أو رحيلها بعد ستة شهور، وان ما يطرح في العلن من مواقف وتوجهات ومعطيات يختلف الى حد كبير عما يطرح خلف الكواليس والابواب المغلقة، وكذلك يشير الى وجود ضغوط اميركية وغير اميركية كبيرة على الاطراف والشخصيات السياسية العراقية التي يتوقع انها يمكن ان تبدي معارضة شديدة وتتبنى مواقف متصلبة ازاء قضية تمديد بقاء القوات الاميركية بعد نهاية هذا العام.
وتتفق جميع القوى السياسية العراقية ـ ومعها واشنطن ـ على ان هذه القضية يكتنفها قدر كبير من التعقيد والصعوبة، وخصوصا اذا اريد ابرام اتفاقية امنية جديدة غير الاتفاقية الحالية، لان ذلك يتطلب صياغة توافقات بين العراقيين، ومثل هذه التوافقات تتطلب أجواءً ومناخات سياسية هادئة ومستقرة، وهذا ما هو مفقود بصورة تامة او شبه تامة في هذه المرحلة ارتباطا بجملة من القضايا الخلافية المحورية بين الفرقاء الرئيسيين، وبالتحديد القائمة العراقية وائتلاف دولة القانون، ويتطلب ابرام اتفاقية جديدة وقتا أطول من المهلة المتبقية أمام واشنطن حتى نهاية العام الجاري، ناهيك عن تعقيدات وصعوبات فنية وسياسية تتعلق بالادارة الاميركية حصرا، وآليات اتخاذ القرارات الاستراتجية في داخل مراكز القرار بواشنطن.
والنقطة الاخرى التي ينبغي الالتفات اليها هي أن الادارة الاميركية حتى لو قررت إنهاء وجودها العسكري في العراق بالكامل نهاية هذا العام، فإن ستة أشهر لن تكون كافية بالنسبة لها لتحقيق انسحاب آمن وسلس من دون مواجهة مخاطر أمنية حقيقية.
ويبدو ان واشنطن تنبهت الى كل تلك المصاعب والعراقيل والتعقيدات منذ وقت مبكر، لا سيما انها لم تفكر في أي وقت من الاوقات بطي ملف وجودها العسكري بالعراق وإغلاقه بالكامل لاعتبارات وحسابات عديدة أغلبها استراتيجية، ثم جاءت الانتفاضات والثورات العربية لتضيف اليها ابعادا اخرى.
وبما ان استمرار البقاء امر مفروغ ولا بد منه، وبما ان ابرام اتفاقية امنية جديدة امر مستبعد جدا، ان لم يكن مستحيلا خلال الشهور القلائل المقبلة، فلا بد من مخرج مناسب لذلك.
والمخرج الذي توصلت اليه واشنطن هو توقيع بروتوكول امني مع الحكومة العراقية لا يحتاج لعرضه لا على مجلس النواب العراقي ولا على الكونغرس الاميركي.
وتؤكد مصادر مطلعة انه وقبل حوالى شهرين دخلت واشنطن في مباحثات جادة ومعمقة مع بغداد بهذا الشأن، وتم صياغة البروتوكول المطلوب بالاستناد الى البند العاشر من اتفاقية الاطار الاستراتيجي التي ابرمت بين بغداد وواشنطن مع الاتفاقية الامنية نهاية العام 2008. حيث يتيح هذا البند اقامة تعاون ثقافي واقتصادي وامني بين الطرفين.
وقد ثبت في البروتوكول المشار اليه إقامة تسع قواعد عسكرية اميركية في العراق وعلى مساحة مقدارها 700 دونم (الدونم يساوي 1000 متر مربع)، وحدد المفاوضون الاميركيون، وهم عسكريون وامنيون وسياسيون، مواقع القواعد التسع بقاعدتين في محافظة البصرة جنوب البلاد، والتي تعد من مدن العراق الغنية بالنفط، وقاعدتين في الموصل شمال البلاد، وثلاث قواعد في بغداد، وواحدة في كركوك، واخرى في اربيل.
وبحسب الرؤية الاميركية يفترض ان تكون تلك القواعد بالقرب من المطارات، وبالقرب من الممثليات الدبلوماسية الاميركية (القنصليات) والمكاتب الفرعية التابعة للسفارة الاميركية في تلك المحافظات.
وقد قوبلت هذه الاطروحات التي تضمنها البروتوكول المقترح بردود افعال حادة ورافضة من قبل الجهات السياسية العراقية التي عرضت عليها بصورة مباشرة او غير مباشرة، حتى ان البعض منها هدد بكشف الحقائق لوسائل الاعلام والرأي العام، وبالفعل حصل شيء من هذا القبيل، بينما عرضت جهات اخرى جملة اشكاليات ومعوقات فنية امام تنفيذ ذلك البروتوكول، من بينها ان اقامة قواعد عسكرية تتطلب موافقات من وزارات ومؤسسات حكومية مختصة لضمان عدم احتواء المساحات المزمع الاستفادة منها لهذا الغرض على آثار وثروات طبيعية ومعدنية، وعدم مرور شبكات الماء والصرف الصحي وخطوط الكهرباء والانابيب الناقلة للنفط فيها، وان لا تكون مأهولة بالسكان بأعداد كبيرة يصعب نقلهم واجلاؤهم الى اماكن اخرى.
وعلى ذلك اخذت النقاشات منحى اخر، انتهى الى الاتفاق على تعديل البروتوكول المطروح، بحيث يتضمن موافقة الحكومة العراقية على فتح سبع عشرة قنصلية وممثلية اميركية في عدد من محافظات العراق، وعلى ضوء ذلك تحدد مواقع ومساحات تلك القنصليات والممثليات، واعداد العناصر العسكرية والامنية التي يتطلب ان تتولى حمايتها، ولأن رقم الـ (700 دونم) اثار حفيظة من اطلعوا على مسودة البروتوكول، فقد تم ـ بحسب التسريبات ـ الاتفاق على رفعه من الصيغة الجديدة للبروتوكول.
وهذا يعني بقاء التصورات والاطروحات الاميركية على حالها من دون تغيير، والاكتفاء بتبديل المسميات والعبارات حتى تكون مقبولة بقدر معين للمتلقي، فبدلا من المطالبة بتمديد بقاء القوات وفق اتفاقية امنية، يصار الى ابرام بروتوكول يضمن بقاء القوات الاميركية ليس بعنوان وجود عسكري صرف، وانما تحت غطاء حماية البعثات والممثليات والمكاتب الدبلوماسية، وعلى مساحات كبيرة، وفي مواقع استراتيجية وحساسة من الناحية الامنية، ولتكون تلك المواقع في نهاية المطاف قواعد عسكرية دائمة حالها حال القواعد العسكرية الاميركية الموجودة في المانيا واليابان وكوريا الجنوبية ودول اخرى منذ اكثر ستين عاما.
وما يشجع واشنطن على المضي في هذا الاتجاه هو ان هناك جهات سياسية عراقية تعلن رفضها لاستمرار الوجود العسكري الاميركي في العراق، بيد انها تؤكد للاميركيين خلال اللقاءات الخاصة، بأنها ترغب بوجود عسكري اميركي على غرار الوجود العسكري في المانيا واليابان وكوريا، باعتباره يمثل اساسا ومدخلا للنهوض الاقتصادي والاستقرار السياسي والرفاه الاجتماعي للعراق. في ذات الوقت تحذر جهات اخرى من مخاطر أي وجود عسكري اجنبي دائم في العراق، وتشير الى ان تلك المخاطر ذات طابع سياسي وامني واقتصادي وثقافي، وان الوجود العسكري الاجنبي سيكون بمثابة الغام قابلة للانفجار في أي وقت.
أضف إلى ذلك فإن السفارة الاميركية الجديدة في العراق التي تم إنشاؤها على ضفاف نهر دجلة داخل المنطقة الدولية الخضراء وعلى مساحة تفوق مساحة دولة الفاتيكان وبتكاليف مالية باهظة جدا، تثير جدلا ولغطا واسعا في اوساط سياسية وشعبية عراقية عديدة، ارتباطا بمساحتها وعدد العاملين فيها الذين يقدر عددهم بستة عشر الف شخص، قسم قليل منهم من الموظفين الدبلوماسيين التابعين لوزارة الخارجية، والقسم الاكبر ينتسبون الى وزارات ودوائر اخرى ابرزها وكالة المخابرات المركزية الاميركية إلى جانب وزارات الخزانة والعمل والدفاع والامن الداخلي والاستخبارات الوطنية والتجارة.
وفي وقت سابق اعتبر الدبلوماسي في الخارجية الاميركية لورانس ايغلبريغر، ان العدد الكبير من العاملين لا يساعد على سهولة العمل، ويرى ان هذا العدد الضخم من العاملين في السفارة غير مفيد. ويؤكد انه من واقع خبرته الطويلة في العمل في وزارة الخارجية الاميركية، يرى انه من الصعوبة بمكان إدارة سفارة بهذا الحجم.
ويعتقد بعض المراقبين ان طموحات واشنطن وخططها الاستراتيجية بالبقاء لفترات طويلة بالعراق جعلتها تقوم بإنشاء أكبر سفارة لها في العالم، بل أكبر سفارة على الاطلاق، حتى تضمن من خلالها التحرك على أكبر مساحة من الارض، والامتداد والتغلغل إلى كل مفاصل الدولة والمجتمع العراقي، بل وأوسع من ذلك تكون بمثابة غرفة عمليات رئيسية ومنطلقا لمشاريع وخطط وتحركات أبعد من الجغرافيا العراقية.