ارشيف من :آراء وتحليلات
فاجأت كثيرين وصدمت آخرين: حكومة التنازلات الاستثنائية
جاءت ولادة الحكومة مباغتة ومفاجئة وصادمة لكثيرين في الوسطين الاعلامي والسياسي، فإلى ما قبل يوم واحد كانت مجمل القراءات والتوقعات الاعلامية والسياسية ترى أن مسار التأليف لا يكاد يغادر عقدة حتى يصطدم بعقدة أخرى على الصعيد الداخلي، وهو أيضاً ليس في وضع مريح بالمطلق على صعيد الضغوط والظروف الاقليمية والدولية المحيطة به، أضف الى ذلك أن تمنيات فريق لبناني ومساعيه كانت تركز على فعل كل ما يمكن لمنع كتابة نهاية سعيدة لهذا المسار، من هنا، كان طبيعياً أن يكون لولادة الحكومة وقع المباغتة والمفاجأة والصدمة أيضاً، ولعل ما زاد من وطأة هذا كله الطريقة التي تم من خلالها تذليل ما تبقى من عقد، حيث شكلت بحد ذاتها مفاجأة ـ صادمة بكل ما في الكلمة من معنى لأنها جاءت من خارج ما هو متوقع، من خارج كل المألوف السياسي اللبناني الذي اعتاد تغليب ما هو خاص على كل ما هو عام.
كل ما تقدم أكسب الحكومة الجديدة دلالات ومعاني استثنائية، كما أملى ردود فعل سريعة ومنفعلة خصوصاً من قبل المتضررين والمصدومين، ومن دون أن يغيّب الأسئلة المنطقية حول الأسباب الموجبة التي دفعت كل المعنيين بالتأليف الى اجتراح حلول خاصة وابداعية للخروج من حال المراوحة، ولعل أبرز ما يمكن قوله هنا هو التالي:
أولاً: ليست خطأ مطلقاً التقديرات التي كانت تعتبر أن عملية التأليف ما زال أمامها وقت، لأن ما تبقى من عقدٍ لم يكن من النوع السهل، والدليل على ذلك أمران: الأول، أن الرئيس المكلف كان قد حسم أمره كما يبدو للانقلاب على ما اتفق عليه لجهة أن تكون ثلاثينية، والعودة الى صيغة الـ 24 وزيراً التي يفضلها، وذلك مهما كلف من تداعيات ونتائج، والثاني، ان تثبيت ما اتفق عليه، وحل ما تبقى من عقد اقتضى تنازلات غير مسبوقة في تاريخ تشكيل الحكومات.
ثانياً: هذا التنازل ـ التضحية دشن مرحلة جديدة في تاريخ تأليف الحكومات في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، بل ولعقود قبل هذا الاتفاق، حيث جرى من خلاله تجاوز العرف القائم بتوزيع الحصص الوزارية بالتساوي بين الموارنة والسنة والشيعة.
شكل هذا التنازل تضحية من قبل الرئيس بري تحتسب له، وهو عكس مجموعة دلالات مهمة أبرزها:
أ ـ إظهار حرص استثنائي على نجاح الأكثرية الجديدة في تأليف الحكومة، وبما يؤكد تضامنها، مهما اقتضى ذلك من تضحيات.
ب ـ ان تأليف الحكومة لم يعد من الممكن التهاون به، أو التعاطي معه كلعبة ترف سياسي، ولا سيما أن الوقت أخذ يلتهم من رصيد الجميع.
ج ـ التأشير على ضرورة خوض هذه التجربة الحكومية الجديدة، واظهار الاستعداد لبذل كل ما يمكن لنجاحها.
د ـ بعث برسالة الى كل من يهمه الأمر بأن لا شيء يقف دون انجاز المصالح العامة للوطن وللبنانيين.
هـ ـ الارتفاع بالعمل السياسي الى مصاف العمل الاخلاقي لجهة تأكيد الوفاء بالتعهدات والالتزامات للحلفاء والأصدقاء معاً.
و ـ الرد على الموتورين والذين لا همّ لهم إلا التجييش المذهبي متوسلين بذلك الكذب والافتراء، خصوصاً أولئك المروجين لفتنة أن الشيعة يريدون أن ينالوا من موقع السنة، وأنهم يعملون على الإطاحة بمبدأ المناصفة لمصلحة مبدأ المثالثة.
ثالثاً: وجه تشكيل الحكومة ضربة اضافية للمشروع الاميركي ـ الاسرائيلي في لبنان وفي مسار المواجهة المفتوحة معه على أكثر من صعيد وموقع وعنوان، ولا سيما أن أدوات هذا المشروع وضعت كل رهانها على أن الأكثرية الجديدة أعجز من أن تؤلف الحكومة، وأن فرص عودتها الى السلطة ما زالت قائمة، وأن المسألة هي مسألة وقت، ومرتبطة بتبدل بعض الظروف في المنطقة لا سيما في سوريا.
رابعاً: ان تأليف الحكومة على صعوبته شيء، وتقديم تجربة جديدة في الممارسة والأداء شيء آخر، فالأكثرية الجديدة أمام امتحان صعب حيث يتوقع كثيرون منها تقديم نموذج رائد من جهة، كما ان الظروف التي ستصل بها الحكومة متشابكة ومعقدة الى أقصى الحدود من جهة أخرى، أضف الى ذلك أن خصومها سيتربصون بها الدوائر، وسيكمنون لها عند كل مفترق من أجل استنزافها ومنعها من أن تنتج كما يجب، بكلمة واحدة، ان الحكومة الجديدة لا تملك إلا أن تنجح، وأمامها الكثير لكي تفعله، وسط تقلبات خطيرة، وتحديات أخطر.
خامساً: ان ردود الفعل المتسرعة من قبل أدوات المشروع الاميركي في لبنان تكشف عن:
أ ـ مدى وقع الصدمة عليهم، حيث إن ما جرى جاء خارج كل قراءاتهم وحساباتهم.
ب ـ مدى الهواجس التي تتملكهم بما يمكن أن ينتظرهم من انكشاف لحجم الفساد المستشري الذي انتجته تجربتهم في السلطة على مدى عقدين ونيّف من الزمن.
ج ـ حجم الشعور بمرارة الخسارة مرة أخرى، وهي خسارة تضاف الى مجمل خسارتهم السابقة.
د ـ شعورهم بأن تأليف الحكومة مثّل رسالة واضحة بمعنيين: الأول، ان الأكثرية الجديدة ما زالت تحتفظ بزمام المبادرة، والثاني، ان دمشق ما زالت قوية، وهي لم تخرج مهزومة أو ضعيفة كما راهنوا وتمنوا ليحصدوا ثمرة ذلك لبنانياً.
هـ ـ استعجالهم في شن هجوم وقائي لحماية ما يعتبرونه مكتسبات خاصة، ونفوذ خاص لمشروعهم المتأمرك داخل مفاصل السلطة واداراتها المتنوعة، اضافة الى حماية مداميكه الخارجية وفي طليعتها المحكمة الخاصة بالتزوير والتسييس.
سادساً: ان ردود الفعل الدولية التي جاء بعضها مرحباً وبعضها الآخر متحفظاً، والبعض الثالث رابطاً موقفه الأخير بما سيقوله البيان الوزاري للحكومة كما هو حال الموقف الاميركي، يعكس نوعاً من التخبط الناشئ بدوره من عامل المفاجأة، ونوعاً من التفاوت في الحسابات، إلا أن اللافت هنا هو ادخال واشنطن شرطاً جديداً الى لائحة شروطه الخاصة بموقفه من الحكومة، فبعدما دأبت في الفترة السابقة على ربط موقفها بالكيفية التي ستتعامل معها الحكومة مع كل من القرارات الدولية والمحكمة الخاصة بلبنان، فها هي تعلق موقفها بما أسمته الثأرية من الادارات، وطبعاً هي تعزف على لحن ادواتها في لبنان، وتدعم هجومهم الوقائي، لحماية أدواتها في المفاصل الهامة داخل السلطة واداراتها العامة لا سيما الأمنية منها، وهذا ما يعتبر بحق تدخلاً سافراً في شأن داخلي خاص بكل ما في الكلمة من معنى.
سابعاً: يمكن القول بحق إن هذه الحكومة بتركيبتها التي رست عليها جاءت أفضل الممكن، وإن لم تُرضِ الجميع، وبالتالي، يصبح مفهوماً بعض المواقف التي صدرت عن هذا الطرف أو ذاك.
ولا شك أيضاً، أن خروج الجميع فائزاً وإن بتفاوت يعود الى حجم وموقع ودور كل طرف في المعادلة الداخلية والاقليمية معاً، إلا أن هذا الفوز يبقى فوزاً نسبياً ما لم يجيّر ليصبح فوزاً عاماً ووطنياً، وهذا يعود بالفائدة الكبيرة على الجميع.
ثامناً: لم تخلُ الحكومة الجديدة من رائحة الانتخابات النيابية المقبلة، فهي تحمل في داخلها الأساسات الممكنة للوحة شاملة من التحالفات، التي تبقى مرهونة بطبيعة الظروف وما سيؤول اليه قانون الانتخابات المرتقبة.
لقد ذهبت سكرة التأليف لتبدأ فكرة العمل، بليغاً كان شعار رئيس الحكومة ميقاتي: "كلنا للعمل.. كلنا للوطن".