ارشيف من :ترجمات ودراسات
ماذا تريد واشنطن من الثورات العربية؟
محمد الحسيني
كلما يمرّ يوم في عمر الثورات العربية كلما يكثر الحديث وتتزاحم التوقّعات عن تداعيات ما يمكن أن يحصل في اليوم التالي، وكلما تتوالى التحليلات السياسية والسيناريوهات الدراماتيكية التي ترسم تفاصيل الخارطة الجيو سياسية للمنطقة، ومنها ما يكون مدعوماً بمعلومات، ومنها ما يكون مشفوعاً بنظرية استرجاع دائرة الزمن، بحيث يُعاد وصل الحاضر بالمستقبل الذي بدوره يبتنى على تجارب الشعوب والأمم في التاريخ القديم والجديد.
ولئن كانت كل "ثورة" تحمل ميزاتها الخاصة وظروفها التي فرضت نفسها على المجريات الميدانية في الداخل والخارج. إلا أنه وفي كل الأحوال، تبرز ثلاث وجهات محورية في الحديث عن المنظور الأميركي لما يجري في المنطقة بدءاً من ثورة تونس غرباً إلى ثورة البحرين شرقاً مروراً بزوابع صحراءي ليبيا ومصر واختلاط الأوراق في اليمن وعمليات التخريب الداخلي في سوريا، وإن ارتدت ثوب ما يقال إنه "ثورة" صادرت هوية المنتفضين على أنظمة كامب دايفيد واستعارت نداءات الناس وشعار تغيير النظام.
محور دول الاعتدال
الوجهة الأولى في المنظور الأميركي تبرز من خلال رصد محور لا يمكن إغفاله، وتراهن واشنطن عليه في تظهير أهدافها وحصد ثمار سياساتها في المنطقة عاجلاً أم آجلاً، ويتمثّل في محور ما يسمّى "دول الاعتدال العربي" الذي يضم إلى جانب السعودية كلاً من قطر والإمارات العربية والكويت والأردن، وما بقي من الدول العربية فهو إما محور يأخذ شكل الحياد أو ليس هناك من دور يلعبه سوى التحسّر على عجزه.
ويرتكز دور هذا المحور في إسباغ "الشرعية العربية" على مخطط التقسيم الأميركي للمنطقة، والذي يهدف في الدرجة الأولى إلى عدم قيام كيان عربي أو إسلامي مستقل يمكن أن يمتلك قوى من شأنه الإخلال بالتوازن الاستراتيجي مع "إسرائيل"، ولكنه يحافظ في الوقت نفسه على نفوذ الإمارات والممالك والسلطنات الخليجية، وبالتالي القضاء على كل عنصر يمكن أن يسهم في تشكيل إطار عربي جامع، وأبرز نتائج هذا المسعى تشكيل ما يسمى "مجلس التعاون الخليجي" وتهشيم حضور وفعالية جامعة الدول العربية، وما تلا ذلك من تشكيل لما يسمى الاتحاد الإفريقي، فضلاً عن سعي دول الخليج إلى توسيع عضوية مجلسها باتجاه الأردن والمغرب!!
غزل الأخوان والقاعدة
أما الوجهة الثانية في المنظور الأميركي فتكمن في السعي للاستفادة من الوقائع التي فرضت نفسها من دون أن تكون موجّهة من قبل دوائر التخطيط وأجهزة الاستخبارات الأميركية، ولا سيما في تونس وليبيا ومصر، ومحاولتها تجيير الحراك الشعبي بعد سقوط حلفائها القدامى في المنطقة باتجاه إعادة قرار هذه الدول إلى حظيرتها، وهو ما أشارت إليه صحيفة "الجارديان" البريطانية التي شبّهت مسعى واشنطن الجديد بما سبق أن مارسته إبّان الثورات التي اندلعت في أوروبا الشرقية وانتهت بفرض السيطرة الأمريكية عليها. ولا يمنع لتحقيق هذا الهدف من إسقاط بعض "المحرّمات" في القاموس السياسي الأميركي، من قبيل التقرب إلى الإسلاميين (الأخوان المسلمون وتنظيم القاعدة) الذين كانت تصنفّهم واشنطن حتى الأمس القريب في خانة الأعداء.
وعلى الرغم من الغزل الأميركي المستجد للإسلاميين الذين ينأون بأنفسهم اليوم عن الخوض في بحث مصير الاتفاقات العربية مع "إسرائيل"، ولكن لا بد من عدم الركون إلى هذا التعديل في الأهداف الأميركية، فواشنطن التي ارتبكت من التسارع الكبير في حركة سقوط الأنظمة الديكتاتورية لن تسمح بأي حال من الأحوال بتقوية هؤلاء الإسلاميين، الذين يمتلكون قواعد لهم لا يستهان بها في كل الأقطار العربية، إلى درجة تشكيل محور قوي يستطيع في ظرف معيّن أن يفرض وجوده السياسي ويقيم حكومته المستقلة على بعد رمية حجر من "إسرائيل". وبالتالي تسعى واشنطن لاحتواء القوى السياسية الكبرى وتهميش فعالية الحراك الشعبي باتجاه "تفريخ" أنظمة بديلة عن الديكتاتوريات في المنطقة وصوغ أنظمة مدجّنة بحلّة جديدة منسجمة عملياً مع سياساتها.
سوريا وإيران.. ولبنان الاستثناء
وتبقى الوجهة الثالثة التي تأخذ حيّزاً مهماً في المنظور الأميركي وتتمثل بموقفها من "الثورات" التي لا تشبه في نسيجها الثورات الأخرى، وأولها في سوريا التي بقيت دوماً تغرّد خارج السرب الغربي، بل سارت ولا تزال بعكس التيار ولا سيما لجهة دعم المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، ولذا عملت واشنطن على استغلال أجواء الزخم الشعبي وتحويله إلى قوة ضغط لإرباك النظام في سوريا كمقدمة لإضعافه وفرض شروطها عليه كمرحلة أولى، وجرّه إلى طاولة المفاوضات وتوقيع اتفاق تسوية مع "إسرائيل" بدون أوراق قوة، وفي حال الاستمرار بالممانعة العمل على إسقاط هذا النظام أو تحويله إلى لاعب محلي منشغل عن "إسرائيل" بقضاياه الداخلية في أحسن الأحوال، وبالتالي إلغائه كرقم صعب من المعادلة الدولية.
أما الثورة الأخرى فهي في البحرين التي يعترف بأحقيتها كل العالم الغربي باستثناء دول الخليج والولايات المتحدة، في وقت يشيح باقي العرب النظر والسمع عنها. وعملت واشنطن على ربط قضية هذا البلد بشكل وبآخر بالمعادلة الإيرانية – الخليجية، وبالنزاع الشيعي – السني، وليس هناك أفضل من السعودية كطرف لقيادة هذا التوجّه، ولتبرير ازدواجية المعايير في التعاطي "الديمقراطي" الأميركي مع المطالبات الشعبية هناك.
ولا حاجة لكثير تفكير في مقابلة الموقف الأميركي المتناقض في كل من سوريا والبحرين، ففي الأولى تدعم واشنطن العصابات التخريبية التي تركّز تحركاتها على الحدود مع كل من الأردن وتركيا والعراق من جهة، وفي الثانية تدعم النظام الحاكم في البحرين ضد إرادة شعبه المطالب بحق مسلوب وعهد منقوض، لأن الأمر يعني دولتين خرجتا عن الطاعة الأميركية وتدعمان المقاومة وتتجرآن على إعلان معاداتهما لإسرائيل. وعلى الرغم من كل شيء يبدو أن المرامي الأميركية لن تصل إلى نهاياتها "السعيدة"، ويبقى لبنان الاستثناء.