ارشيف من :آراء وتحليلات

فنانو لبنان مكرّمون بالطوابع والأجور..كيف نكرّم أبطال الوطن؟!

فنانو لبنان مكرّمون بالطوابع والأجور..كيف نكرّم أبطال الوطن؟!
محمد الحسيني
يتغنّى لبنان بأنه بلد الثقافات المتعدّدة والحضارات المختلفة، وبأنه كذلك بلد السياحة والضيافة والفن، وبات هذا القطاع يشكّل محوراً أساسياً في قياس مؤشر الاستقرار الأمني والسياسي، في بلدٍ لم يعرف الاستقرار يوماً منذ أن تشكّل على الخارطة السياسية في المنطقة، قبل الاستقلال وبعده. حتى أن الحديث عن السياحة والاصطياف دخل في الأدبيات السياسية، وتحوّل إلى مادة اتهام داخلي يرفعه فريق سياسي في وجه فريق آخر كإدانة تحت عنوان "تطفيش" السوّاح من الشرق والغرب، ولا يحسم الأمر سوى أرقام الحجوزات في الفنادق البيروتية والمنتجعات السياحية والمهرجانات الفنية وأشهر التسوّق المتجوّلة في المناطق كدليل على استبباب الأمن ليطمئن "زوّار" لبنان بأن شيئاً لن يعكّر مزاجهم السياحي.

وعلى مشارف أشهر السياحة والاصطياف في لبنان قام الرئيس ميشال سليمان بتقليد ماجدة الرومي وسام الأرز في حفلة افتتاح مهرجانات جونية، كما قلّدت السيّدة الأولى الوسام نفسه للفنانة صباح في افتتاح مهرجانات بيت الدين، وفي السياق نفسه عمدت وزارة الاتصالات، بشخص الوزير السابق شربل نحاس والحالي نقولا صحناوي، إلى تكريم مجموعة من الفنانين اللبنانيين بإصدار طوابع عليها رسمهم الشخصي، وشمل التكريم كلاً من: فيروز وصباح ووديع الصافي وحسن علاء الدين (شوشو) وسعيد عقل وفرقة "كركلا" ونبيه أبو الحسن والأخوة يوسف وميشال بصبوص، ومؤسستي "لبنان واضع الأبجدية" و"اللجنة العربية الدائمة للبريد".

إنه لبنان بلد الثقافة الزاخر بفنانيه ومبدعيه في الطرب والغناء والتمثيل والمسرح والشعر.. وأقلّ الواجب والوفاء لهؤلاء العمالقة أن يحفظ هذا البلد ويحافظ على هذا "الإرث الغالي" بتخليد عطاءاتهم الفنية والثقافية وتضحياتهم لنشر اسم لبنان عالياً في فضاءات الكون، لا سيما أن جيلاً جديداً من "عمالقة الفن" يتحضّر مع ارتفاع درجة حرارة أيام فصل الصيف، ليلهب "الصروح الثقافية" بصوته الصدّاح ليقارع الفرق الأجنبية التي بدأت منذ بضع سنوات تغزو الساحات اللبنانية، وبالتالي لا بد من استعادة زمام المبادرة الوطنية لإعادة الشباب إلى عرين الوطن، ولا يكون ذلك إلا باعتلاء منصات الغناء والرقص والإبداعات الجسدية "الراقية" لتعود أيادي الجيل الصاعد للارتفاع مع ارتفاع صوت الموسيقى الصاخبة وآهات الأحاسيس والمواويل.

ولعلّ هذا العطاء الكبير يفرض عطاءً كبيراً بالمقابل، فلا عجب أن وصلت أجرة مغنٍّ عربي إلى مئة ألف دولار في الليلة الواحدة!! في حين يتبارى المغنّون الآخرون من لبنان والدول العربية وبعض الدول الأجنبية برفع أسقف أجورهم، وهذا أيضاً يفرض بدوره ارتفاع سعر بطاقات الدخول، وفرز المقاعد إلى مستويات تتناسب مع "قيمة" الحضور وأماكن تواجدهم تبعاً لقربهم جغرافياً من الفنان المبدع أو بعدهم عنه\ن هذا طبعاً عدا عن الكلفة العالية للحملات الإعلامية التي يتكبّد متعهدو هذه الحفلات "الثقافية" عناء تنسيقها لضمان أكبر قدر ممكن من المريدين والحالمين والراكبين على موجة "الثقافات الراقية".

ماذا عن المقلب الآخر؟ ماذا عن أحزمة البؤس الصاخبة؟

ماذا عن الآهات المنطلقة من الوجع؟

ماذا عن ثقافة القهر التي أدمنها أناس غير هؤلاء "الناس"؟

ماذا عن هيام من نوع آخر يلتمس حرارة شمس الصيف اللاهبة أو يستأنس بأنغام حفيف أوراق الشجر؟

ماذا عن السهر والعيون المنتشية برقابة غادر، فيما تسكر عيون أخرى مع تمايل جنون لا هوية له سوى أنه ضرب مجون؟

ماذا عن أغانٍ ترددها أمهات الشهداء على أضرحة أبنائهم كل صباح، وتتسامر مع طيفهم عند كل سحر؟

ماذا عن أنّات جرحى ما زالوا يعايشون آلامهم التي لازمتهم منذ أن اختاروا سماع ألحان الحرية وعزفوها مع دوّي رصاصاتهم لتحرير الوطن؟

كل مجتمع يختار ثقافته ويخطّ مسار إنسانيته، وهو حرّ في خياره ومساره، ولكن أن يتقاضى مغنٍّ مبلغ مليون دولار أجرة إحياء ليلة غناء في لبنان في وقت يئن الناس تحت نير الفقر ويعاني الحرمان من أبسط مقوّمات العيش، أو أن يتسابق الناس على الاحتشاد لنيل "بركة" تلك المغنية التي خشعت لإنسانية "إسرائيل" وأيتامها في وقت يحتشد المتسوّلون عند أبواب السيارات ويطرقون أبواب المنازل استجداءاً، أو أن يجري تزوير الهوية وتغريبها تحت عنوان الثقافة في وقت يطالب البعض ممن ينطقون باسم الثقافة الاستغناء عن اللغة العربية الفصحى وابتداع لغة "لبنانية" تحاكي ثقافة الغرب، أو أن يستجلب البعض ممن يدّعون الكلام باسم الشعب حكماً وسلطة أجنبية في وقت يستنكرون سلاحاً رفع عزة الوطن وحمى حدوده وقهر عدوه ويضمن أمنه.. أو.. أو..

كل هذا يجري تحت سقف هذا الوطن الذي بات مطالباً، من رأس الهرم إلى أدناه وبكل شرائحه السياسية والثقافية والاجتماعية والانسانية والاقتصادية، أن يكون وفياً لأبطاله الحقيقيين، فلا يكرّم فنانيه ومطربيه ومستثقفيه فحسب، بل يبادر إلى خطوة سبقته إليه كل الشعوب والدول بتكريم شهدائه وقادته الشهداء، وحريّ بهذا الوطن أن يكون وفياً لنفسه ولا يكرّس غربته عن تاريخه، ليكون الأبطال الشهداء وعوائلهم سفراء هذا الوطن على صفحات الطوابع وفي طيّات ألوان وتفاصيل العلم اللبناني.
2011-07-09