ارشيف من :آراء وتحليلات

دمشق ـ واشنطن: المنازلة الأخيرة في حماه

دمشق ـ واشنطن: المنازلة الأخيرة في حماه
عبد الحسين شبيب

لا يعني ذهاب السفير الأميركي في دمشق روبرت فورد إلى مدينة حماة السورية، والتحاق السفير الفرنسي إريك شوفالييه به، وتصرفهما كزعيمين للمعارضة السورية وقيادتهما المعركة ضد نظام الرئيس بشار الأسد، إلا أن الأمور بلغت مرحلة الحسم، الأمر الذي استدعى نزع واشنطن وباريس قناع "الديبلوماسية" عن ضلوعهما في الأحداث الأمنية وغير الأمنية الجارية في سوريا، ومجاهرتهما بالدور الحقيقي الذي يقومان به. لكن النزول على الأرض وبهذه الطريقة الوقحة ومن دون أي مواربة، يعني أن واشنطن لم يعد لها إلا هذه الورقة، بعدما حصل شبه اجماع عالمي ـ سواء لدى الخبراء الدوليين والاقليميين بالشأن السوري، أو لدى مراكز صنع القرار في غير عاصمة غربية وعربية ضالعة في الازمة السورية ـ من أن الرئيس بشار الأسد تجاوز القطوع، وأنه في طريقه الى إعادة الحياة إلى مجاريها. وتكفي قراءة تقدير رئيس رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، اللواء أفيف كوخافي، الذي نشرته صحيفة "معاريف" الجمعة (8 تموز الجاري) وخلاصته ان «الأسد قادر على الاستمرار في هذه الحرب لمدة سنتين أو ثلاث في ضوء الولاء الكبير له من جانب الجيش». وكان اللافت في تصريح كوخافي قوله انه «عندما يصف النظام السوري عصابات تهاجم الجيش، فإنه دقيق في ذلك هذه المرة».

ومن الواضح ان الصلات الخارجية لهذه المجموعات المسلحة باتت معلومة، إن من خلال كشف كميات ضخمة من الأسلحة المهربة اليهم من الخارج، أو من خلال اعترافات الموقوفين، أو من خلال تتبع حركتهم الميدانية واتصالاتهم، أو أخيراً من خلال زيارة السفيرين الاميركي والفرنسي الى حماة، المدينة التي يمنع المسلحون دخول حتى الموظفين اليها، فكيف استطاع هذان السفيران المرور على الحواجز المسلحة لولا التنسيق، فضلاً عن الاجتماعات التي عقداها في المدينة لتأليب الناس على النظام.

واللافت ان ما أوردته الأجهزة الرسمية السورية من وزارة الخارجية الى وزارة الداخلية الى الأجهزة الأمنية الى وكالة الانباء لم تنفه واشنطن وباريس، بل أكدتاه متباهيتين بقيادة السفيرين لهذا الحراك، لا بل إن واشنطن " انزعجت" من انزعاج دمشق لخرق الاتفاقيات الدولية التي تنظم عمل السفراء وتجاوز السفيرين الأميركي والفرنسي كل الاتفاقيات الدولية.

طبعا هذا الكلام ليس مهماً، وما قررت واشطن فعله على الأرض هو بمثابة ورقة أخيرة في المنازلة مع نظام بشار الاسد، بعدما فقدت كل الأوراق.

وعندما تقارب واشنطن مناطق لعبها في العالم، لا تنظر اليها بطريقة أحادية، فهي وبعدما أخفقت في إدارة فريقها في لبنان لمنع وصول حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الى بر الأمان، وبعد نيل هذه الحكومة الثقة ومباشرتها أعمالها، اعتبر ذلك مكسبا للقيادة السورية ونكسة للقيادة الأميركية، كما اعتبر أن هذا الأمر سيضعف من أدوات التحرك اللبنانية ضد سوريا التي جرى توظيفها ميدانيا في سوريا برعاية بعض مكونات فريق 14 آذار ممن تبين أنهم متورطون في أعمال عنفية في الأزمة الراهنة.

يضاف الى هذه النكسة الأميركية الاخفاق النهائي والحاسم في مجلس الأمن الدولي من خلال صلابة الموقفين الروسي والصيني اللذين وفرا حصانة دولية للرئيس الأسد وساعدهما هو بدوره من خلال خطواته الإصلاحية، حتى رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية أقر بأهميتها في تصريحه الآنف الذكر.

وعليه، إذا كانت واشنطن ومعها باريس، خسرتا ورقة التحرك الدولي ولو على شكل عقوبات مخففة في مجلس الأمن، فإن ما أزعجهما أيضا خسارتهما الورقة التركية التي تراجعت كثيراً بفعل التهديد الايراني، ولم يعد بعد انتشار الجيش السوري في المناطق الحدودية المتاخمة لتركيا ممكنا إنشاء بقعة خارجة عن القانون كما كان مخططا لكي تنطلق منها عمليات ميدانية برعاية خارجية ضد نظام بشار الأسد على غرار ما حصل في ليبيا.

الأخطر من ذلك بالنسبة للأميركيين والفرنسيين هو خسارتهم جزءاً أساسياً من مكونات المعارضة السورية ممن ذهبوا الى الحوار تحت سقف النظام في دمشق، ما اضطر الى هذا الانزال المباشر في قلب حماة لشد ما تبقى من معارضين خشية ان يتضعضعوا إذا ما ادركوا استعداد واشنطن للتخلي عنهم وتركهم في الميدان وحيدين، كما فعلت مع ادواتها اللبنانية في ايار/مايو عام 2008، وكما فعلت مع نظاميها الحليفين في تونس ومصر، ولا سيما أن هؤلاء المعارضين السوريين هم ممن لهم علاقات مع بعض دول الخليج، يسمعون يوميا توجس هذه "الخليجيات" من الخذلان الأميركي لها. وبالتالي فإن النزول الى حماة بهذه الطريقة هو محاولة لشد عصب ما تبقى من معارضين ومحاولة غير موفقة للتأثير على انطلاق الحوار الموسع في دمشق بين مكونات المعارضة السورية، من خلال إبقاء حماة في قلب الصراع بما تختزنه من عناصر تأجيج للصراع مع السلطة على خلفية احداث الثمانينيات.

وهنا يطرح سؤال عما اذا كانت واشنطن تنوي تعويض فكرة اقامة منطقة عازلة على الحدود مع تركيا ببقعة خارجة عن النظام مسلحة في قلب سوريا تحظى برعاية وحصانة اميركية فرنسية، وتمد بأشكال متنوعة من الدعم العسكري والمالي والاعلامي والسياسي، حتى لا تسمح للرئيس الاسد باعلان سيطرته على الوضع واعادته الحياة الى مجاريها بعدما قطع اشواطا بعيدة في هذا المجال؟.

طبعا هناك عقبات كثيرة تحول دون مضي الاميركيين في مشروع عزل حماة وابقائها بؤرة مشتعلة في قلب النظام السوري، ابرزها عدم قابلية هذه الفكرة للحياة حتى ولو اقتنع بها وتحمس لها المعارضون في تلك المنطقة، وثانيها عدم قدرة واشنطن على المضي قدما في هذه الخطوة في وقت تقبع على بعد بضع كيلومترات من الحدود السورية قواعد أميركية يسهل ضربها بصواريخ "المقاومة العراقية"، وهو ما يدركه الأميركيون جيداً بعد تجربتهم الأخيرة في البحرين.

لكن السبب الأهم يكمن في حقيقة الموقف الأميركي، الذي لا يعدو كونه يستغل قضية حماة للتفاوض مع السوريين في مكان آخر، العراق، حيث تريد واشنطن من الرئيس الأسد ان يستخدم ما لديه من نفوذ في ذلك البلد لتسهيل إمرار اتفاقية جديدة تؤخر الانسحاب الأميركي من هذا البلد وتبقي قواته في العراق لفترة أطول. وما دامت واشنطن تحتاج الى مساعدة سورية، وما دام انها لم تعد تستطيع ان تفعل شيئا ضد بشار الأسد بعيد نجاحه في تجاوز قطوع الأزمة، فالمطلوب الآن استثمار قضية حماة ورفع السقف فيها، ليس حباً بهؤلاء المعارضين السوريين بعدما فشلوا في مهمتهم، انما لحاجتها للمقايضة في الملف العراقي الذي له الأولوية الان بالنسبة لواشنطن، وهنا يلفت ما ذكرته صحيفة "النهار" اللبنانية الوثيقة الصلة بفريق 14 آذار في "أسرار آلهتها" نقلاً عن مصادر ديبلوماسية قولها ان "الحوادث في سوريا قد تنتهي بتسوية يكون لها انعكاسات ايجابية على لبنان"!.
2011-07-11