ارشيف من :ترجمات ودراسات

تحديات الازمة السورية في حسابات المصالح التركية والايرانية

تحديات الازمة السورية في حسابات المصالح التركية والايرانية
كيف يمكن ان يكون مستقبل العلاقات بين تركيا وايران على خلفية موقف كل منهما من الأزمة التي تعيشها سورية حالياً؟
فالدولتان تشكلان أحد اعمدة التوازن الاقليمي في المنطقة، وأي اضطراب في هذه العلاقة ستفيض آثاره على المشهد الاقليمي والدولي برمته... "الانتقاد" قرأت في هذا الملف مع الخبيرين في الشؤون التركية والايرانية الدكتور "محمد نور الدين" والدكتور "طلال عتريسي".
يبدأ الدكتور "نور الدين" بتحليله للموقف التركي من الازمة السورية بالقول: "ان تركيا اتبعت منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002 سياسة "تصفير" المشاكل مع جيرانها وإيلاء عمقها الاستراتيجي اهمية اساسية في سياستها الجديدة، والمعني هنا بالعمق الاستراتيجي هو العالمان العربي والاسلامي. وضمن هذا المنطلق شكلت سوريا بالنسبة لتركيا بوابتها الى العالم العربي. فاتجهت الى اقامة افضل العلاقات معها، فألغيت الحواجز الجمركية بين البلدين، وأقيم مجلس للتعاون الاستراتيجي بينهما. فتحولت علاقات البلدين الى علاقات نموذجية يحتذى بها بين بلدين جارين، بعد ان كانا على حافة الحرب قبل عشر سنوات. الا انه مع بدء الازمة في سورية في آذار/ مارس الماضي بدأ الموقف التركي من نظام الحكم في سورية مرتبكا ويطرح عدة علامات استفهام، وداعما للمعارضة، وتجلى ذلك باستضافة تركيا عدة مؤتمرات للمعارضة السورية في انطاليا واسطنبول، وسماحها لمراقب الاخوان المسلمين في سورية رياض الشقفة" بعقد مؤتمر صحافي على الاراضي التركية.
حزب العدالة والتنمية وجد في خريطة التوزع المذهبي في سورية ما يغريه بركوب مغامرة اسقاط النظام في سورية ومن وراءه ما يعرف بمعسكر الممانعة
كما ان الحكومة التركية ذهبت الى تقديمها نصائح للرئيس بشار الاسد هي اقرب الى الاملاءات. اضف الى ذلك موقف الاعلام التركي المقرب من حزب "العدالة والتنمية" والذي كان شديدا في انتقاده وتحريضه على النظام في سورية. عن سبب التحول في الموقف التركي يقول الدكتور نور الدين: "مع بدء الثورات العربية تحركت عند حزب العدالة والتنمية نزعة كامنة في جذوره يمكن تسميتها بالعثمانية الجديدة. وان حزب العدالة والتنمية كحزب له طابع اسلامي وعلى تقاطع مع الاخوان المسلمين في المنطقة، وجد في خريطة التوزع المذهبي في سورية ما يغريه بركوب مغامرة اسقاط النظام في سورية، ومن ورائه ما يعرف بمعسكر الممانعة ورسم سياسة جديدة للمنطقة يكون لتركيا الدور الابرز فيها.

في هذا السياق يبرز الموقف الايراني المرتبط بمواقف استراتيجية مع دمشق تعتبرها طهران حيوية جدا لامنها القومي، وهي لا تخفي قلقها من الموقف التركي، والتي يقول مراقبون انه فاجأ طهران خاصة بعد ظهور المواقف التركية الاخيرة المشجعة للقضية الفلسطينية، والتي كانت طهران تعتقد انه من خلاله يمكن العمل على تشكيل طوق من المواقف حيال الاهداف الاسرائيلية والاميركية في المنطقة يضم تركيا والعراق وسورية وايران.
وفي هذا الاطار يقول الباحث في الشؤون الايرانية الدكتور طلال عتريسي: "انه لا يمكن لايران ان تقف لتتفرج على النظام في سوريا وهو يتعرض للضغوط التركية والخارجية في التعامل مع الاحتجاجات الداخلية. ولا شك ان ايران تتابع بكل دقة واهتمام وقلق ما يجري في سوريا. وبسبب العلاقة الاستراتيجية والجيدة مع تركيا فقد عملت ايران على متابعة سياسة تركيا تجاه سوريا والآفاق والاحتمالات التي يمكن ان تبلغها هذه السياسات. وقد تردد ان ايران مارست بالطرق الديبلوماسية كل انواع الضغوط والاتصالات مع الجانب التركي للحد من الضغوط على سوريا. حتى ذهب البعض الى للقول ان ايران ابلغت تركيا بأن النظام في سوريا هو "خط أحمر". أي ان ايران لن تسمح بسقوطه كما يحلم الاتراك. والخط الاحمر لا يعني احتمال تدهور العلاقات التركية ـ الايرانية فقط، بل وتدهور العلاقات التركية ـ العراقية ايضا" نظرا" لنفوذ ايران وتأثيرها على الحكومة العراقية ايضا". ولا يمكن لتركيا الا ان تأخذ بالاعتبار هذه الاحتمالات من عدم الاستقرار مع جوارها. اي ان استراتيجية "صفر مشاكل" ستختفي وستجد تركيا نفسها في مواجهة اقتصادية وسياسية وامنية مع جوار. وربما كان هذا أقصى ما يمكن ان تلجأ اليه ايران في التعامل مع السياسة التركية تجاه سوريا".
هذا التحول النوعي في الموقف التركي تجاه سورية مقابل ثبات نظام الحكم في ايران على مواقفه المبدئية حيال حليفه السوري. هل يعني اننا امام معضلة معقدة جدا في العلاقات التركية ـ الايرانية حيال هذا الملف... ام ان ثمة نقاط التقاء تجعلهما يجتازان حقل الالغام هذا بأقل الخسائر الممكنة؟
يقول الدكتور محمد نور الدين في هذا المجال: "ان التعارض بين تركيا وايران ليس فقط في المشهد السوري الداخلي، بل هو ينسحب على المشهد الاقليمي برمته، وسوريا تمثل قلب التعارضات بين السياسات التركية والايرانية في المنطقة. لذلك فتركيا تعتبر ان اي تغيير في المشهد السوري هو تغيير في المشهد الاقليمي برمته. وذلك سيكون لمصلحتها. فسوريا تحتل اهمية قصوى في السياسة الخارجية التركية لحزب العدالة والتنمية، وذلك من ضمن رؤيتها الاستراتيجية لمنطقة الشرق الاوسط، والتي تحضرسوريا بقوة في عدد من ملفاتها الساخنة. من العراق الى فلسطين وصولا الى لبنان ومنطقة الخليج. وهي في ذلك متحالفة مع ايران التي تعتبر بدورها هذه الملفات حيوية جدا لامنها القومي. نور الدين يضيف ان تركيا انطلاقا من سعيها للعب دور اكبر في المنطقة وخاصة بعد التقدم الاقتصادي والسياسي التي حققته منذ العام 2002 بقيادة حزب العدالة والتنمية سعت وما زالت تسعى الى فك التحالف بين سورية وايران، معتقدة ان ذلك من شأنه ان يقلب التوزانات الاقليمية في المنطقة لمصلحتها. وهي من خلال استضافتها المحادثات غير المباشرة بين سورية واسرائيل، كانت تسعى الى عقد اتفاقية سلام بين الطرفين. يكون من نتائجه سقوط مفاعيل هذا التحالف بين دمشق وطهران. فتركيا تعتبر ان اسرائيل حقيقة موجودة، وهي تدعو قوى الممانعة لخفض سقف المواجهة معها وبدء الطرفين في محادثات سلام. في حين ان ايران تدعو القوى الشعبية في المنطقة الى تخصيب حدة المواجهة مع اسرائيل الى الحد الاقصى وصولا الى ازالتها من الوجود. ولكن بالرغم من كل هذه التعقيدات لا يعتقد نور الدين بحدوث تطورات سلبية في العلاقات التركية ـ الايرانية على خلفية الازمة السورية الراهنة. والبلدان محكومان بالتعاون ايجابا والالتزام بضوابط اللعبة السياسية وذلك لاعتبارات عدة. فحزب العدالة والتنمية منذ وصوله الى الحكم احتفط لنفسه بمسافة بعيدة عن المحور الغربي الاميركي المؤيد لاسرائيل، وان لم يغادره نهائيا. كما ان تركيا كانت منذ فترة بدأت بانتقاد الخطاب السياسي الاسرائيلي، وهذا الامر يريح ايران كما ان البلدين ـ يقول نور الدين ـ "تجمعهما حدود مشتركة وتعاون اقتصادي ازدهر في شكل ملحوظ خلال تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين بليوني دولار سنوياً، ويطمح للوصول الي 30 مليار دولار سنوياً خلال السنوات المقبلة، حيث فتحت مجالات الاستثمار امام الشركات التركية في ايران، في كل المجالات". والامر الوحيد الذي يمكن ان يطيح بكل هذه الضوابط ـ يقول نور الدين ـ هو قيام تركيا بتحرك عسكري على الحدود السورية، وايران ابلغت تركيا ان اي اعتداء على سوريا او استعمال الاراضي التركية لاعتداء اطلسي على سوريا هو اعتداء مباشر على ايران.
تركيا من خلال موقفها الاخير من الازمة السورية انتقلت من سياسة "تصفير" المشاكل مع جيرانها الى سياسة "تصفير" الثقة مع سوريا وايران وقسم كبير من المجتمع العراقي
يرى الدكتور طلال عتريسي من جهته ان ما يجري في سوريا سيؤدي الى تغيير المشهد الاقليمي لمصلحة هذه القوة او تلك من القوى الاقليمية خصوصاً تركيا وايران. وهذا الأمر له علاقة بالمحاور الاستراتيجية في هذه المنطقة. فإذا خسرت ايران النظام في سوريا فهذا يعني انتصاراً للمحور الغربي ولمحور الاعتدال في المنطقة. وتركيا هي من دول هذا المحور الذي يؤيد السلام مع اسرائيل... في حين ان انتصار النظام في سوريا على هذه الأزمة سيجعله أكثر قوة. وسيجعل حليفته ايران أكثر ثباتاً في محور الممانعة وفي المواجهة مع الولايات المتحدة ومع اسرائيل. لذا ان الصراع على الادوار هو صراع غير مباشر وله صلة بما يجري في سوريا اكثر مما له صلة بالرغبة في مثل هذا الصراع . عتريسي يضيف ان علاقات تركيا وايران هي علاقات ثابتة وقوية واستراتيجية والمبادلات التجارية بينهما قد ارتفعت كثيراً في السنوات الماضية، وهي مرشحة في العام المقبل الى ان تصل الى نحو 10 مليارات دولار. لذا ان العلاقة اصلاً بين البلدين ليست علاقة صراع على الادوار. لكن ما يجري في سوريا هو الذي جعل هذا الاحتمال ممكناً .حيث تختلف مقاربة كل من تركيا وايران للمشهد السوري اختلافاً جذرياً. ففي الوقت الذي ترى ايران في تهديد النظام في سوريا خطراً على مصالحها وعلى رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة، تبدو تركيا اقرب الى وجهة النظر الغربية ـ الاميركية في ممارسة الضغوط على سوريا، على ان التغيير المحتمل قد يأتي بقوى حليفة لحزب "العدالة والتنمية" اي الاخوان المسلمين الى الحكم في سوريا، ما يعني استرجاع المجال الاستراتيجي التركي القديم. أي عثمانية جديدة، يحلم بها وزير الخارجية احمد داوود اوغلو، تستعيد الفضاء العثماني التاريخي. خصوصا في ظل الرهان التركي على حركة الاخوان في مصر، في مقابل ذلك ترى ايران في ما يجري في سوريا مشروعاً يخدم الجبهة المناوئة، أي جبهة التحالف مع الولايات المتحدة، لأن سوريا كانت في قلب محور الممانعة الذي يدعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين وتسانده ايران بكل الاشكال والسبل. لذا ترفض ايران اي تهديد للنظام في سوريا وتعتبر الاصلاحات شأناً داخلياً. في حين تراهن تركيا على التغيير في سوريا. لكن هذا لا يعني ان تركيا لن تعود الى علاقاتها السابقة مع النظام في سوريا اذا نجح الرئيس الاسد في استعادة السيطرة على الاوضاع الداخلية. ولذا وقفت ايران الى جانب النظام في حين وقفت تركيا الى جانب المعارضة وحركة الاحتجاج. كما انسجمت تركيا مع الضغوط الغربية في حين كانت ايران اقرب الى مواقف الصين وروسيا من دعم الاصلاح ودعم الاستقرار ورفض التدخل الخارجي في سوريا.
كيف وما هي انعكاسات الموقف التركي من الازمة السورية على سوريا وإقليمياً؟
يقول د. نور الدين ان "تركيا من خلال موقفها الاخير من الازمة السورية انتقلت من سياسة "تصفير" المشاكل مع جيرانها الى سياسة "تصفير" الثقة مع سوريا وايران وقسم كبير من المجتمع العراقي. فكل هذا البناء من الثقة التي شيدته تركيا مع العالمين العربي والاسلامي منذ العام 2002 حتى اليوم شهد تصدعا كبيرا من جراء التحول التركي الاخير. نور الدين يضيف انه "في حال تجاوز سوريا لأزمتها فانه من المؤكد ان الاسس التي ستقوم عليها العلاقات التركية مع سورية ستكون مختلفة، مع العلم ان لا سوريا ولا ايران ترغب باستعداء تركيا وعودتها بالكامل الى الحضن الغربي والصهيوني. فسوريا ضحت بالكثير ولا سيما على الصعيد الاقتصادي في سبيل اقامة علاقات متينة مع تركيا من اجل ان تنقل تركيا من موقع العدو الى موقع الحليف والصديق".
في حين يرى الدكتور عتريسي ان تركيا تنطلق من حساباتها الاستراتيجية اولاً. وهي تتصرف على هذا الاساس. وعندما اختارت سياسة خارجية تلخصت في استراتيجية "صفر مشاكل" فلأنها رأت ان هذه الاستراتيجية تحقق لها مصالحها وتؤدي الى توسع تلك المصالح شرقا وغربا، وعندما وقفت مع حركة الاحتجاجات في سوريا، قرأت ان مصالحها يمكن ان تتحقق مع النظام المقبل اذا كان من الاخوان المسلمين. لكن الفوضى في سوريا او تقسيم سوريا يهدد المصالح التركية، وعندما تعيد تركيا حساباتها تجاه سوريا على سبيل المثال فلأنها أدركت ان الوضع السوري بات مجدداً في مصلحة النظام ولم يعد من الممكن الرهان على الانقلاب أو التغيير الجذري.
نبيل المقدم
2011-07-11