ارشيف من :آراء وتحليلات

واشنطن .. البقاء في العراق بأي ثمن

واشنطن .. البقاء في العراق بأي ثمن

بغداد ـ عادل الجبوري

أول شيء فعله وزير الحرب الاميركي الجديد ليون بانيتا بعد زيارته لأفغانستان هو توجهه الى العراق بصورة مفاجئة، في خضم نقاشات وسجالات محتدمة بين الساسة العراقيين حول مسألة بقاء أو انسحاب القوات الأميركية من البلاد أواخر العام الجاري وفق الاتفاقية الأمنية المبرمة بين الجانبين أواخر عام 2008.

مصدر في رئاسة مجلس الوزراء العراقي طلب عدم الكشف عن هويته أكد "أن زيارة بانيتا "لم يتم الاعلان عنها مسبقا". وفي ذلك اشارة واضحة الى ان رئيس الحكومة نوري المالكي، وهو في الوقت ذاته يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة، لم يكن على علم مسبق بزيارة الوزير الجديد!. ومن شاهد اللقطات التلفزيونية لوصول الوزير الأميركي الى بغداد، لا بد له ان يسجل جملة ملاحظات منها:

ـ ان زيارة الوزير لم تخضع للاجراءات البروتوكولية بتاتا، فقد جاء بطائرة عسكرية ونزل منها لوحده، وكان مرتديا سروالا وقميصا عاديين مع قبعة على رأسه، بحيث بدا وكأنه في نزهة سياحية وليس في زيارة لبلد اخر!.

ـ كان في استقباله ضابط واحد من قادة القوات الاميركية في العراق، وغابت مظاهر البهرجة والضجيج، بل واكثر من ذلك بدا ان المبالغة في بساطة الاستقبال مقصودة، وكان يراد منها ايصال رسائل سياسية من نوع معين للاطراف السياسية العراقية الرافضة لتمديد بقاء القوات الأميركية في العراق بعد عام 2011.

ويبدو ان الوزير الجديد الذي جاء الى ميدان العسكر من كواليس المخابرات، حرص على أن يطلق رسالة للقوى السياسية العراقية ما ان تطأ قدماه أرض العراق، ومفادها ان الولايات المتحدة باقية في العراق سواء وافق العراقيون على ذلك ام لم يوافقوا، وذلك عندما قال: "اننا سننفذ عمليات عسكرية منفردة ضد الميليشيات المسلحة المدعومة من ايران، وسنتخذ اجراءات من جانب واحد إذا تطلّب الأمر ذلك لمعالجة هذا التهديد"!. وأوضح بانيتا ان مهمته في العراق تتمحور حول الضغط على المسؤولين العراقيين لاتخاذ قرار بشأن الوجود العسكري الامريكي".

وبحسب اوساط مطلعة فإن الوزير الجديد جاء الى بغداد حاملا في جعبته خياراً واحداً ليضعه أمام الساسة العراقيين ألا وهو الابقاء على القوات الأميركية في العراق بعد عام 2011، بأي صيغة يقررونها ويتوافقون عليها بشرط ان تأتي منسجمة مع تصورات واشنطن.

وقبل ان يأتي بانيتا الى بغداد، حرص على دراسة تقارير وردت اليه من السفير الاميركي في بغداد جيمس جيفري تضمنت تفاصيل عن مجمل مواقف الكتل السياسية العراقية حيال بقاء القوات الاميركية في العراق الى ما بعد عام 2011، وكانت خلاصتها ان ثلثي اعضاء البرلمان العراقي (325 نائبا) والمؤلف من عدة كتل وقوى سياسية يؤيدون بقاء القوات الاميركية.

بيد انه اصطدم بواقع مختلف تماما على الأرض، اذ انه بعد وصوله بغداد بساعات عدة، تلقى تقريرا مطولا عن مواقف سياسية رافضة للوجود العسكري الاميركي من قبل مختلف القوى، ما عدا الاكراد. وحينما طرح الموضوع على رئيس الوزراء العراقي قال له "ان موضوع تمديد وجود قواتكم يتطلب موافقة كل الاطراف المشاركة في العملية السياسية"، بينما رد عليه رئيس الجمهورية جلال الطالباني قائلا بأن "الامر معقد وصعب جدا... ويتطلب مزيدا من الوقت للتوصل الى صيغة حل".

وبما أن الوزير بانيتا وصل الى قناعة مبكرة خلال زيارته بأنه من غير الممكن ابرام اتفاقية امنية جديدة بين بغداد وواشنطن، في ظل الاوضاع السياسية المرتبكة والمواقف المعقدة والمزايدات المحتدمة في المشهد العراقي، لذلك اوعز بالاسراع في إبرام بروتوكولات بمستوى وزاري بحيث لا يستلزم اقرارها والمصادقة عليها ان تمر عبر البرلمان العراقي، أي بعبارة اخرى يصار الى تفكيك الاتفاقية الأمنية الى مجموعة اتفاقات تعطى لها تسميات أخرى، وتضمن في نهاية المطاف بقاء خمسة وعشرين ألف جندي أميركي في ادنى تقدير.

وبالفعل، تحدثت وسائل الاعلام العراقية مؤخرا عن ابرام ما يسمى باتفاقية التسليح والتدريب بين وزارة الدفاع العراقية ونظيرتها الاميركية فضلا عن صياغة مسودة بروتوكول يقضي بتحديد تسعة مواقع عسكرية اميركية في خمس محافظات عراقية هي بغداد والبصرة والموصل وكركوك واربيل لتوفير الحماية للقنصليات والممثليات الدبلوماسية الاميركية في هذه المحافظات.

ولعل ليون بانيتا ـ وبعد ان وجد ان الامور على قدر كبير من التعقيد في بغداد ـ توجه الى اربيل للقاء رئيس اقليم كردستان وكبار القادة الأكراد لحثهم على بذل مزيد من الجهود لحلحلة الأمور مع اصحاب الشأن في العاصمة. وتنقل صحيفة "نيويوك تايمز" في عددها الصادر في اليوم الثاني لزيارة بانيتا الى العراق، عبارات للأخير تعكس تذمره واستياءه مما شاهده وسمعه من العراقيين، ما جعله يفشل في بلورة تصور واضح يمكنه من خلال التقدم الى الامام.

ويبدو بحسب المعطيات المتوافرة، أن الاسابيع القلائل المقبلة قد تشهد زيارات لعدد من المسؤولين الأميركيين الى العراق لتحقيق ما فشل في تحقيقه بانيتا، ويدرك أصحاب القرار في واشنطن ان عامل الوقت ليس في جانبهم، وما يزيد من احراجهم طبيعة الاوضاع السياسية المعقدة والشائكة في العراق، والتي لم يفلح بانيتا في فك بعض من عقدها لا سيما تسمية الوزراء الامنيين وإقرار المجلس الأعلى للسياسات الاستراتيجية. واذا لم نقل ان بانيتا قد فشل في مهمته الاولى بالعراق، فإن مؤشرات نجاح ملموسة لم تظهر على الأرض، وكذلك لم تَلُح في الأفق.



2011-07-15