ارشيف من :ترجمات ودراسات

دول أوروبا المقسمة

دول أوروبا المقسمة
بقلم ماركو بابيك
Strategic Forecasting
28 حزيران، 2011

تستمر الأزمة الاقتصادية بابتلاع أوروبا. فالتركيز العالمي يعود أدراجه الى أثينا في 28 حزيران/يونيو في الوقت الذي يناقش فيه البرلمانيون اليونانيون اجراءات التقشف المفروضة عليهم من قبل شركائهم في منطقة اليورو. فاذا لم يصوت اليونانيون لمصلحة هذه الاجراءات، فلن تنال أثينا كفالتها المالية الثانية، ما يمكن أن يؤدي الى خلق أزمة أسوأ في أوروبا والعالم.

من المهم الفهم أن الأزمة لا تتعلق بشكل أساسي باليونان أو حتى بمديونية كل الكتلة النقدية. فبعد كل شيء، تمثل اليونان 2.5 بالمئة فقط من الناتج المحلي الاجمالي لمنطقة اليورو (GDP)، والأرقام المالية للكتلة ليست بتلك السوء عندما يُنظر الى المجموع. اذ إن أرقام العجز والمديونية هي في الشكل أفضل من تلك التي للولايات المتحدة الأميركية ـ توقف عجز الموازنة الأميركية عند 10.6 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2010، مقارنة مع 6.4 بالمائة بالنسبة للاتحاد الأوروبي ـ ومع ذلك يظل التركيز على أوروبا، ذلك أن الأزمة الحقيقية، والسؤال الأكثر جوهرية، هو حول كيفية حكم القارة الأوروبية في القرن الـ 21.

لقد برزت أوروبا خارجة من ذل التبعية خلال الحرب الباردة، عندما كانت عبارة لوحة شطرنج جيوسياسية بالنسبة للاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. لقد فازت باستقلالها بواسطة العجز والتقصير عندما تراجعت القوتان العظميان: انسحاب روسيا الى مجال نفوذها السوفياتي، وتحويل اهتمام الولايات المتحدة باتجاه الشرق الأوسط بعد أحداث 11/9. ومنذ التسعينيات، وأوروبا منشغلة باللهو بالاصلاح المؤسساتي، لكنها تركت المسألة الأساسية حول الاندماج السياسي خارج الطاولة، حتى في الوقت الذي تعتبر فيه مندمجة اقتصادياً.

هذا، في النهاية، هو مصدر أزمة الديون السيادية الحالية، فالافتقار الى الاشراف السياسي على مسألة الاندماج الاقتصادي أدى الى خلل.

لقد وضعت الأزمة الاقتصادية لمنطقة اليورو هذا السؤال حول مصير أوروبا السياسي تحت المجهر، لكنها قضية متكررة. فأوروبا تواجه، بالكاد كل 100 عام، هذا المأزق المحير. اذ تعاني القارة من الاكتظاظ السكاني ـ للدول وليس الشعوب ـ فلدى أوروبا أكبر تركز للدول القومية المستقلة في القدم المربع الواحد من أية قارة أخرى. ففي حين أن أفريقيا قارة أكبر ولديها عدد أكبر من البلدان، لا يوجد قارة لديها عدد من البلدان الغنية والقوية نسبياً كما لأوروبا. هذا لأن القارة، جغرافياً، مثقوبة كالغربال بعلامات مميزة تمنع تشكيل كيان سياسي واحد. سلسلة جبال، شبه جزر وجزر تحد من قدرة القوى الكبيرة على الهيمنة أو احتلال الأصغر منها حجماً. ليس هناك من نهر واحد يشكل واديا لنهر موحد بإمكانه الهيمنة على باقي القارة. فنهر الدانوب ينحدر مقترباً، لكنه يصرف مياهه في البحر الأسود، المحاط باليابسة عملياً، المخرج الوحيد الذي يخرج منه بحر آخر محاط باليابسة عملياً، البحر الأبيض المتوسط. هذا يحد من قدرة أوروبا على انتاج كيان مستقل قادر على نشر قوة عالمية.

في كل الأحوال، لدى أوروبا، فعلاً، الكثير من الأنهر، طرق المواصلات الملائمة والمرافئ المحمية جيداً. هذا يسمح بتوليد رأس المال في عدد من نقاط القارة، كفيينا، باريس، لندن، فرانكفورت، روتردام، ميلانو، تورين وهامبورغ. وفي حين يكون لدى الجيوش الكبيرة مشكلة، مادياً وجسدياً، بالاندفاع عبر القارة وتدمير دول مختلفة واخضاعها لتكون تحت حكم واحد، فان الأفكار، رأس المال، البضائع والخدمات ليس لديها هذه المشكلة. هذا يجعل أوروبا غنية ( تملك القارة، على الأقل، ما يساوي الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة، وبامكانها أن تكون صاحبة ناتج محلي أكبر اعتماداً على الكيفية التي يحتسب بها المرء هذا الناتج).

في كل الأحوال، ما يجعل أوروبا غنية، يجعلها أيضاً متشظية. فالهندسة السياسية والأمنية الحالية لأوروبا ـ الاتحاد الأوروبي والناتو ـ كانت الولايات المتحدة قد شجعت عليها لتوحيد القارة بحيث يكون بامكانها تمثيل جبهة موحدة نوعاً ما ضد الاتحاد السوفياتي. لقد نمت عضوياً خارج القارة. هذه مشكلة لأن موسكو لم تعد تشكل تهديداً لكل البلدان الأوروبية، فالمانيا وفرنسا تعتبران روسيا شريكاً في الأعمال الاقتصادية وتواجه الدول الأوروبية تحديها الحقيقى الأول بالنسبة لحكم القارة، مع التشظي والشك العائدين بكل قوتهما. يبدو أن الوحدة الأوثق عرىً، وإنشاءَ نوعٍ من الولايات المتحدة الأوروبية، هو الحل الواضح للمشاكل التي تعرضها أزمة الديون السيادية لمنطقة اليورو ـ رغم أن مشاكل منطقة اليورو عديدة وليس من السهل حلها بالاندماج فقط، كما وإن تاريخ وجغرافية أوروبا يحبذان الانقسام ـ.

كونفدرالية أوروبا

ان الاتحاد الأوروبي عبارة عن كونفدرالية دول تجعل عائدات الادارة اليومية لعدد من المجالات السياسية حقا لذراع بيروقراطية (اللجنة الأوروبية) وللسياسة المالية للبنك المركزي الأوروبي. وتظل القضايا السياسية الهامة، كالدفاع، السياسة الخارجية والضريبية، الامتيازات الوحيدة للدول. ولا تزال الدول تجتمع بأشكال مختلفة للتعامل مع هذه المشاكل. لقد وافقت جميع دول منطقة اليورو على الحلول المطروحة لمشاكل اليونان، ايرلندا والبرتغال المالية على أساس مرتجل، كما هو الحال في المشاركة في الحملة العسكرية الليبية ضمن سياق الاتحاد الأوروبي. ان كل قرار هام يتطلب من الدول الاجتماع والتوصل الى حل مقبول بشكل متبادل، ما ينتج غالب الأحيان نتائج ليست الأفضل، وتكون نتاج المساومات والتسويات.

ان أفضل تشابه (جزئي) للاتحاد الأوروبي المعاصر موجود ليس في التاريخ الأوروبي بل في التاريخ الأميركي. انها الفترة الواقعة بين الحرب الثورية الناجحة عام 1783 واقرار الدستور الأميركي في العام 1788. فضمن تلك الفترة الممتدة 5 سنوات، حكمت الولايات المتحدة مجموعة قوانين مستمدة من بنود الكونفدرالية. لم يكن لدى البلاد مجلس تنفيذي، ولا حكومة، ولا جيش حقيقي ولا سياسة خارجية حقيقية. لقد احتفظت الولايات (الأميركية) بجيوشها وكان لدى عدد منها عدد أقل من خفر السواحل. لقد أدارت هذه الولايات السياسة الخارجية والتجارية بشكل مستقل عن رغبات الكونغرس القاري، جسم له علاقة بأكثر من قومية واحدة ويمتلك سلطة أقل مما لدى البرلمان الأوروبي اليوم (هذا بالرغم من المادة الرابعة من مواد الكونفدرالية، التي اشترطت عدم قدرة الولايات على ادارة سياسة خارجية مستقلة من دون موافقة الكونغرس).

كان من المفترض بالكونغرس زيادة التمويل من الولايات لتمويل أمور كهذه بما أن الجيش القاري، يدفع مكاسب مالية للمحاربين القدماء في الحرب الثورية، ويسدد القروض التي أعطتها القوى الأوروبية للأميركيين خلال الحرب ضد البريطانيين. في كل الأحوال، رفضت الولايات (الأميركية) اعطاء الكونغرس الأموال، ولم يكن هناك من شيء يستطيع القيام به أي شخص بخصوص ذلك. وكان الكونغرس مجبراً على طبع النقود، ما تسبب بجعل عملة الكونفدرالية تصبح غير ذات قيمة.

مع طريقة كونفدرالية كهذه رخوة بتنظيم العمل، كانت كلفة الحرب الثورية، في النهاية، أمراً لا يمكن تحمله بالنسبة للدولة الطرية العود. ان الواقع الحقيقي للنظام الدولي، الذي أقحم الدولة الجديدة في معارضة ومنافسة مباشرة ضد القوى الأوروبية العدوانية المتطلعة الى تخريب استقلال أميركا، سرعان ما غمرته مثاليات استقلال الولايات والحكومة المحدودة. فالأعباء الاجتماعية، الاقتصادية والأمنية أثبتت بأنها عظيمة جداً لا يمكن لولايات منفردة ان تحتويها أو ينكب على معالجتها كونغرس لا حول له ولا قوة.

لا شيء جعل هذا الواقع ظاهراً أكثر من التمرد والعصيان الذي حصل في غرب ماساشوستس بقيادة دانييل شايس في العام 1787. لقد كان "تمرد شايس"، في جوهره، عبارة عن أزمة اقتصادية. مثقلاً بعبء ديون الحرب الأميركية التي طالب بسدادها الدائنون الأوروبيون. انهار اقتصاد الولايات وانهارت معه موارد رزق عدد من المزارعين الريفيين، الذين كان البعض منهم في عداد المقاتلين القدماء في الحرب الثورية التي وعدت بتقديم الكثير من المكاسب. وتم فرض اجراءات التقشف على الريفي الفقير ـ غالباً في شكل مصادرة أراضٍ ـ كي يدفع للدائنين الأوروبيين. وتم اخماد ثورة شايس من دون مساعدة الكونغرس القاري وانما، وبشكل أساسي، بواسطة ميليشيا محلية لماساشوستس تتصرف من دون أي اشراف فيدرالي حقيقي. هُزم التمرد، الا أن عجز أميركا كان ظاهراً ورآه الجميع، عجزها الخارجي والداخلي.

أثرت الأزمة الاقتصادية، وعدم الأمن المحلي والتخوف الدائم من هجوم بريطاني مضاد ـ لم تكن بريطانيا قد فككت حصونها المتمركزة على الجانب الأميركي من البحيرات العظمى ( Great Lakes) ـ على الولايات ذات العقلية الاستقلالية وانطبعت لديها فكرة ضرورة وجود "اتحاد تام وأكثر انضباطاً." وبذلك، وكما نرى اليوم، تشكلت الولايات المتحدة الأميركية. لقد تخلت الولايات عن حقوقها بادارة السياسة الخارجية، وبوضع سياسات تجارية مستقلة عن بعضها البعض وعن امساك التمويل والامتناع عن تقديمه للحكومة الفيدرالية. وضعت الولايات المتحدة قسماً تنفيذياً يمتلك سلطات لشن الحرب وادارة السياسة الخارجية، بالاضافة الى قسم تنفيذي لم يعد بالامكان تجاهله. وفي العام 1794، أظهر رد الحكومة على ما سُمي آنذاك بـ " تمرد الويسكي " في غرب بنسلفانيا قوة الحكومة الفيدرالية، في تناقض قوي مع معالجة الكونغرس القاري لـ "تمرد شايس". فقد أرسلت واشنطن جيشاً يقدر عديده بأكثر من 10000 رجل لقمع بضع مئات من مقطري الويسكي الرافضين دفع ضريبة الويسكي الجديدة لتمويل الدين الوطني، وبذلك أرسلت الحكومة الفيدرالية رسالة واضحة عن قوة الحكومة الجديدة المالية، السياسية والعسكرية الساحقة.

عند درس مسألة تطور وارتقاء الكونفدرالية الأميركية وصولاً الى الولايات المتحدة الأميركية، يمكن للمرء أن يجد، من بين أمور أخرى، متوازيات عديدة مع الاتحاد الأوروبي، وهي المركزية الضعيفة، الولايات المستقلة، الأزمة الاقتصادية، والمديونية المرتفعة جداً. أما الاختلاف الأكثر جوهرية بين الولايات المتحدة في أواخر القرن الثامن عشر وأوروبا في القرن الواحد والعشرين فهو مستوى التهديد الخارجي. ففي العام 1787، انعكس "تمرد شايس" على كثير من الأميركيين من حيث مدى الضعف الذي كانت عليه البلاد ـ تحديداً جورج واشنطن، الذي أزعجته الأزمة ـ. فاذا كان بامكان عصبة من المزارعين تهديد احدى أقوى الولايات في الاتحاد، فما الذي يمكن أن تفعله القوات البريطانية التي كانت لا تزال رابضة على التراب الأميركي وفي كيبيك شمالاً؟ بامكان الولايات أن تكون مشوشة ومربكة، بشكل مستقل، وهي تمر بالأزمة الاقتصادية، لكن لا يمكنها منع هجوم بريطاني مضاد أو حماية أسطولها التجاري من القراصنة البرابرة. لا يمكن لأميركا أن تنجو بنفسها من مصيبة كهذه ومن عرض طائش ومتهور كهذا للعجز العسكري والسياسي.

لحسن حظ أميركا، تتشارك الولايات كلها جغرافية متشابهة بالاضافة الى ثقافة ولغة متشابهتين. ورغم أنه كانت لديها سياسات اقتصادية ومصالح مختلفة عن بعضها البعض، فانها كانت كلها تعتمد على التجارة المنقولة بحراً عبر المحيط الأطلسي. فالتهديد بخنق تجارة كهذه من قبل قوة بحرية متفوقة ـ أو حتى من قبل قراصنة أفارقة ـ كانت مسألة واضحة وخطراً حاضراً وماثلاً. قد لا يكون القيام بهجوم بريطاني مضاد أمراً خطراً في ذلك الحين على الولايات الجنوبية، لكن هذه الولايات أدركت بأنه اذا ما ضاعت نيويورك، ماساشوستس، وبنسلفانيا، فان الجنوب قد يحصل على استقلال اسمي ما لكن الوضع سيعود، وبسرعة، الى ما كان عليه من الوضع الاستعماري الواقعي.

في أوروبا، ليس هناك وضوح حول ما الذي يشكل تهديداً بالنسبة لها. ورغم أن هناك شعورا عاما ـ على الأقل في أوساط النخب الحاكمة ـ بأن الأوروبيين يتقاسمون المصالح الاقتصادية، فان من الواضح جداً بأن مصالحهم الأمنية لا تكمل بعضها. فليس هناك من مفهوم متوافق عليه حول التهديد الخارجي. فبالنسبة لدول أوروبا الوسطى التي لم تصبح الا مؤخراً داخل الاتحاد الأوروبي وعضواً في الناتو، لا تزال روسيا تمثل تهديداً بالنسبة لها. لقد طلبت هذه الدول من الناتو (وحتى من الاتحاد الأوروبي) اعادة التركيز على القارة الأوروبية، وطلبت من التحالف طمأنتها حول التزامه بأمنها. بالمقابل، لقد شهدت تلك الدول قيام فرنسا ببيع حاملات طوافات متطورة لروسيا وقيام ألمانيا ببناء مركز تدريب متطور في روسيا.

أقلمة أوروبا

اذاً، ان أزمة منطقة اليورو ـ التي تبتلع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المستخدمة لعملة اليورو لكنها التي لا تزال مهمة برمزيتها للاتحاد الأوروبي بكامله ـ هي أزمة ثقة. فهل تمسك الترتيبات السياسية والأمنية الحالية في أوروبا ـ الاتحاد الأوروبي والناتو ـ بالخليط الصحيح لمصالح الدول القومية؟ هل تشعر الدول الأعضاء في هاتين المنظمتين بأنها تتقاسم نفس المصير الأساسي حقاً؟ هل هي مستعدة، كما كانت المستعمرات الأميركية في نهاية القرن الثامن عشر، للتخلي عن استقلالها لأجل انشاء جبهة مشتركة ضد الهواجس السياسية، الأمنية والاقتصادية؟ واذا كان الجواب عن هذه الأسئلة هو لا، عندها ما هي الترتيبات البديلة التي تمسك فعلاً بالمصالح المكملة لبعضها للدول القومية؟

بالنسبة للجبهة الأمنية، لدينا الجواب سلفاً: أقلمة المنظمات الأمنية الأوروبية. فالناتو توقف عن الرد بفاعلية على المصالح الأمنية الوطنية للدول الأوروبية. وواظبت ألمانيا وفرنسا على انتهاج موقف متكيف تجاه روسيا، وتجاه دول البلطيق وأوروبا الوسطى. رداً على ذلك، بدأت دول أوروبا الوسطى بوضع ترتيبات بديلة. فدول أوروبا الوسطى الأربع التي تشكل مجموعة "فيسغراد" (Group Visegrad) ـ بولندا، الجمهورية التشيكية، سلوفاكيا وهنغاريا ـ استخدمت المنتدى كقالب لقولبة وتشكيل "مجموعة أوروبا الوسطى القتالية". أما دول البلطيق، المهدَّدة من انبعاث روسيا العام، فتطلعت الى توسيع التعاون العسكري والأمني مع البلدان الاسكندنافية، التي تعتبر أستونيا عضواً فيها بالأصل. وقررت فرنسا والمملكة المتحدة تعزيز تعاونهما باتفاقية تعاون متوسعة وعظيمة مع نهاية عام 2010، كما عبَّرت لندن أيضاً عن اهتمامها بأن تكون قريبة من المغامرات العسكرية التعاونية البلطيقية ـ الاسكندنافية النامية.
الأقلمة، حالياً، أمر أكثر وضوحاً في القضايا الأمنية، لكنها مسألة وقت فقط قبل أن تبدأ بالتبيان عن نفسها في القضايا السياسية والاقتصادية أيضاً. فعلى سبيل المثال، كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مستعدة للمساعدة والكلام بشأن الطلب من بولندا والجمهورية التشيكية تسريع جهودهما للدخول في منطقة اليورو. ومؤخراً، أشار كلا البلدين بأنهما وضعا فكرة الانضمام الى منطقة اليورو في الثلاجة في الوقت الحاضر. للقرار علاقة كبيرة، بالطبع، بما يجري لليورو والأزمة التي يتخبط بها، لكن لا يمكننا اساءة تقدير الشعور المؤكد في وارسو بأن برلين ليست ملتزمة بأمن بولندا. قد لا تكون دول آسيا الوسطى داخلة، حالياً، في منطقة اليورو (ما عدا أستونيا، سلوفينيا وسلوفاكيا)، الا أن مستقبل منطقة اليورو متشابك في قدرته على التألق وجذب الانتباه بالنسبة لبقية أوروبا ككتلة اقتصادية وسياسية. فكل أعضاء الاتحاد الأوروبي ملتزمون وفقاً للعقود الموقعة بالدخول في منطقة اليورو (ما عدا الدانمارك والمملكة المتحدة، اللتين تفاوضتا حول الخيار بالبقاء خارج الاتحاد). ومن وجهة نظر ألمانيا، تعتبر عضوية الجمهورية التشيكية وبولندا أكثر أهمية من تلك التي لمحيط أوروبا. فالتجارة الألمانية مع بولندا والجمهورية التشيكية وحدهما أكبر من تلك التي لها مع اسبانيا، اليونان، ايرلندا والبرتغال مجتمعة.

ان الأقلمة الأمنية لأوروبا ليست اشارة جيدة على مستقبل منطقة اليورو. فالوحدة النقدية لا يمكن تطعيمها داخل اللاوحدة الأمنية، خاصة اذا أصبح الحل لأزمة منطقة اليورو أكثر اندماجاً. فوارسو لن تعطي برلين حق الفيتو على حساب نفقات موازنتها اذا كانت الاثنتان ليستا متفقتين حول ما الذي يشكل تهديداً أمنياً. هذا الجدل قد يبدو بسيطاً وهو مقنع بسبب ذلك تماماً. فالضرائب هي أكثر أشكال سيادة الدولة أساسيةً، وشكل لا يمكن تقاسمه مع بلدان أخرى لا تقاسمها المصير السياسي، الاقتصادي والأمني نفسه.

هذا الأمر يسري على أي بلد آخر ، وليس بولندا فقط. فاذا كان الحل لأزمة منطقة اليورو هو القيام بعملية دمج أكبر، عندها ينبغي أن تكون مصالح الدول المندمجة متراصفة بشكل وثيق أكثر حول مسائل أكثر من المسائل الاقتصادية المجردة. ان المثال الأميركي منذ أواخر القرن الثامن عشر هو، بالتحديد، مثال تثقيفي مفيد، من حيث أن بامكان المرء القيام بنقاش مقنع، حيث إنه كان للولايات الأميركية مصالح اقتصادية أكثر تباعداً من تلك التي للدول الأوروبية اليوم، ومع ذلك فان مصالحها الأمنية جمعتها مع بعضها البعض. بالواقع، وفي اللحظة التي تضاءل فيها التهديد الخارجي في نهاية القرن التاسع عشر بسبب الانهاك الذي أصاب أوروبا من جراء الحروب النابليونية، اهتزت الوحدة الأميركية بسبب الحرب الأهلية فيها. لقد تفجرت الشعبتان الاقتصادية والثقافية لأميركا ـ اللتان كانتا موجودتين حتى ابان الحرب الثورية ـ وأنتجتا حريقاً هائلاً في اللحظة التي زال بها التهديد الخارجي.

الفكرة الأساسية هنا هي أن على الأوروبيين أن يتوافقوا على أكثر من مجرد 3 بالمئة من عتبة عجز الموازنة كأساس لأي اندماج أكثر حميمية. فالتحكم بالموازنات يسري ليصل الى قلب السيادة، والدول الأوروبية لن تتخلى عن السيطرة على الموازنات الا اذا علمت بأن مصالحها الأمنية والسياسية سيتم أخذها بجدية من قبل جيرانها.

نطاق نفوذ أوروبا

لذا، نحن نرى بأن أوروبا تتطور وترتقي وصولاً الى مجموعة من الجماعات المؤقلمة. قد يكون لدى هذه المنظمات أفكار مختلفة حول القضايا الأمنية والاقتصادية، قد يكون أحد البلدان منتمياً الى أكثر من مجموعة، لكن بالنسبة للقسم الأكبر ستكون العضوية مبنية، والى حد كبير، على أساس موقعها في القارة. هذا لن يحدث بين ليلة وضحاها. فألمانيا، فرنسا وبلدان اقتصادية أساسية أخرى لديها مصلحة كبيرة في الحفاظ على منطقة اليورو في شكلها الحالي على المدى القصير ـ ربما لعقد آخر من الزمن ـ بما أن العدوى الاقتصادية من اليونان هي هاجس وجودي بالنسبة لهذه اللحظة. في كل الأحوال، وعلى المدى الطويل، فان المنظمات الاقليمية المؤلفة من الكتل التي تحمل الذهنية نفسها هي الممر الذي يبدو بأنه يتطور في أوروبا، خاصة اذا ما قررت ألمانيا بأن علاقتها مع بلدان منطقة اليورو الأساسية وبلدان آسيا الوسطى هي أكثر أهمية من علاقتها مع المحيط.

بإمكاننا فصل الكتل الى أربع مجموعات رئيسة طرية العود، والتي لا تعتبر مجموعات حصرية بشكل متبادل، كنوع من النماذج لتصوير العلاقات المتطورة بين البلدان في أوروبا:

*نطاق النفوذ الألماني (ألمانيا، النمسا، هولندا، بلجيكا، لوكسيمبورغ، الجمهورية التشيكية، هنغاريا، كرواتيا، سويسرا، سلوفينيا، سلوفاكيا وفنلندا): هذه الاقتصادات الأساسية لمنطقة اليورو ليست متضررة من التنافسية الألمانية، أو هي معتمدة على التجارة الألمانية لمنفعة اقتصادية، وهي ليست مهددة، بصلبها، بسبب علاقة ألمانيا الناشئة والمتطورة مع روسيا. وبسبب انعزالها عن باقي أوروبا وقربها من روسيا، فان فنلندا ليست مرتعبة من فكرة انبعاث روسيا، لكنها تفضل من وقت لآخر المقاربة المتكيفة الحذرة لألمانيا على المقاربة العدائية للسويد أو بولندا المجاورتين. أما بولندا، هنغاريا، الجمهورية التشيكية وسلوفاكيا، فهي أكثر شعوراً بالقلق تجاه العلاقة الروسية ـ الألمانية، لكن ليس الى حد بولندا ودول البلطيق، وهي قد تقرر البقاء في مجال النفوذ الألماني لأسباب اقتصادية.

*الكتلة الاقليمية الاسكندنافية (السويد، النروج، الدانمارك، ايسلاندا، أستونيا، ليتوانيا، ولاتفيا): هذه الدول التي ليست من منطقة اليورو في غالبيتها تنظر الى انبعاث روسيا نظرة سلبية عموماً. وتعتبر دول البلطيق كجزء من نطاق النفوذ الاسكندنافي (خاصة نطاق نفوذ السويد)، ما يقود الى مشاكل مع روسيا. ألمانيا شريك تجاري هام، لكن يُنظر اليها على أنها متعجرفة وبلد منافس. أما فنلندا ففي موقع ملتبس في هذه المجموعة وفي نطاق النفوذ الألماني، اعتمادا على القضية.

* "فيسغراد زائد" ( Visegrad - plus) (بولندا، الجمورية التشيكية، هنغاريا، رومانيا وبلغاريا). في هذه اللحظة، تنتمي الـ Visegrad-4 الى مجالات نفوذ مختلفة. فالجمهورية التشيكية، سلوفاكيا وهنغاريا لا تشعر بأنها مكشوفة أمام الانبعاث والنهضة الروسية كما تفعل بولندا أو رومانيا. لكن هذه الدول ليست راضية تماماً أيضاً عن موقف ألمانيا تجاه روسيا. فبولندا ليست قوية كفاية لقيادة هذه المجموعة اقتصادياً بالطريقة التي تهيمن بها السويد على الكتلة الاسكندنافية. وعدا عن التعاون الأمني، ليس لدى دول الـ "فيسغراد" الكثير لتقدمه لبعضها البعض في هذه اللحظة. وتنوي بولندا تغيير هذا الأمر عن طريق الضغط لأجل الحصول على تمويل أكبر للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في الأشهر الستة المقبلة من رئاستها للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك هذا لا يشكِّل قيادة اقتصادية.


* أوروبا المتوسطية (ايطاليا، اسبانيا، اليونان، البرتغال، قبرص ومالطا): هذه هي دول أوروبا المحيطية. ان هواجس هذه الدول الأمنية فريدة من نوعها بسبب تعرضها للهجرة اللاشرعية عبر تركيا وشمال أفريقيا. جغرافياً، تعتبر هذه الدول معزولة عن طرق التجارة الرئيسة وتفتقر لمراكز شمال أوروبا المولدة لرأس المال، عدا وادي نهر "بو" في ايطاليا (الذي، ومن نواحٍ عديدة، لا ينتمي الى هذه المجموعة، لكن بالامكان تصوره ككيان منفصل ويمكن اعتباره جزءاً من نطاق النفوذ الألماني). لذا، تواجه هذه الاقتصادات مشاكل المديونية المرتفعة جداً المتشابهة وتفتقر الى القدرة على التنافس. السؤال هو من يقود؟
بعد ذلك هناك فرنسا والمملكة المتحدة. هذان البلدان لا ينتميان في واقع الأمر لأية كتلة. هذا هو وضع لندن التقليدي بما يتعلق بأوروبا القارية، برغم أنها بدأت مؤخراً ترسيخ علاقة مع الكتلة الاسكندنافية ـ البلطيقية. في هذه الأثناء، بالامكان اعتبار فرنسا جزءاً من نطاق النفوذ الألماني. وتحاول باريس التمسك بدورها القيادي في منطقة اليورو واصلاح قوانينها المتعلقة بسوق العمالة وترميم المكاسب الاجتماعية لتعزيز تواصلها مع الكتلة النقدية التي تهيمن عليها ألمانيا، وهي عملية مؤلمة. في كل الأحوال، ان فرنسا، تقليدياً، بلد متوسطي أيضاً، وقد أخذت في اعتبارها تحالفات آسيا الوسطى لتطويق ألمانيا. كما إنها دخلت مؤخراً في علاقة عسكرية ثنائية جديدة مع المملكة المتحدة، كسياج يحميها، جزئياً، من علاقتها الوثيقة مع ألمانيا. فاذا ما قررت فرنسا الخروج من شراكتها مع ألمانيا، فان بامكانها الحصول، وبسرعة، على السيطرة على نطاق نفوذها الطبيعي في البحر المتوسط، ربما مع دعم حماسي من قبل حشد من القوى الأخرى كالولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة. في الواقع، ان قرارها حول مسألة الاتحاد المتوسطي كان عبارة عن سياج سياسي، سياسة ضمان، لمستقبل كهذا تماماً.

ثمن الهيمنة الإقليمية

إن البديل لأقلمة أوروبا هو، وبوضوح، القيادة الألمانية التي تموّل ـ اقتصادياً وسياسياً ـ الاندماج الأوروبي الأكبر. فاذا ما تمكنت برلين من تجاوز الحراك الشعبي المناهض لليورو الذي يتغذى على الكفالة المتعبة والمجهدة في الصميم لمنطقة اليورو، فان بإمكانها الاستمرار بدعم المحيط الأوروبي وإثبات التزامها بمنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي. وتحاول ألمانيا أيضاً أن تظهر لأوروبا الوسطى بأن علاقتها مع روسيا هي شبكة ايجابية عن طريق استخدامها المفاوضات مع موسكو حول مالدوفيا كمثال عن الضربات السياسية الالمانية الموفقة.

في كل الأحوال، لقد وضعت دول أوروبا الوسطى قيادة ألمانيا والتزاماتها موضع الاختبار. فبولندا ستترأس الاتحاد الأوروبي في 1 تموز، وقامت بالتزام الاتحاد لجهة زيادة التمويل للدول الأعضاء الجديدة في الاتحاد الأوروبي، اضافة الى التعاون الدفاعي للاتحاد، مبادرتها الرئيسة. ان كلتا السياستين هما الآن موضع اختبار بالنسبة لألمانيا، وعرض لها أيضاً لعكس مسار الأقلمة الأمنية الجارية الآن. فاذا ما قالت برلين لا للأموال الجديدة للدول الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي ـ ما يعرّض للخطر تمويل السياسة المتجانسة للاتحاد، التي بلغت موازنتها للفترة ما بين عامي 2007- 2013 ما مجموعه 177 مليار يورو ـ وقالت لا للترتيبات الأمنية ـ الدفاعية الواسعة للاتحاد الأوروبي، عندها سيكون لدى وارسو، براغ، وعواصم أخرى في أوروبا الوسطى الجواب على ذلك. ان السؤال المطروح هو ما اذا كانت ألمانيا جدية بأن تكون قائدة أوروبا وبدفع الثمن كي تكون المهيمنة على أوروبا الموحدة، الأمر الذي لا يعني تمويل الكفالات المالية فقط وانما مقاومة روسيا أيضاً. فاذا ما وضعت علاقتها مع روسيا فوق اعتبار تحالفاتها مع أوروبا الوسطى، عندها سيكون من الصعب على دول أوروبا الوسطى اتباع برلين. هذا سيعني بأن أقلمة الهندسة الأمنية لأوروبا ـ عبر مجموعة "فيسغراد" والمجموعة الاسكندنافية ـ البلطيقية القتالية ـ أمر له معنى. كما سيعني بأنه سيكون على دول أوروبا الوسطى العثور على طرق جديدة لجر الولايات المتحدة الى داخل المنطقة لأجل الأمن.

ان المفهوم الأمني المشترك يتعلق بفهم الدول بأنها تتقاسم المصير نفسه. وقد فهمت الولايات المتحدة ذلك في نهاية القرن الثامن عشر، وهو السبب الذي دعا الولايات آنذاك للتخلي عن استقلالها، ليؤسسوا الولايات المتحدة الأميركية ويضعوها على طريق الوصول الى مكانتها الحالية كقوة عظمى.

أما الأوروبيون فلا يرون ـ على الأقل في الوقت الحاضر ـ وضعهم (أو العالم) بنفس الصورة. فالكفالات المالية تُسَنُّ ليس لأن اليونانيين يتقاسمون المصير نفسه الذي للألمان، وإنما لأن المصرفيين الألمان يتقاسمون المصير نفسه الذي لدافعي الضرائب الألمان. هذه اشارة الى أن الاندماج قد تقدّم ووصل الى نقطة حيث المصير الاقتصادي هو أمر مشترك، لكنها قاعدة غير ملائمة لبناء اتحاد سياسي مشترك.
يُنظر الى كفالة اليونان مالياً على أنها اهانة علنية لدافع الضرائب الألماني، برغم أن نفس دافع الضرائب هذا قد استفاد، بشكل غير مناسب، من انشاء منطقة اليورو. ان الحكومة الألمانية تفهم مكاسب الحفاظ على منطقة اليورو ـ السبب وراء استمرارها كفالة البلدان المحيطة مالياً ـ لكن لم يكن هناك من نقاش على المستوى الوطني في ألمانيا لتفسير هذا المنطق للشعب. لا يزال على ألمانيا انتظار فتح حوار مع نفسها حول دورها ومستقبلها، وخاصة حول الثمن المستعدة لدفعه للحصول على الهيمنة الإقليمية والبقاء على صلة في عالم يصبح مهيمَناً عليه، وبسرعة، من قبل قوى قادرة على تسخير موارد قارات بأكملها.

فمن دون فهم متجانس في أوروبا التي تتقاسم دولها جميعاً المصير نفسه، لا فرصة كبيرة أمام أزمة اليونان لتكون بمثابة "تمرد شايس" الأوروبي، ما سيشعل تفككاً أعمق لهذا الاتحاد. بدلاً من الولايات المتحدة الأوروبية، سيكون المصير الأقلمة الجارية الآن.

2011-07-06