ارشيف من :ترجمات ودراسات
سوريا: الخروج من عنق الزجاجة
"الخائفون لا يصنعون الحرية والمترددون لن تقوى أياديهم المرتعشة على البناء " ـ جمال عبد الناصر
فتح الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير نافذة كبيرة نحو المستقبل. بدا تهيبه للحدث الجلل الذي اصاب سوريا واضحاً بدءا من رمزية ربطة عنقه السوداء، وحتى اللهجة الواضحة في التوصيف والتحليل، والرؤية. كأي رجل دولة بكل ما للكلمة من معنى.
لعل من أبرز مزايا كلمته إدراكه التفصيلي لكل الأسباب التي دفعت الى الاحتجاج. إدراكاً لامس تفاصيل مشاعر المواطنين الذين حاورهم. منهم من تظاهر، ومنهم من "لم يخرج للتظاهر" كما وصف. قضايا جوهرية تنبثق عن عنوان واحد كما جاء على لسان الرئيس الأسد: "الفساد، والكرامة، والهم المعيشي".
لا شك في أنه كان خطاباً متماسكاً في كل عناصره، وأفكاره، خلافاً لما زعمه المكابرون، او الموتورون.
ولا شك أيضاً وايضاً في أنه كان متقدماً بأشواطٍ كثيرة جداً عن الخطاب الرسمي المألوف منذ بداية الأزمة. والذي كان ينطلق دائماً من "نظرية المؤامرة!" في تقديم كل ما يحدث، أو تفسيره.
والحقيقة هي كما أشار اليها الرئيس الأسد بغير مواربة. وهي أن المؤامرة ليست طارئة على تاريخ سوريا "قبل الإستقلال وبعده". أمر طبيعي ألفه السوريون ويعود الى الموقع الجيو سياسي لبلدهم الذي احياناً تتضاعف أهميته كلما أصبح ملهماً للحركات القومية.
اما حقيقة "المؤامرة" فهي بالضبط كما وصفها الرئيس الأسد انطلاقاً من خلفيته الطبية: "كالجراثيم تتكاثر في كل لحظة وفي كل مكان". والعبرة تكمن في "تقوية المناعة". وهذا وحده إشارة الى ضرورة إيجاد شبكة دفاع حقيقية، وبمفهوم عصري. بدءاً من محاربة الفساد، وتحصين المجتمع بالكفاية والعدل، وليس انتهاءً بتحديث الأجهزة الأمنية لمواكبة عصر الاتصالات والمعلومات.
لكي تكتمل الصورة أكثر لا بد من ملاقاة ما سبق مع ما ذكره الرئيس الأسد من تشخيصٍ لـ "مكوّنات" الحراك الذي شهدته سوريا. حيث قال بلا لبسٍ: "المخربون مجموعة قليلة"، فيما المكون الأساسي هم من أصحاب المطالب والاحتياجات. اي بمعنى آخر هم طلاب الإصلاح الحقيقيون.
لقد اصبحنا الآن أمام "ساعة الحقيقة" التي تستدعي المكاشفة، وطرح الحقائق كما هي لنجيب عن الأسئلة. وهي كما طرحها الرئيس في خطابه: من يشارك بالحوار؟... وماهي المعايير؟
قد يكون من الواقع أن "القسم الأكبر" من دعاة الإصلاح لم يخرجوا للتظاهر. لكن هذا لن يلغي حقيقة ان من خرج كان يمثل هذا القسم الذي لم يخرج. وبالتالي فإنه يستمد شرعيته من هذا التمثيل بمعنىً من المعاني. هذا جانب. والجانب الآخر ان من خرج من الشباب اثبت أنه قد أطّر نفسه في أشكال شبه تنظيمية على الأقل. فيما يعرف: بـ "التنسيقيات"، وان هذه الأخيرة استطاعت ان تحرك الشارع في أكثر من مكان. بصرف النظر عن الآراء المتضاربة في تقديرات الحجوم.
لكن تظل الحقيقة التي لا مفر منها ان وراء زبد الشعارات تيارا عميقا من جيل الشباب المنتمي الى القرن الحالي. ومن هنا ينبغي التمييز بين الشخصيات المعارضة المعروفة والحالة الناشئة التي أوجدها هذا الجيل من الشباب.
الشخصيات المعارضة من متثقفين وكتّاب ـ مع كل التقدير لهم ـ ليسوا هم الحالة. ربما كانوا في مرحلة على اعتابها، او خلفها. لكن كل المؤشرات تجزم بوجود قيادات ميدانية شابة لما يشهده الشارع. الامر الذي يطرح محاورتها كضرورة قصوى. هذا كي لا نفقد البوصلة، ونحن نعي جميعاً بأن السياسة هي "صناعة المستقبل".
ان بقاء الأمور على هذا النحو سيبقي الجميع في عنق الزجاجة. ومن مكان آخر سيقلص دور المكون الأساسي لما "يحصل في الشارع السوري" لمصلحة المكونين الثاني والثالث. أي بحسب وصف الرئيس الأسد: "الخارجون عن القانون والمطلوبون للعدالة". و"أصحاب الفكر المتطرف والتكفيري". هذان المكونان سيتقدمان مع يأس المكون الأول كبديل. وبوصفهما (الذراع العسكرية للمعارضة)!. وهذا بحد ذاته قد يكون مطلوباً من قوى اقليمية ودولية لإدخال سوريا في دوامة استنزاف طويل.
وعند هذا الحد سيصبح الحوار مستحيلاً... حوارٌ حقيقي كالذي نتطلع إليه ـ (وطالبنا به في مقالتنا السابقة) ـ وصولاً الى "ميثاق عمل وطني" يحدد اساسيات الداخل، والخيارات الإستراتيجية امام تحديات الخارج: الموقف من العدو الإسرائيلي . المقاومات في وجهه. والحق الفلسطيني.
إنّ فشل أي حوار ـ وهو ما يشتهيه الغرب وبعض (أصدقائه)من العرب ـ سيجعل مما يسمى: (معارضة الخارج) ـ المفروزة على أسس غير مبدئية، غير وطنية ـ تتصدر الواجهة لتكون (الذراع السياسية!) للمطالبة بـ (الإصلاح!). وهنا الطامة الكبرى!!