ارشيف من :أخبار لبنانية
الانقسام الفلسطيني في مرآة الصحافة الإسرائيلية (2-2)
أنطـوان شلحــت
المصدر: عرب 48
سيناريوهات إسرائيلية لطرق العمل الممكنة بعد حدوث الانقسام الفلسطيني
تناولت الصحف الإسرائيلية طرق العمل التي يمكن للحكومة الإسرائيلية اتباعها إزاء الأوضاع الناشئة. ولدى إجمال هذه الطرق رأى الباحث الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية، شلومو بروم، من "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أن هناك خمسة طرق عمل جرى تداولها (23) وهي:
طريقة العمل الأولى ـ تشجيع الفصل بين المنطقتين، وتقوية سلطة فتح في الضفة الغربية في مقابل معاقبة سلطة حماس في غزة وإضعافها. وهذه هي الطريقة المفضلة تقريبًا ذلك لأن حركة حماس المسيطرة في قطاع غزة هي منظمة إسلامية مسلحة، لا تعترف بإسرائيل بل وتتطلع إلى تدميرها. في المقابل تسيطر على الضفة الغربية منظمة اعترفت بإسرائيل وترغب في التوصل إلى تسوية معها. من هنا ينبغي على إسرائيل دعم الأولى (فتح) والعمل على إضعاف الثانية (حماس). هناك من يقول إنه يمكن بهذه الطريقة تحويل مناطق "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) إلى قصة نجاح عن طريق تشجيع توسيع وتنمية النشاطات الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة، وذلك عقب رفع العقوبات الاقتصادية وتدفق أموال المساعدات الدولية وتحويل عوائد الضرائب التي تحتجزها إسرائيل، بالإضافة إلى ما يمكن أن تساهم به إسرائيل من خلال إزالة بعض الحواجز وتسهيل حركة التنقل وغيرها من الأعمال والخطوات التي من شأنها تعزيز مكانة حركة فتح، كالإفراج عن أسرى ومعتقلين فلسطينيين. في المقابل فإن قطاع غزة، الذي سيبقى خاضعاً للعقوبات الإسرائيلية والدولية، بالإضافة إلى ازدياد الضغوط عليه، سيتحول إلى حكاية فشل. والرهان هو أن الجمهور الفلسطيني، الذي سيشاهد الأداء المختلف للحكومتين (حكومة حماس في غزة وحكومة فتح في الضفة الغربية)، سيبتعد عن حركة حماس ليعود إلى دعم وتأييد حركة فتح.
طريقة العمل الثانية ـ تتمثل في محاولة خلق منافسة إيجابية بين الحكومتين (حكومة فتح في الضفة الغربية وحكومة حماس في القطاع) عن طريق الاستعداد للعمل مع كلتا الحكومتين. في هذه الحالة أيضًا ستكون الأفضلية لحكومة فتح في الضفة الغربية نظراً لأن الحكومات تحاكم أو تختبر بناء على أدائها وسلوكها، ومن الواضح أن الحكومة في الضفة ستعمل أكثر وفقاً لتوقعات إسرائيل والمجتمع الدولي، ولكن مع بقاء الاستعداد للعمل مع حكومة حماس وتمكينها من ممارسة عملها، وسوف تختبر هذه الحكومة بناء على أفعالها وما تحققه على أرض الواقع. فإذا ما تمكنت من المحافظة على الهدوء والاستقرار على الحدود مع إسرائيل فسوف تكافأ بناء على ذلك، وستتاح النشاطات الاقتصادية بصورة طبيعية مع إسرائيل إضافة إلى مساعدات دولية معينة. ويمكن الافتراض بأنه ستنشأ في هذه الظروف منافسة بين الحكومتين على من التي تستطيع أن توفر نظامًا أكثر وحياة أفضل للسكان الذين يعيشون تحت سلطتها.
في نطاق طريقة العمل هذه ستتعاون إسرائيل مع حركة حماس في تثبيت وقف إطلاق النار وتوطيده. إن من يؤيد طريقة العمل هذه سوف يقدر بصورة عامة أنه سيكون بالإمكان من خلالها تشجيع عملية تحول حركة حماس نحو البراغماتية والتي يمكن أن تجعلها في المستقبل البعيد جزءًا من الشريك الفلسطيني. ويُشار إلى أن أي محاولات فلسطينية وعربية للتوصل مجدداً إلى تفاهم بين فتح وحماس، لا تتناقض مع طريقة العمل هذه.
طريقة العمل الثالثة ـ استغلال الوضع الجديد من أجل تعزيز الانفصال عن غزة. والمقصود هو السعي إلى خلق وضع لا تكون فيه أي علاقات أو صلات بين إسرائيل وقطاع غزة وأن يتلقى القطاع كل ما يحتاجه عن طريق مصر.
الفرضية المطروحة هنا هي أن إسرائيل ستزيل بهذه الطريقة عن عاتقها المسؤولية عما يحدث في غزة. لكن المشكلة هي أن طريقة العمل هذه لا تقدم أي إجابة للمشكلات الحقيقية المتمثلة في الوضع الأمني والقدرة على التقدم نحو حل ما أو على الأقل إدارة معقولة للنزاع مع الفلسطينيين. ولكن الفرضية بأن إسرائيل ستعفي نفسها من أي مسؤولية عن غزة، تبدو عديمة الأساس لأنه طالما كانت إسرائيل تفرض حصاراً على قطاع غزة وتسيطر على المجالين الجوي والبحري فإن المجتمع الدولي لن يعفي إسرائيل من مسؤوليتها. إلى ذلك فإن الانفصال التام عن قطاع غزة يعني التخلي عن وسائل ضغط وتأثير تمتلكها إسرائيل في مواجهة قطاع غزة.
طريقة العمل الرابعة ـ استغلال الوضع الجديد لشن حملة عسكرية متواصلة ضد حماس في قطاع غزة، تؤدي إلى إضعاف قوة الحركة. الفرضية المطروحة هنا هي أن هناك الآن، في أعقاب سيطرة حماس بالقوة على غزة، مناخا دوليا مُؤاتيا أكثر للقيام بعمليات عسكرية (إسرائيلية) ضد حركة حماس، وأنه حتى الدول العربية وحكومة فتح في الضفة الغربية سوف تنظران بإيجابية إلى هذا التحرك (العسكري الإسرائيلي) حتى وإن لم تقولا ذلك جهاراً. وتنطلق طريقة العمل هذه من فرضية مؤداها أنه يتحتم على إسرائيل شن حرب لا هوادة فيها ضد حماس لأن الأخيرة حركة إسلامية متطرفة تتطلع إلى تدمير إسرائيل، وأنها (حماس) لن تغير أبدًا توجهها هذا. وبحسب المنطق ذاته فإن أي وقف لإطلاق النار إنما يصب في مصلحة حماس نظرًا لأنه يتيح للحركة إمكان استجماع قوتها والعودة إلى المعركة بقوى معززة.
طريقة العمل الخامسة ـ تتمثل ببساطة في عدم القيام بأي عمل. والفرضية هنا هي أن أي تدخل من جانب إسرائيل سيضر أكثر مما ينفع، والسؤال هو: هل ثمة خيار كهذا؟!
إن تبعية وتعلق المناطق الفلسطينية بإسرائيل كبيران جدًا بحيث أن أي عمل أو لا عمل من جانب إسرائيل يؤثر في تلك المناطق. وعلى سبيل المثال فإنه لا يمكن التهرب من السؤال: هل يجب السماح باستيراد وتصدير البضائع من وإلى غزة عن طريق إسرائيل؟ إن أي إجابة على هذا السؤال سيكون لها تأثير على الفلسطينيين.
فضلاً عن ذلك طرحت أيضاً أفكار تدعو إلى نشر قوة دولية في قطاع غزة تتولى فرض النظام. وجرى الحديث في شكل أساسي عن نشر قوة دولية على حدود قطاع غزة مع مصر تكون مهمتها منع عمليات تهريب الأسلحة. غير أن هذه الأفكار لا تبدو جادة أو حقيقية. فباستطاعة المجتمع الدولي أن يقرر نشر قوات لحفظ السلام عندما تكون هناك حربٌ أهلية ويكون الهدف تجنب كارثة إنسانية، وهذا غير قائم في قطاع غزة، فقد انتصرت حماس وبات الوضع في غزة مستقرًا. وثمة خيار آخر وهو نشر مثل هذه القوات كقوة فصل بين جيوشٍ متحاربة ولكن ذلك يبقى مرهونًا بموافقة هذه القوات المتنازعة، أي إسرائيل وحركة حماس. وبالقطع فإن حركة حماس لن توافق على نشر قوة دولية هدفها منع عمليات تهريب الأسلحة إلى عناصر الحركة. إلى ذلك فإنه ما من فرصةٍ في أن تتوفر دول توافق على إرسال قواتها بينما ترفض حركة حماس هذا الأمر.
وكان بروم قد أشار إلى أن الهدف الذي يجب على إسرائيل أن تسعى نحوه على المدى البعيد هو "التوصل إلى اتفاق مع شريك فلسطيني موثوق به وقادر على تطبيق الاتفاق القائم على حل دولتين لشعبين"، أما على المدى الأقرب فإن هدف إسرائيل "هو درء أي تهديدات على أمنها يكون مصدرها من المناطق الفلسطينية" (24).
لكن الصحف الإسرائيلية شهدت أيضًا مواقف دعت إلى "إعادة النظر" في حل الدولتين باعتباره الحل المبدئي الوحيد المطروح على بساط البحث، على الأقل منذ توقيع اتفاق أوسلو العام 1993، والعودة إلى الخيارات القديمة ومنها "الخيار الأردني" مثلاً. كما أنها شهدت مواقف طالبت بتركيز الاهتمام على الساحة الإيرانية وخفض الاهتمام بالساحة الفلسطينية، وذلك في ضوء الانقسام وتطورات إقليمية أخرى.ففي 3/7/2007 نشرت صحيفة هآرتس تقريراً مسهبًا على صفحتها الأولى، بقلم مراسلها السياسي في واشنطن شموئيل روزنر، ذكرت فيه أن "الخيار الأردني كحل للقضية الفلسطينية عاد ليحتل أخيراً مكانة مهمة على طاولة المباحثات السياسية". وتابعت "إن المؤشرات حول هذا التوجه تتراكم ببطء ولم يعد من الممكن الخطأ في تشخيصها"، لكنها زادت في التوضيح بقولها إن الخيار الأردني "الجديد" ليس بالضرورة أن يكون بالصيغة القديمة المعروفة (صيغة معسكر اليمين الصهيوني) القائلة إن "الأردن هو فلسطين" وإنما تنطلق من مبدأ "المساعدة الأردنية للفلسطينيين" أو "الكونفدرالية" أو "تنظيم العلاقات الأردنية- الفلسطينية" أو "أي مسمى آخر". وأردفت أن "هذا الطرح لم يعد مقتصرًا على رجال اليمين المتطرف الذين يعارضون قيام دولة فلسطينية، بل أصبحت المسألة الفلسطينية الأردنية مطروحة أيضًا على جدول أعمال أوساط أميركية مركزية ومؤثرة". ودعا وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه أرنس، بشكل لا يقبل التأويل، إلى ضرورة تخلي صناع القرار في إسرائيل عن نموذج الدولتين لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، والبحث عن حلول وبدائل أخرى لم يستثنِ منها بشكل جازم تكريس "فصل" قطاع غزة (في ضوء سيطرة حماس على السلطة هناك) عن الضفة الغربية وتجزئة الحل، حتى ولو كانت خيارات "إعادة المنطقتين إلى وضعيهما السابق لحرب حزيران/ يونيو 1967" (أي أن تكون الضفة الغربية خاضعة إلى الأردن، وقطاع غزة خاضعًا إلى مصر) مطروحة في هذه الأثناء كـ "مسائل نظرية". وأكد قائلاً إن نموذج حل الدولتين الذي "بدا حتى الآن مسألة مفروغا منها أصبح محل علامة استفهام في أعقاب أعمال العنف الأخيرة في غزة". وتساءل "هل من المتوقع حقاً أن ينجح (الرئيس) محمود عباس في فرض سلطته في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وأن يجتاز التحدي الأصعب المتمثل في استعادة السلطة في غزة من يدي حماس؟!". وختم قائلاً "حسبما تبدو الأمور الآن، من الأفضل (لإسرائيل) الشروع بالبحث عن نموذج جديد للحل" (25).
وكانت شخصيات مهمة أخرى في إسرائيل قد دعت في ذلك الوقت إلى التفكير بالعودة إلى "الخيار الأردني"، ومن بينها زعيم المعارضة اليمينية (حزب الليكود) بنيامين نتنياهو، الذي تحدث علانية عن الحاجة إلى "إدخال قوات أردنية" إلى الضفة الغربية "للمساعدة في فرض النظام"، فيما اقترح الباحث في "مركز شاليم" المتماهي مع اليمين، مايكل أورن، العودة إلى فكرة "الحكم الذاتي" على أن يبقى "الأمن خاضعاً لمسؤولية إسرائيلية- أردنية مشتركة" (26).
ووفقاً لصحيفة هآرتس فإن الحديث عن "العودة إلى الخيار الأردني" لا يقتصر على شخصيات اليمين بل سبقها إلى ذلك رئيس إسرائيل الطازج شمعون بيريس، والذي نقلت عنه الصحيفة قوله في شهادته أمام لجنة فينوغراد لفحص إخفاقات حرب لبنان الثانية "علينا أن نبحث عن مبنى جديد للعلاقة مع الفلسطينيين. إنني في قرارة نفسي قد عدت إلى الاستنتاج الذي آمنت به دوما وهو أننا ملزمون بجلب الأردنيين... لا يمكننا أن نصنع السلام مع الفلسطينيين فقط".
على صلة بذلك، فإن عوزي أراد، الأستاذ الجامعي والمستشار السياسي المقرّب من نتنياهو، أكد أن الجهد الرئيسي يجب أن يصبح الآن (بعد الانقسام) موجهًا نحو الساحة الإيرانية لا الفلسطينية، وذلك بهدف التركيز على منع تحوّل إيران إلى دولة نووية. والطرف الذي يجب تعزيز قوته، تبعًا لذلك، هو إسرائيل ذاتها لا محمود عباس. وبرأيه فإن تعزيز قوة إسرائيل، خصوصًا في المجال العسكري، هو واجب الساعة، لأنه تكشفت في هذا المجال تصدعات مهمة خلال الحرب الأخيرة (على لبنان). والحلول السياسية اللائقة يمكن التوصل إليها فقط على أساس امتلاك القوة السياسية والعسكرية. كما يمكن التوصل إلى تهدئة عن طريق الردع، لكن ذلك يحتاج إلى قوة عسكرية مقنعة. ويجب أن يكون هدف تعزيز الردع في مكان أعلى من سلم أولويات الصناعات الأمنية. وهذا الأمر ناجم أيضًا عن التطورات خلال العام الفائت التي أشارت إلى أنّ إيران وسورية وحزب الله وحماس توصلوا إلى الاستنتاج بأن إسرائيل لا تمتلك ردًا دفاعيًا على قدراتهم الصاروخية. وحتى إذا نجحت إسرائيل في ترميم قوة ردعها قليلاً في مقابل حزب الله فإن إدارة المعركة في حرب لبنان الثانية والتطورات منذ تلك الحرب تدل على تآكل هيبة الردع الإسرائيلية حيال سورية. المطلوب من إسرائيل هو أن تعزّز عناصر ردعها في مقابل التهديدات الماثلة أمامها. والتحدي الرئيسي هو في مواجهة التهديد الإيراني. من هنا تأتي الحاجة إلى التجنيد الشامل وإلى إستراتيجيا التعاظم بما في ذلك التعاظم الاقتصادي والارتباط بتحالفات دفاعية. وإذا كان الانهماك الإسرائيلي الحالي بالساحة الفلسطينية يستهدف شق الطريق للمواجهة الأكثر فاعلية مع المسألة الإيرانية من طرف الأسرة الدولية، فإنه ينطوي على فائدة. لكن إذا لم يكن هذا هو هدفه فسيؤدي الأمر إلى صرف الأنظار عن ضرورة مواجهة المعركة الرئيسية (27). الطريـق إلى أنابوليـس لعل طريقة العمل التي يجب التوقف عندها بقدر مناسب من التفصيل، من بين طرق العمل الممكنة السالفة كلها، هي تلك التي أفضت في مرحلة لاحقة إلى عقد مؤتمر أنابوليس الدولي للسلام في الشرق الأوسط في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، والذي أسفر عن استئناف المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية من أجل التوصل إلى اتفاق مبادئ يتعلق بالحل الدائم للنزاع. وقد توقفت هذه المفاوضات من دون أن تصل إلى أي اتفاق كهذا عقب قيام إسرائيل بشنّ الحرب على غزة في شتاء 2009، والتي أسميت في القاموس الإسرائيلي "عملية الرصاص المصبوب".
وبحسب الصحافة الإسرائيلية فإن الطريق إلى أنابوليس بدأت من لحظة "اعتقاد القيادة الإسرائيلية بأن سيطرة حماس على قطاع غزة تفتح نافذة فرص نادرة" لإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية (28). وقد لاح هذا الأمر بداية في سياق اللقاء الذي عقد في 19 حزيران/ يونيو 2007 في البيت الأبيض بين الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت. ووفقًا لتقرير صحافي مشترك كتبه المراسل السياسي لصحيفة هآرتس ومراسل الصحيفة في واشنطن، فإنه خلال اللقاء قدّم بوش وأولمرت جوابين مختلفين عن السؤال بشأن ما الذي يمكن عمله في ضوء الوضع المعقد الناجم عن الصراع في غزة؟.
فبوش كان يرى الأحداث في غزة جزءًا من "مواجهة أيديولوجية كبرى" بين القوى المتطرفة في المنطقة التي تسعى إلى السيطرة على الشرق الأوسط، وبين "الديمقراطية العراقية والديمقراطية اللبنانية والديمقراطية الفلسطينية العتيدة". وكان لا يزال يعتقد بأن تشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط هو الردّ اللائق على المتطرفين الإسلاميين. وبذا فقد وجّه أيضًا رسالة سياسية إلى خصومه الديمقراطيين في أميركا، مؤداها أنه ليس في وسع الراغبين في إقامة دولة فلسطينية أن يطالبوا في موازاة ذلك بانسحاب القوات الأميركية من بغداد. في مقابل هذا حاول أولمرت أن يعرض سيطرة حماس على غزة، والتي يوجد إجماع على كونها مشكلة كبيرة لإسرائيل، باعتبارها "فرصة كبرى". والمقصود فرصة للتفاوض مع محمود عباس الذي تحرّر من التحالف مع حماس وأصبح بحاجة أكثر من ذي قبل إلى دعم إسرائيل من أجل البقاء. لكن كي لا يعتبر ذلك وعدًا يفتقر إلى رصيد فإن أولمرت سارع إلى القول "إني أقترح أن نفرّق ما بين الفرصة والتفاؤل". وفسّر ذلك بالقول: "لم أقل بأني متفائل. قلت إنه إلى جانب الأحداث الخطرة نشأ وضع يمكن أن يكون قد أوجد فرصة أيضًا". إنّ ترجمة ذلك هو أن أولمرت لم يعد بأي شيء يذكر. وتفاخر بوش بأن أولمرت ملتزم مثله بـ "رؤية الدولتين"، التي أصبحت في الفترة القليلة الفائتة أكثر بعدًا عن التطبيق. لكن رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، بدا أكثر تحفظًا وهو يتحدث إلى الصحافيين الإسرائيليين. ولكن التقرير ختم بالقول: إن أولمرت يتحدث عن نقل أموال وعن تعزيز الأجهزة الأمنية التابعة لعباس، وكذلك عن وعود أخرى بإزالة حواجز في الضفة الغربية، وثمة شك كبير في صدقيتها بحسب ما أثبتت تجربة الماضي (29).
ورأى كبير المعلقين السياسيين في صحيفة يديعوت أحرونوت، ناحوم برنياع، في معرض تعقيبه على نتائج هذا اللقاء، أن ما يفكر فيه كل من بوش وأولمرت هو مجرّد أضغاث أحلام. وكتب يقول: كل شيء يبدو على ما يرام. فالرئيس الأميركي ودي ويكنّ حبًّا حقيقيًا لرئيس حكومتنا. وكلاهما يتكلمان اللغة نفسها ونواياهما حسنة. لكن هناك مشكلة صغيرة فقط، هي أن كل حلمهما المشترك تجاه الموضوع الفلسطيني هو أشبه ببرج مبنيّ في الهواء. وهناك شك فيما إذا كانا مؤمنين به، فضلاً عن أن هناك شكوكًا فيما إذا كان ثمة من يؤمن به. عندما احتل الحمساويون غزة كانت الرسالة التي صدرت من القدس وواشنطن متفائلة. فمع كل الأسف على فقدان غزة حدث أمر إيجابي، هو انكشاف الوجه الحقيقي لحماس. وقد نشأت دولتان: حماستان في غزة وفتح لاند في الضفة. العالم سيفرض حظرًا على حماس وفي موازاة ذلك تنشر إسرائيل والولايات المتحدة رعايتها على حكومة فتح. لكن أولاً، إن هذا الفصل غير مقبول على الفلسطينيين. فتح لم تتنازل عن غزة وحماس لم تتنازل عن الضفة. وثانيًا، إن فتح تعاني من انقسامات ونزاعات بحيث من المشكوك فيه أن يكون في وسعها أن تقود مؤسسة سلطوية مستقرة تستجيب مع توقعات الولايات المتحدة وإسرائيل. أولمرت قال لنا: "لم أقل إني متفائل. ما قلته فقط هو أنّ هناك فرصة". لقد شاهد أولمرت الصور القاسية من غزة واعتقد بأن العالم سيحرره من الضغط للتفاوض مع حكومة فلسطينية تشارك فيها هذه الحركة الدموية. وقد شعر بالارتياح، لكنه ارتياح مؤقت، لأنه لا يدفع قدمًا أمن إسرائيل في مقابل الفلسطينيين. في واقع الأمر فإن كلا من بوش وأولمرت يقبعان في حضيض متواصل في استطلاعات الرأي العام. وبينما تحسّن وضع أولمرت في الفترة الأخيرة فإن وضع بوش ازداد سوءًا. ذات مرّة قالوا لليفي أشكول (رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق) إن هناك محلاً (قحطًا). وعندما سأل أين وأجابوا بأنه في إسرائيل، قال أشكول: الحمد لله. أكون قلقًا أكثر عندما يكون المحل في أميركا. ولا شك في أن إدارة يوش تعاني الآن من محلٍ شديد (30).
من المعروف أن المبادرة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط (والتي أسفرت عن انعقاد مؤتمر أنابوليس) جاءت في سياق الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي جورج بوش في البيت الأبيض يوم 16 تموز/ يوليو 2007، لكن مصادر رفيعة المستوى في ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية أكدت أنه من بنات أفكار أولمرت، وقالت إن "رئيس الحكومة عرض الفكرة خلال زيارته إلى واشنطن ولقائه الرئيس بوش قبل ثلاثة أسابيع (من إلقاء الخطاب)، ويتفق رئيس الحكومة والرئيس الأميركي على أن ثمة حاجة إلى مظلة دولية تقدّم ضمانات وتطمينات على طريق التسوية الدائمة مع الفلسطينيين" (31). وفيما يتعلق بالخطاب نفسه أضافت هذه المصادر نفسها أنه "يرسم طريقًا تنسجم مع موقف إسرائيل إزاء معظم المسائل المدرجة في جدول الأعمال الفلسطيني"، مشيرة إلى أن الأميركيين "ظلوا محافظين على رؤيتهم وعلى الخط الذي أعلنه الرئيس بوش في خطابه قبل خمسة أعوام (بشأن "رؤية الدولتين")، وأن الرئيس بوش أصرّ على أن مكافحة الإرهاب تسبق العملية السياسية، فضلاً عن أن رؤية الدولتين التي عرضها في خطابه تكمّل تصريحات سابقة أدلى بها في هذا الخصوص" (32).لكن المراسل السياسي لصحيفة هآرتس، ألوف بـن، أشار إلى أن بوش وعد بمضاعفة الجهد الأميركي "من أجل تعزيز ثقة جميع الأطراف بحلّ الدولتين"، وهذا أمر يبدو جيدًا، لكنه أقل كثيرا من الإعلان الذي أطلقه في مستهل ولايته الرئاسية الثانية ووعد فيه "باستثمار الرأسمال الأميركي في إقامة دولة فلسطينية". وأضاف: امتنع بوش من إطلاق الوعود بإقامة دولة فلسطينية، واكتفى بوضع الفلسطينيين أمام معضلة، بدعوتهم أن يختاروا إمّا المتطرفين من حماس وإمّا الثنائي المعتدل المؤلف من الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض. وهاجم بوش حماس بتعابير قاسية. وقد عقب مصدر سياسي رفيع المستوى في القدس على تصريحات بوش بقوله: "حتى نحن لا نتحدث عن حماس على هذا النحو". وعرض بوش خطة ذات مرحلتين: في المرحلة الأولى يطهّر الفلسطينيون صفوفهم من الإرهاب والفساد بحسب توجيهات "خريطة الطريق". وإذا ما التزموا بذلك تبدأ، في المرحلة الثانية، مفاوضات إسرائيلية- فلسطينية حول الحل الدائم، تبحث فيها المسائل الرئيسية وهي الحدود واللاجئون والقدس. ووافق بوش على مطلب عباس البحث في الحل الدائم بصورة مباشرة والقفز عن المرحلة الانتقالية التي تقام خلالها دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة. لكن ما من سبب يدعو رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، الذي يرفض البحث الآن في الموضوعات الرئيسية، إلى القلق، فقد حصل على مهلة تستمر حتى تصبح السلطة الفلسطينية نظيفة من الإرهابيين والفاسدين. وفي ديوان أولمرت أعربوا عن رضاهم من الخطاب. وسمحت تعابير بوش القاسية ضد حماس لأولمرت أن يهدّد عباس "بتفجير العملية السياسية" إذا ما عاد إلى التحالف مع هذه الحركة. وكان الطلب الوحيد الذي وجهه بوش إلى إسرائيل هو إخلاء البؤر الاستيطانية غير القانونية وأولمرت مستعد لذلك. أما التجديد الرئيسي في الخطاب، والمتمثل في مبادرة عقد مؤتمر دولي في الخريف، فإنه يستجيب مع رغبة رئيس الحكومة المحتاج إلى إنجاز سياسي عشية تقرير لجنة فينوغراد النهائي (التي تقصت وقائع حرب لبنان الثانية) (33).
ونوهت الصحافة الإسرائيلية بأنه، في إثر التطورات السابقة، تم في شهر آب/ أغسطس 2007 توقيع اتفاق لاستئناف التنسيق الأمني بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وقامت إسرائيل بتلبية مطالب فلسطينية منها: الإفراج عن أسرى، تحرير أموال مجمدة، استيراد سلاح، وقف مطاردة حوالي مئتي مطلوب في الضفة الغربية، عقد لقاءات سياسية على أرفع مستوى، نشر اقتراحات سلام بعيدة المدى. وعلاوة على ذلك فإن الناطقين الرسميين باسم الحكومة (إيهود أولمرت وحاييم رامون وتسيبي ليفني) أشاروا إلى استعدادهم لأن يبحثوا مع القيادة الفلسطينية في مسائل ارتدعوا عن التداول فيها إلى الآن، مثل سحب الجيش الإسرائيلي من مدن الضفة الغربية ومبادئ الحل الدائم. بل إن رامون رسم بشكل واضح خريطة سلام تشبه إلى حد كبير تلك التي وضعها إيهود باراك على طاولة ياسر عرفات في مؤتمر كامب ديفيد في تموز/ يوليو العام 2000.
واعتبر عوزي بنزيمان هذه "التنازلات الإسرائيلية للسلطة الفلسطينية" مباركة وحيوية، لكنها تثير سؤالا حول سبب تأخر حدوثها إلى الآن. وأضاف: في الظاهر يبدو أن سرّ هذا التحمس الحكومي الإسرائيلي مفهوم ضمنًا، إذ إن محمود عباس وسلام فياض قد غيرا نمط سلوكهما. إنهما الآن يتكلمان عن السلام وقد تنازلا عن كلمة "المقاومة" في الوثائق الرسمية ويبديان الاستعداد العملي لضمان سيادتهما على الضفة الغربية ويسعيان إلى طرد حماس من غزة. غير أن هذا التفسير يستند إلى فرضية إطلاقية مفادها أن الواقع القائم في القطاع والضفة في تموز/ يوليو 2007 فرضته قوة عليا، ولم يكن في وسع إسرائيل التأثير عليه. ولا يمكن عدم ذكر أن نفس الطلبات التي تستجيب إسرائيل لها الآن سبق أن طرحها عباس في الماضي عندما كان رئيسًا للوزراء في ظل ياسر عرفات. إن مجرد هذا يثير التساؤل فيما إذا كانت إسرائيل تعمل بقصد مسبق أن تكون بوادر حسن النية للبروتوكول فقط لأنه ليس في وسعها تغيير الواقع الناشئ في السلطة الفلسطينية. بكلمات أخرى: هل يجوز أن أولمرت يقدّر بأن عباس وفياض لن يفلحا في البقاء طويلاً في رام الله وأيضًا في العودة إلى قصر الرئاسة في غزة، ولذا فإن كل إجراءاته وتصريحاته تستهدف أن توفّر له ذريعة لتبرئة الذمة؟ (34).
وتوقف ألوف بـن عند مشكلتين يواجههما أولمرت وتقفان وراء تحركاته هذه: الأولى هي الصعوبة في إقناع الجمهور الإسرائيلي والأسرة الدولية بأنّ حكومته جادة في نيتها التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين ومستعدة لأن تدفع ثمنها بالانسحاب من المناطق الفلسطينية (المحتلة) وإخلاء المستوطنات. والثانية هي أن لديه القليل مما يتفاخر به بعد عام ونصف عام على تسلمه منصب رئيس الحكومة. صحيح أن الوضع الاقتصادي ممتاز، لكن النجاح هنا يعزى إلى بنيامين نتنياهو. وما يذكره الجمهور لأولمرت هو الحرب الفاشلة وغير الشعبية على لبنان وتقارير فينوغراد وشاحك ومراقب الدولة وكذلك التقدير الشائع بأنه منهمك بالبقاء الشخصي والسياسي. ولذا يزداد الاعتراف في محيط رئيس الحكومة بأنه لا بديل من مبادرة سياسية إسرائيلية تنقذ أولمرت من محنته لدى الرأي العام وتترك بصماته على تاريخ إسرائيل. ومن الأفضل أن يدور الجدل بين الجمهور على اتفاق سلام أو انسحاب من المناطق بدلا من الجدل على قضايا فساد أو ما شابه ذلك (35). هذا ما فعله أيضًا سلفه، أريئيل شارون، الذي قرّر الانسحاب من غزة في لحظة محنة سياسية وعزلة دولية وتحقيقات جنائية. كما أن الظروف الخارجية تميل الآن لصالح عملية سياسية. وثمة من يمكن التفاوض معه في السلطة الفلسطينية. ومثل أولمرت، فإنّ عباس وفيّاض يفهمان أنهما إذا لم يتقدما إلى الأمام فسيغرقان هما أيضًا. والرئيس جورج بوش وتوني بلير (مبعوث "الرباعية الدولية") ومصر والأردن مستعدون لمدّ يد المساعدة من الخارج، كلّ لأسبابه الخاصة. وبالتالي فإنّ اقتراح أولمرت التوصل إلى اتفاق مبادئ بشأن الدولة الفلسطينية سيحلّ له، برأي المعلق نفسه، بضع مشكلات مرّة واحدة: أولاً- يمكّنه من الإمساك بزمام المبادرة والقيادة؛ ثانيًا- يعزّز رسالة فحواها أنّ إسرائيل راغبة في التسوية؛ ثالثًا- يتجاوب مع المطلب الدولي بأن تقدّم إسرائيل "أفقًا سياسيًا" للمعتدلين الفلسطينيين؛ رابعًا- لقد رغب أولمرت في التنازل عن المناطق (المحتلة) بانسحاب أحاديّ الجانب (وفق خطة الانطواء) وإذا ما وقع عباس على الصفقة فسيحصل الأول على مقابل لما كان مستعدًا لمنحه مجانًا؛ خامسًا- الاتفاق سيغيّر الواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة وينحي جانبًا مشكلة اللاجئين؛ سادسًا- إنّ بلورة التفاصيل وتنفيذ الاتفاق سينتظران إقرار اتفاق المبادئ من خلال انتخابات فلسطينية وتصويت في الكنيست، وهذا يعني كسب مزيد من الوقت بين التوقيع على الاتفاق وإجلاء المستوطنين؛ أخيرًا- لا يمكن التغاضي عن احتمال حصول رئيس الحكومة على مردود سياسي وشخصي، وبذا فإنّ ترشيحه لولاية أخرى في مقابل نتنياهو (رئيس الليكود) وإيهود باراك (رئيس حزب العمل) قد يبدو جادًا ولديه احتمال النجاح (36).
أمّا الباحث ميرون بنفينستي فقد أشار إلى وجود تفسيرات عديدة لانطلاق هذه الطاقات السياسية كلها بشكل فجائي خلال تلك الفترة. ومن بين تلك التفسيرات حاجة الرئيس جورج بوش إلى عرض خطة تنقذ ما بقي له من هيبة في المنطقة مع انتهاء ولايته الفاشلة، وحاجة إيهود أولمرت إلى عرض إنجاز سياسي عشية نشر التقرير الكامل للجنة فينوغراد، والحاجة إلى تلبية الطلب الصادر من جميع الاتجاهات بشأن "تعزيز قوة محمود عباس". كما أن هناك حاجة عميقة لإخراج معسكر السلام الإسرائيلي من دائرة اليأس وتزويده بوجبة إيجابية تمكنه من مواصلة الاعتقاد بأن غالبية الجمهور الإسرائيلي تؤيد حلّ الدولتين وبأن أيديولوجيا أرض إسرائيل الكاملة لفظت أنفاسها الأخيرة حتى لدى معسكر اليمين. وتشكل العملية السياسية التي يديرها أولمرت وبوش وتدًا يمكن ربط هذا التفاؤل به. غير أن المشكلة كامنة في أن الواقع الحقيقي لا يظهر إشارات إلى خضوعه للنظريات والتمنيات، فالاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية مستمر بوتائر سريعة، ونظام فصل وتدمير المجتمع الفلسطيني يزداد رسوخًا، وعملية إقامة الجدار الفاصل متواصلة، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة يكاد يتخذ طابع الفصل الجيو- سياسي شبه الثابت، واحتمال أن ينجح عباس في ترسيخ سلطة مستقرة في الضفة الغربية يبدو بعيدًا. وبرأيه يمكن لهذه العملية السياسية أن تعيد مسار أوسلو المدمر، أي أن تخلق الوهم بأن هناك تقدمًا يتغذى من الحاجة الطبيعية إلى تطوير الأمل، غير أن النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني لم يعد في وسعه أن يتحمل وهمًا آخر (37). إجمالا تعاملت الصحافة الإسرائيلية، في معظمها، مع موضوع الانقسام الفلسطيني من خلال إبراز محصلات ترتبط بكيفية ما مع ما سبقها من أحداث وسيرورات، وكان في مقدمها ما يلي:
- تنمية قناعة إسرائيلية بعدم وجود شريك فلسطيني، وبعدم جدوى التفاوض مع السلطة الفلسطينية التي أمست أكثر وهنًا عقب الانقسام، وباستحالة التوصل إلى اتفاق دائم وفقًا للشروط الإسرائيلية؛
- العودة إلى البحث عن الحلول الغابرة، ومن ضمنها الحديث عن الحل الأردني للضفة الغربية والحل المصري لغزة، وذلك في سياق أعمّ هو التشكيك في إمكان "حل الدولتين" باعتباره الصيغة المبدئية الوحيدة المدرجة في جدول الأعمال منذ اتفاق أوسلو؛
- تجيير الانقسام بواسطة اعتباره "فرصة" للتفاوض مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي "تحرّر" من التحالف مع حماس وأصبح بحاجة أكثر من ذي قبل إلى دعم إسرائيل من أجل البقاء، وفي المقابل فإن هذا التفاوض اعتبر "فرصة شخصية" لتحقيق إنجازات ملموسة، أولاً لرئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت، الذي كان واقعًا تحت وطأة تحقيقات سياسية جراء إخفاقه في حرب لبنان الثانية وتحقيقات جنائية بشبهات تتعلق بالفساد وتلقي رشى مالية واعتبر نتيجة ذلك فاقدًا الشرعية أو بمثابة "حصان خاسر"، وثانيًا للرئيس الأميركي جورج بوش، الذي كان على وشك إنهاء ولاية رئاسية مليئة بالإخفاقات؛
- أدى اجتماع هذه الفرص كلها إلى عقد مؤتمر أنابوليس في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، والذي انطلقت منه المفاوضات على قضايا الحل الدائم بين الجانبين. وتمثلت طريقة العمل التي اختيرت في إطار مسار أنابوليس في إقامة عملية متوازية: من جهة إجراء مفاوضات حول الاتفاق الدائم ومحاولة التوصل إلى إجمال ناجح لهذه العملية حتى نهاية العام 2008، ومن جهة أخرى الشروع بتنفيذ المرحلة الأولى من "خريطة الطريق"، التي تتمحور أساسًا حول المجال الأمني. وفيما بعد جرى تطوير فكرة التوصل إلى "اتفاق رفّ" (مؤجل)، أي اتفاق لا ينفذ مباشرة بعد التوصل إليه وإنما يجري تنفيذه ضمن عملية متدرجة تتحدد وتيرتها بناء على النجاح في بناء قدرات السلطة الفلسطينية ولا سيما القدرات الأمنية. ومع أن الحرب الإسرائيلية على غزة في نهاية 2008 ومطلع 2009 تسببت على نحو مباشر بإيقاف هذا المسار، إلا إنه لم يكن قد حقق أي نجاح سياسي يُذكر قبل تلك الحرب، الأمر الذي فسح المجال أمام حملة كبيرة من التشكيك فيما إذا كان بالإمكان الاستمرار في العملية وفق رؤية أنابوليس، وأعطى المبرّر لتواتر الدعوات الإسرائيلية إلى التفكير برؤية أو برؤى أخرى بديلة منه، في وقت كانت إسرائيل فيه متجهة نحو انتخابات عامة جديدة أجريت في شباط/ فبراير 2009 وأسفرت عن فوز اليمين وتشكيل حكومة برئاسة بنيامين نتنياهو تستند أساسًا إلى أحزاب اليمين.
ــــــــــــــــ
الهوامش:
23. شلومو بروم، خيارات لسياسة إسرائيلية في أعقاب سيطرة حماس على غزة، ميكود إستراتيجي، عدد 7، 19/6/2007
24. المصدر نفسه.
25. هآرتس، 5/7/2007
26. هآرتس، 1/7/2007
27. يديعوت أحرونوت، 18/7/2007
28. عوزي بنزيمان، هآرتس، 20/6/2007
29. هآرتس، 20/6/2007
30. يديعوت أحرونوت، 20/6/2007
31. يديعوت أحرونوت، 17/7/2007
32. المصدر نفسه.
33. هآرتس، 17/7/2007
34. هآرتس، 30/7/2007
35. في تلك الفترة بدأ الحديث عن شبهة تورط أولمرت بمجموعة من قضايا الفساد، وفي فترة لاحقة، في ربيع 2008، كشفت الشرطة الإسرائيلية عن أنها تجري تحقيقا معه بشبهة حصوله على رشى مالية من المليونير الأميركي اليهودي موريس تالانسكي. وأوصت الشرطة الإسرائيلية النيابة العامة بتقديم لائحة اتهام ضده بشبهة ارتكابه سلسلة أعمال فساد.
36. هآرتس، 26/7/2007
37. هآرتس، 19/7/2007
المصدر: عرب 48
سيناريوهات إسرائيلية لطرق العمل الممكنة بعد حدوث الانقسام الفلسطيني
تناولت الصحف الإسرائيلية طرق العمل التي يمكن للحكومة الإسرائيلية اتباعها إزاء الأوضاع الناشئة. ولدى إجمال هذه الطرق رأى الباحث الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية، شلومو بروم، من "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أن هناك خمسة طرق عمل جرى تداولها (23) وهي:
طريقة العمل الأولى ـ تشجيع الفصل بين المنطقتين، وتقوية سلطة فتح في الضفة الغربية في مقابل معاقبة سلطة حماس في غزة وإضعافها. وهذه هي الطريقة المفضلة تقريبًا ذلك لأن حركة حماس المسيطرة في قطاع غزة هي منظمة إسلامية مسلحة، لا تعترف بإسرائيل بل وتتطلع إلى تدميرها. في المقابل تسيطر على الضفة الغربية منظمة اعترفت بإسرائيل وترغب في التوصل إلى تسوية معها. من هنا ينبغي على إسرائيل دعم الأولى (فتح) والعمل على إضعاف الثانية (حماس). هناك من يقول إنه يمكن بهذه الطريقة تحويل مناطق "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) إلى قصة نجاح عن طريق تشجيع توسيع وتنمية النشاطات الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة، وذلك عقب رفع العقوبات الاقتصادية وتدفق أموال المساعدات الدولية وتحويل عوائد الضرائب التي تحتجزها إسرائيل، بالإضافة إلى ما يمكن أن تساهم به إسرائيل من خلال إزالة بعض الحواجز وتسهيل حركة التنقل وغيرها من الأعمال والخطوات التي من شأنها تعزيز مكانة حركة فتح، كالإفراج عن أسرى ومعتقلين فلسطينيين. في المقابل فإن قطاع غزة، الذي سيبقى خاضعاً للعقوبات الإسرائيلية والدولية، بالإضافة إلى ازدياد الضغوط عليه، سيتحول إلى حكاية فشل. والرهان هو أن الجمهور الفلسطيني، الذي سيشاهد الأداء المختلف للحكومتين (حكومة حماس في غزة وحكومة فتح في الضفة الغربية)، سيبتعد عن حركة حماس ليعود إلى دعم وتأييد حركة فتح.
طريقة العمل الثانية ـ تتمثل في محاولة خلق منافسة إيجابية بين الحكومتين (حكومة فتح في الضفة الغربية وحكومة حماس في القطاع) عن طريق الاستعداد للعمل مع كلتا الحكومتين. في هذه الحالة أيضًا ستكون الأفضلية لحكومة فتح في الضفة الغربية نظراً لأن الحكومات تحاكم أو تختبر بناء على أدائها وسلوكها، ومن الواضح أن الحكومة في الضفة ستعمل أكثر وفقاً لتوقعات إسرائيل والمجتمع الدولي، ولكن مع بقاء الاستعداد للعمل مع حكومة حماس وتمكينها من ممارسة عملها، وسوف تختبر هذه الحكومة بناء على أفعالها وما تحققه على أرض الواقع. فإذا ما تمكنت من المحافظة على الهدوء والاستقرار على الحدود مع إسرائيل فسوف تكافأ بناء على ذلك، وستتاح النشاطات الاقتصادية بصورة طبيعية مع إسرائيل إضافة إلى مساعدات دولية معينة. ويمكن الافتراض بأنه ستنشأ في هذه الظروف منافسة بين الحكومتين على من التي تستطيع أن توفر نظامًا أكثر وحياة أفضل للسكان الذين يعيشون تحت سلطتها.
في نطاق طريقة العمل هذه ستتعاون إسرائيل مع حركة حماس في تثبيت وقف إطلاق النار وتوطيده. إن من يؤيد طريقة العمل هذه سوف يقدر بصورة عامة أنه سيكون بالإمكان من خلالها تشجيع عملية تحول حركة حماس نحو البراغماتية والتي يمكن أن تجعلها في المستقبل البعيد جزءًا من الشريك الفلسطيني. ويُشار إلى أن أي محاولات فلسطينية وعربية للتوصل مجدداً إلى تفاهم بين فتح وحماس، لا تتناقض مع طريقة العمل هذه.
طريقة العمل الثالثة ـ استغلال الوضع الجديد من أجل تعزيز الانفصال عن غزة. والمقصود هو السعي إلى خلق وضع لا تكون فيه أي علاقات أو صلات بين إسرائيل وقطاع غزة وأن يتلقى القطاع كل ما يحتاجه عن طريق مصر.
الفرضية المطروحة هنا هي أن إسرائيل ستزيل بهذه الطريقة عن عاتقها المسؤولية عما يحدث في غزة. لكن المشكلة هي أن طريقة العمل هذه لا تقدم أي إجابة للمشكلات الحقيقية المتمثلة في الوضع الأمني والقدرة على التقدم نحو حل ما أو على الأقل إدارة معقولة للنزاع مع الفلسطينيين. ولكن الفرضية بأن إسرائيل ستعفي نفسها من أي مسؤولية عن غزة، تبدو عديمة الأساس لأنه طالما كانت إسرائيل تفرض حصاراً على قطاع غزة وتسيطر على المجالين الجوي والبحري فإن المجتمع الدولي لن يعفي إسرائيل من مسؤوليتها. إلى ذلك فإن الانفصال التام عن قطاع غزة يعني التخلي عن وسائل ضغط وتأثير تمتلكها إسرائيل في مواجهة قطاع غزة.
طريقة العمل الرابعة ـ استغلال الوضع الجديد لشن حملة عسكرية متواصلة ضد حماس في قطاع غزة، تؤدي إلى إضعاف قوة الحركة. الفرضية المطروحة هنا هي أن هناك الآن، في أعقاب سيطرة حماس بالقوة على غزة، مناخا دوليا مُؤاتيا أكثر للقيام بعمليات عسكرية (إسرائيلية) ضد حركة حماس، وأنه حتى الدول العربية وحكومة فتح في الضفة الغربية سوف تنظران بإيجابية إلى هذا التحرك (العسكري الإسرائيلي) حتى وإن لم تقولا ذلك جهاراً. وتنطلق طريقة العمل هذه من فرضية مؤداها أنه يتحتم على إسرائيل شن حرب لا هوادة فيها ضد حماس لأن الأخيرة حركة إسلامية متطرفة تتطلع إلى تدمير إسرائيل، وأنها (حماس) لن تغير أبدًا توجهها هذا. وبحسب المنطق ذاته فإن أي وقف لإطلاق النار إنما يصب في مصلحة حماس نظرًا لأنه يتيح للحركة إمكان استجماع قوتها والعودة إلى المعركة بقوى معززة.
طريقة العمل الخامسة ـ تتمثل ببساطة في عدم القيام بأي عمل. والفرضية هنا هي أن أي تدخل من جانب إسرائيل سيضر أكثر مما ينفع، والسؤال هو: هل ثمة خيار كهذا؟!
إن تبعية وتعلق المناطق الفلسطينية بإسرائيل كبيران جدًا بحيث أن أي عمل أو لا عمل من جانب إسرائيل يؤثر في تلك المناطق. وعلى سبيل المثال فإنه لا يمكن التهرب من السؤال: هل يجب السماح باستيراد وتصدير البضائع من وإلى غزة عن طريق إسرائيل؟ إن أي إجابة على هذا السؤال سيكون لها تأثير على الفلسطينيين.
فضلاً عن ذلك طرحت أيضاً أفكار تدعو إلى نشر قوة دولية في قطاع غزة تتولى فرض النظام. وجرى الحديث في شكل أساسي عن نشر قوة دولية على حدود قطاع غزة مع مصر تكون مهمتها منع عمليات تهريب الأسلحة. غير أن هذه الأفكار لا تبدو جادة أو حقيقية. فباستطاعة المجتمع الدولي أن يقرر نشر قوات لحفظ السلام عندما تكون هناك حربٌ أهلية ويكون الهدف تجنب كارثة إنسانية، وهذا غير قائم في قطاع غزة، فقد انتصرت حماس وبات الوضع في غزة مستقرًا. وثمة خيار آخر وهو نشر مثل هذه القوات كقوة فصل بين جيوشٍ متحاربة ولكن ذلك يبقى مرهونًا بموافقة هذه القوات المتنازعة، أي إسرائيل وحركة حماس. وبالقطع فإن حركة حماس لن توافق على نشر قوة دولية هدفها منع عمليات تهريب الأسلحة إلى عناصر الحركة. إلى ذلك فإنه ما من فرصةٍ في أن تتوفر دول توافق على إرسال قواتها بينما ترفض حركة حماس هذا الأمر.
وكان بروم قد أشار إلى أن الهدف الذي يجب على إسرائيل أن تسعى نحوه على المدى البعيد هو "التوصل إلى اتفاق مع شريك فلسطيني موثوق به وقادر على تطبيق الاتفاق القائم على حل دولتين لشعبين"، أما على المدى الأقرب فإن هدف إسرائيل "هو درء أي تهديدات على أمنها يكون مصدرها من المناطق الفلسطينية" (24).
لكن الصحف الإسرائيلية شهدت أيضًا مواقف دعت إلى "إعادة النظر" في حل الدولتين باعتباره الحل المبدئي الوحيد المطروح على بساط البحث، على الأقل منذ توقيع اتفاق أوسلو العام 1993، والعودة إلى الخيارات القديمة ومنها "الخيار الأردني" مثلاً. كما أنها شهدت مواقف طالبت بتركيز الاهتمام على الساحة الإيرانية وخفض الاهتمام بالساحة الفلسطينية، وذلك في ضوء الانقسام وتطورات إقليمية أخرى.ففي 3/7/2007 نشرت صحيفة هآرتس تقريراً مسهبًا على صفحتها الأولى، بقلم مراسلها السياسي في واشنطن شموئيل روزنر، ذكرت فيه أن "الخيار الأردني كحل للقضية الفلسطينية عاد ليحتل أخيراً مكانة مهمة على طاولة المباحثات السياسية". وتابعت "إن المؤشرات حول هذا التوجه تتراكم ببطء ولم يعد من الممكن الخطأ في تشخيصها"، لكنها زادت في التوضيح بقولها إن الخيار الأردني "الجديد" ليس بالضرورة أن يكون بالصيغة القديمة المعروفة (صيغة معسكر اليمين الصهيوني) القائلة إن "الأردن هو فلسطين" وإنما تنطلق من مبدأ "المساعدة الأردنية للفلسطينيين" أو "الكونفدرالية" أو "تنظيم العلاقات الأردنية- الفلسطينية" أو "أي مسمى آخر". وأردفت أن "هذا الطرح لم يعد مقتصرًا على رجال اليمين المتطرف الذين يعارضون قيام دولة فلسطينية، بل أصبحت المسألة الفلسطينية الأردنية مطروحة أيضًا على جدول أعمال أوساط أميركية مركزية ومؤثرة". ودعا وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه أرنس، بشكل لا يقبل التأويل، إلى ضرورة تخلي صناع القرار في إسرائيل عن نموذج الدولتين لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، والبحث عن حلول وبدائل أخرى لم يستثنِ منها بشكل جازم تكريس "فصل" قطاع غزة (في ضوء سيطرة حماس على السلطة هناك) عن الضفة الغربية وتجزئة الحل، حتى ولو كانت خيارات "إعادة المنطقتين إلى وضعيهما السابق لحرب حزيران/ يونيو 1967" (أي أن تكون الضفة الغربية خاضعة إلى الأردن، وقطاع غزة خاضعًا إلى مصر) مطروحة في هذه الأثناء كـ "مسائل نظرية". وأكد قائلاً إن نموذج حل الدولتين الذي "بدا حتى الآن مسألة مفروغا منها أصبح محل علامة استفهام في أعقاب أعمال العنف الأخيرة في غزة". وتساءل "هل من المتوقع حقاً أن ينجح (الرئيس) محمود عباس في فرض سلطته في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وأن يجتاز التحدي الأصعب المتمثل في استعادة السلطة في غزة من يدي حماس؟!". وختم قائلاً "حسبما تبدو الأمور الآن، من الأفضل (لإسرائيل) الشروع بالبحث عن نموذج جديد للحل" (25).
وكانت شخصيات مهمة أخرى في إسرائيل قد دعت في ذلك الوقت إلى التفكير بالعودة إلى "الخيار الأردني"، ومن بينها زعيم المعارضة اليمينية (حزب الليكود) بنيامين نتنياهو، الذي تحدث علانية عن الحاجة إلى "إدخال قوات أردنية" إلى الضفة الغربية "للمساعدة في فرض النظام"، فيما اقترح الباحث في "مركز شاليم" المتماهي مع اليمين، مايكل أورن، العودة إلى فكرة "الحكم الذاتي" على أن يبقى "الأمن خاضعاً لمسؤولية إسرائيلية- أردنية مشتركة" (26).
ووفقاً لصحيفة هآرتس فإن الحديث عن "العودة إلى الخيار الأردني" لا يقتصر على شخصيات اليمين بل سبقها إلى ذلك رئيس إسرائيل الطازج شمعون بيريس، والذي نقلت عنه الصحيفة قوله في شهادته أمام لجنة فينوغراد لفحص إخفاقات حرب لبنان الثانية "علينا أن نبحث عن مبنى جديد للعلاقة مع الفلسطينيين. إنني في قرارة نفسي قد عدت إلى الاستنتاج الذي آمنت به دوما وهو أننا ملزمون بجلب الأردنيين... لا يمكننا أن نصنع السلام مع الفلسطينيين فقط".
على صلة بذلك، فإن عوزي أراد، الأستاذ الجامعي والمستشار السياسي المقرّب من نتنياهو، أكد أن الجهد الرئيسي يجب أن يصبح الآن (بعد الانقسام) موجهًا نحو الساحة الإيرانية لا الفلسطينية، وذلك بهدف التركيز على منع تحوّل إيران إلى دولة نووية. والطرف الذي يجب تعزيز قوته، تبعًا لذلك، هو إسرائيل ذاتها لا محمود عباس. وبرأيه فإن تعزيز قوة إسرائيل، خصوصًا في المجال العسكري، هو واجب الساعة، لأنه تكشفت في هذا المجال تصدعات مهمة خلال الحرب الأخيرة (على لبنان). والحلول السياسية اللائقة يمكن التوصل إليها فقط على أساس امتلاك القوة السياسية والعسكرية. كما يمكن التوصل إلى تهدئة عن طريق الردع، لكن ذلك يحتاج إلى قوة عسكرية مقنعة. ويجب أن يكون هدف تعزيز الردع في مكان أعلى من سلم أولويات الصناعات الأمنية. وهذا الأمر ناجم أيضًا عن التطورات خلال العام الفائت التي أشارت إلى أنّ إيران وسورية وحزب الله وحماس توصلوا إلى الاستنتاج بأن إسرائيل لا تمتلك ردًا دفاعيًا على قدراتهم الصاروخية. وحتى إذا نجحت إسرائيل في ترميم قوة ردعها قليلاً في مقابل حزب الله فإن إدارة المعركة في حرب لبنان الثانية والتطورات منذ تلك الحرب تدل على تآكل هيبة الردع الإسرائيلية حيال سورية. المطلوب من إسرائيل هو أن تعزّز عناصر ردعها في مقابل التهديدات الماثلة أمامها. والتحدي الرئيسي هو في مواجهة التهديد الإيراني. من هنا تأتي الحاجة إلى التجنيد الشامل وإلى إستراتيجيا التعاظم بما في ذلك التعاظم الاقتصادي والارتباط بتحالفات دفاعية. وإذا كان الانهماك الإسرائيلي الحالي بالساحة الفلسطينية يستهدف شق الطريق للمواجهة الأكثر فاعلية مع المسألة الإيرانية من طرف الأسرة الدولية، فإنه ينطوي على فائدة. لكن إذا لم يكن هذا هو هدفه فسيؤدي الأمر إلى صرف الأنظار عن ضرورة مواجهة المعركة الرئيسية (27). الطريـق إلى أنابوليـس لعل طريقة العمل التي يجب التوقف عندها بقدر مناسب من التفصيل، من بين طرق العمل الممكنة السالفة كلها، هي تلك التي أفضت في مرحلة لاحقة إلى عقد مؤتمر أنابوليس الدولي للسلام في الشرق الأوسط في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، والذي أسفر عن استئناف المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية من أجل التوصل إلى اتفاق مبادئ يتعلق بالحل الدائم للنزاع. وقد توقفت هذه المفاوضات من دون أن تصل إلى أي اتفاق كهذا عقب قيام إسرائيل بشنّ الحرب على غزة في شتاء 2009، والتي أسميت في القاموس الإسرائيلي "عملية الرصاص المصبوب".
وبحسب الصحافة الإسرائيلية فإن الطريق إلى أنابوليس بدأت من لحظة "اعتقاد القيادة الإسرائيلية بأن سيطرة حماس على قطاع غزة تفتح نافذة فرص نادرة" لإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية (28). وقد لاح هذا الأمر بداية في سياق اللقاء الذي عقد في 19 حزيران/ يونيو 2007 في البيت الأبيض بين الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت. ووفقًا لتقرير صحافي مشترك كتبه المراسل السياسي لصحيفة هآرتس ومراسل الصحيفة في واشنطن، فإنه خلال اللقاء قدّم بوش وأولمرت جوابين مختلفين عن السؤال بشأن ما الذي يمكن عمله في ضوء الوضع المعقد الناجم عن الصراع في غزة؟.
فبوش كان يرى الأحداث في غزة جزءًا من "مواجهة أيديولوجية كبرى" بين القوى المتطرفة في المنطقة التي تسعى إلى السيطرة على الشرق الأوسط، وبين "الديمقراطية العراقية والديمقراطية اللبنانية والديمقراطية الفلسطينية العتيدة". وكان لا يزال يعتقد بأن تشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط هو الردّ اللائق على المتطرفين الإسلاميين. وبذا فقد وجّه أيضًا رسالة سياسية إلى خصومه الديمقراطيين في أميركا، مؤداها أنه ليس في وسع الراغبين في إقامة دولة فلسطينية أن يطالبوا في موازاة ذلك بانسحاب القوات الأميركية من بغداد. في مقابل هذا حاول أولمرت أن يعرض سيطرة حماس على غزة، والتي يوجد إجماع على كونها مشكلة كبيرة لإسرائيل، باعتبارها "فرصة كبرى". والمقصود فرصة للتفاوض مع محمود عباس الذي تحرّر من التحالف مع حماس وأصبح بحاجة أكثر من ذي قبل إلى دعم إسرائيل من أجل البقاء. لكن كي لا يعتبر ذلك وعدًا يفتقر إلى رصيد فإن أولمرت سارع إلى القول "إني أقترح أن نفرّق ما بين الفرصة والتفاؤل". وفسّر ذلك بالقول: "لم أقل بأني متفائل. قلت إنه إلى جانب الأحداث الخطرة نشأ وضع يمكن أن يكون قد أوجد فرصة أيضًا". إنّ ترجمة ذلك هو أن أولمرت لم يعد بأي شيء يذكر. وتفاخر بوش بأن أولمرت ملتزم مثله بـ "رؤية الدولتين"، التي أصبحت في الفترة القليلة الفائتة أكثر بعدًا عن التطبيق. لكن رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، بدا أكثر تحفظًا وهو يتحدث إلى الصحافيين الإسرائيليين. ولكن التقرير ختم بالقول: إن أولمرت يتحدث عن نقل أموال وعن تعزيز الأجهزة الأمنية التابعة لعباس، وكذلك عن وعود أخرى بإزالة حواجز في الضفة الغربية، وثمة شك كبير في صدقيتها بحسب ما أثبتت تجربة الماضي (29).
ورأى كبير المعلقين السياسيين في صحيفة يديعوت أحرونوت، ناحوم برنياع، في معرض تعقيبه على نتائج هذا اللقاء، أن ما يفكر فيه كل من بوش وأولمرت هو مجرّد أضغاث أحلام. وكتب يقول: كل شيء يبدو على ما يرام. فالرئيس الأميركي ودي ويكنّ حبًّا حقيقيًا لرئيس حكومتنا. وكلاهما يتكلمان اللغة نفسها ونواياهما حسنة. لكن هناك مشكلة صغيرة فقط، هي أن كل حلمهما المشترك تجاه الموضوع الفلسطيني هو أشبه ببرج مبنيّ في الهواء. وهناك شك فيما إذا كانا مؤمنين به، فضلاً عن أن هناك شكوكًا فيما إذا كان ثمة من يؤمن به. عندما احتل الحمساويون غزة كانت الرسالة التي صدرت من القدس وواشنطن متفائلة. فمع كل الأسف على فقدان غزة حدث أمر إيجابي، هو انكشاف الوجه الحقيقي لحماس. وقد نشأت دولتان: حماستان في غزة وفتح لاند في الضفة. العالم سيفرض حظرًا على حماس وفي موازاة ذلك تنشر إسرائيل والولايات المتحدة رعايتها على حكومة فتح. لكن أولاً، إن هذا الفصل غير مقبول على الفلسطينيين. فتح لم تتنازل عن غزة وحماس لم تتنازل عن الضفة. وثانيًا، إن فتح تعاني من انقسامات ونزاعات بحيث من المشكوك فيه أن يكون في وسعها أن تقود مؤسسة سلطوية مستقرة تستجيب مع توقعات الولايات المتحدة وإسرائيل. أولمرت قال لنا: "لم أقل إني متفائل. ما قلته فقط هو أنّ هناك فرصة". لقد شاهد أولمرت الصور القاسية من غزة واعتقد بأن العالم سيحرره من الضغط للتفاوض مع حكومة فلسطينية تشارك فيها هذه الحركة الدموية. وقد شعر بالارتياح، لكنه ارتياح مؤقت، لأنه لا يدفع قدمًا أمن إسرائيل في مقابل الفلسطينيين. في واقع الأمر فإن كلا من بوش وأولمرت يقبعان في حضيض متواصل في استطلاعات الرأي العام. وبينما تحسّن وضع أولمرت في الفترة الأخيرة فإن وضع بوش ازداد سوءًا. ذات مرّة قالوا لليفي أشكول (رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق) إن هناك محلاً (قحطًا). وعندما سأل أين وأجابوا بأنه في إسرائيل، قال أشكول: الحمد لله. أكون قلقًا أكثر عندما يكون المحل في أميركا. ولا شك في أن إدارة يوش تعاني الآن من محلٍ شديد (30).
من المعروف أن المبادرة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط (والتي أسفرت عن انعقاد مؤتمر أنابوليس) جاءت في سياق الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي جورج بوش في البيت الأبيض يوم 16 تموز/ يوليو 2007، لكن مصادر رفيعة المستوى في ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية أكدت أنه من بنات أفكار أولمرت، وقالت إن "رئيس الحكومة عرض الفكرة خلال زيارته إلى واشنطن ولقائه الرئيس بوش قبل ثلاثة أسابيع (من إلقاء الخطاب)، ويتفق رئيس الحكومة والرئيس الأميركي على أن ثمة حاجة إلى مظلة دولية تقدّم ضمانات وتطمينات على طريق التسوية الدائمة مع الفلسطينيين" (31). وفيما يتعلق بالخطاب نفسه أضافت هذه المصادر نفسها أنه "يرسم طريقًا تنسجم مع موقف إسرائيل إزاء معظم المسائل المدرجة في جدول الأعمال الفلسطيني"، مشيرة إلى أن الأميركيين "ظلوا محافظين على رؤيتهم وعلى الخط الذي أعلنه الرئيس بوش في خطابه قبل خمسة أعوام (بشأن "رؤية الدولتين")، وأن الرئيس بوش أصرّ على أن مكافحة الإرهاب تسبق العملية السياسية، فضلاً عن أن رؤية الدولتين التي عرضها في خطابه تكمّل تصريحات سابقة أدلى بها في هذا الخصوص" (32).لكن المراسل السياسي لصحيفة هآرتس، ألوف بـن، أشار إلى أن بوش وعد بمضاعفة الجهد الأميركي "من أجل تعزيز ثقة جميع الأطراف بحلّ الدولتين"، وهذا أمر يبدو جيدًا، لكنه أقل كثيرا من الإعلان الذي أطلقه في مستهل ولايته الرئاسية الثانية ووعد فيه "باستثمار الرأسمال الأميركي في إقامة دولة فلسطينية". وأضاف: امتنع بوش من إطلاق الوعود بإقامة دولة فلسطينية، واكتفى بوضع الفلسطينيين أمام معضلة، بدعوتهم أن يختاروا إمّا المتطرفين من حماس وإمّا الثنائي المعتدل المؤلف من الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض. وهاجم بوش حماس بتعابير قاسية. وقد عقب مصدر سياسي رفيع المستوى في القدس على تصريحات بوش بقوله: "حتى نحن لا نتحدث عن حماس على هذا النحو". وعرض بوش خطة ذات مرحلتين: في المرحلة الأولى يطهّر الفلسطينيون صفوفهم من الإرهاب والفساد بحسب توجيهات "خريطة الطريق". وإذا ما التزموا بذلك تبدأ، في المرحلة الثانية، مفاوضات إسرائيلية- فلسطينية حول الحل الدائم، تبحث فيها المسائل الرئيسية وهي الحدود واللاجئون والقدس. ووافق بوش على مطلب عباس البحث في الحل الدائم بصورة مباشرة والقفز عن المرحلة الانتقالية التي تقام خلالها دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة. لكن ما من سبب يدعو رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، الذي يرفض البحث الآن في الموضوعات الرئيسية، إلى القلق، فقد حصل على مهلة تستمر حتى تصبح السلطة الفلسطينية نظيفة من الإرهابيين والفاسدين. وفي ديوان أولمرت أعربوا عن رضاهم من الخطاب. وسمحت تعابير بوش القاسية ضد حماس لأولمرت أن يهدّد عباس "بتفجير العملية السياسية" إذا ما عاد إلى التحالف مع هذه الحركة. وكان الطلب الوحيد الذي وجهه بوش إلى إسرائيل هو إخلاء البؤر الاستيطانية غير القانونية وأولمرت مستعد لذلك. أما التجديد الرئيسي في الخطاب، والمتمثل في مبادرة عقد مؤتمر دولي في الخريف، فإنه يستجيب مع رغبة رئيس الحكومة المحتاج إلى إنجاز سياسي عشية تقرير لجنة فينوغراد النهائي (التي تقصت وقائع حرب لبنان الثانية) (33).
ونوهت الصحافة الإسرائيلية بأنه، في إثر التطورات السابقة، تم في شهر آب/ أغسطس 2007 توقيع اتفاق لاستئناف التنسيق الأمني بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وقامت إسرائيل بتلبية مطالب فلسطينية منها: الإفراج عن أسرى، تحرير أموال مجمدة، استيراد سلاح، وقف مطاردة حوالي مئتي مطلوب في الضفة الغربية، عقد لقاءات سياسية على أرفع مستوى، نشر اقتراحات سلام بعيدة المدى. وعلاوة على ذلك فإن الناطقين الرسميين باسم الحكومة (إيهود أولمرت وحاييم رامون وتسيبي ليفني) أشاروا إلى استعدادهم لأن يبحثوا مع القيادة الفلسطينية في مسائل ارتدعوا عن التداول فيها إلى الآن، مثل سحب الجيش الإسرائيلي من مدن الضفة الغربية ومبادئ الحل الدائم. بل إن رامون رسم بشكل واضح خريطة سلام تشبه إلى حد كبير تلك التي وضعها إيهود باراك على طاولة ياسر عرفات في مؤتمر كامب ديفيد في تموز/ يوليو العام 2000.
واعتبر عوزي بنزيمان هذه "التنازلات الإسرائيلية للسلطة الفلسطينية" مباركة وحيوية، لكنها تثير سؤالا حول سبب تأخر حدوثها إلى الآن. وأضاف: في الظاهر يبدو أن سرّ هذا التحمس الحكومي الإسرائيلي مفهوم ضمنًا، إذ إن محمود عباس وسلام فياض قد غيرا نمط سلوكهما. إنهما الآن يتكلمان عن السلام وقد تنازلا عن كلمة "المقاومة" في الوثائق الرسمية ويبديان الاستعداد العملي لضمان سيادتهما على الضفة الغربية ويسعيان إلى طرد حماس من غزة. غير أن هذا التفسير يستند إلى فرضية إطلاقية مفادها أن الواقع القائم في القطاع والضفة في تموز/ يوليو 2007 فرضته قوة عليا، ولم يكن في وسع إسرائيل التأثير عليه. ولا يمكن عدم ذكر أن نفس الطلبات التي تستجيب إسرائيل لها الآن سبق أن طرحها عباس في الماضي عندما كان رئيسًا للوزراء في ظل ياسر عرفات. إن مجرد هذا يثير التساؤل فيما إذا كانت إسرائيل تعمل بقصد مسبق أن تكون بوادر حسن النية للبروتوكول فقط لأنه ليس في وسعها تغيير الواقع الناشئ في السلطة الفلسطينية. بكلمات أخرى: هل يجوز أن أولمرت يقدّر بأن عباس وفياض لن يفلحا في البقاء طويلاً في رام الله وأيضًا في العودة إلى قصر الرئاسة في غزة، ولذا فإن كل إجراءاته وتصريحاته تستهدف أن توفّر له ذريعة لتبرئة الذمة؟ (34).
وتوقف ألوف بـن عند مشكلتين يواجههما أولمرت وتقفان وراء تحركاته هذه: الأولى هي الصعوبة في إقناع الجمهور الإسرائيلي والأسرة الدولية بأنّ حكومته جادة في نيتها التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين ومستعدة لأن تدفع ثمنها بالانسحاب من المناطق الفلسطينية (المحتلة) وإخلاء المستوطنات. والثانية هي أن لديه القليل مما يتفاخر به بعد عام ونصف عام على تسلمه منصب رئيس الحكومة. صحيح أن الوضع الاقتصادي ممتاز، لكن النجاح هنا يعزى إلى بنيامين نتنياهو. وما يذكره الجمهور لأولمرت هو الحرب الفاشلة وغير الشعبية على لبنان وتقارير فينوغراد وشاحك ومراقب الدولة وكذلك التقدير الشائع بأنه منهمك بالبقاء الشخصي والسياسي. ولذا يزداد الاعتراف في محيط رئيس الحكومة بأنه لا بديل من مبادرة سياسية إسرائيلية تنقذ أولمرت من محنته لدى الرأي العام وتترك بصماته على تاريخ إسرائيل. ومن الأفضل أن يدور الجدل بين الجمهور على اتفاق سلام أو انسحاب من المناطق بدلا من الجدل على قضايا فساد أو ما شابه ذلك (35). هذا ما فعله أيضًا سلفه، أريئيل شارون، الذي قرّر الانسحاب من غزة في لحظة محنة سياسية وعزلة دولية وتحقيقات جنائية. كما أن الظروف الخارجية تميل الآن لصالح عملية سياسية. وثمة من يمكن التفاوض معه في السلطة الفلسطينية. ومثل أولمرت، فإنّ عباس وفيّاض يفهمان أنهما إذا لم يتقدما إلى الأمام فسيغرقان هما أيضًا. والرئيس جورج بوش وتوني بلير (مبعوث "الرباعية الدولية") ومصر والأردن مستعدون لمدّ يد المساعدة من الخارج، كلّ لأسبابه الخاصة. وبالتالي فإنّ اقتراح أولمرت التوصل إلى اتفاق مبادئ بشأن الدولة الفلسطينية سيحلّ له، برأي المعلق نفسه، بضع مشكلات مرّة واحدة: أولاً- يمكّنه من الإمساك بزمام المبادرة والقيادة؛ ثانيًا- يعزّز رسالة فحواها أنّ إسرائيل راغبة في التسوية؛ ثالثًا- يتجاوب مع المطلب الدولي بأن تقدّم إسرائيل "أفقًا سياسيًا" للمعتدلين الفلسطينيين؛ رابعًا- لقد رغب أولمرت في التنازل عن المناطق (المحتلة) بانسحاب أحاديّ الجانب (وفق خطة الانطواء) وإذا ما وقع عباس على الصفقة فسيحصل الأول على مقابل لما كان مستعدًا لمنحه مجانًا؛ خامسًا- الاتفاق سيغيّر الواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة وينحي جانبًا مشكلة اللاجئين؛ سادسًا- إنّ بلورة التفاصيل وتنفيذ الاتفاق سينتظران إقرار اتفاق المبادئ من خلال انتخابات فلسطينية وتصويت في الكنيست، وهذا يعني كسب مزيد من الوقت بين التوقيع على الاتفاق وإجلاء المستوطنين؛ أخيرًا- لا يمكن التغاضي عن احتمال حصول رئيس الحكومة على مردود سياسي وشخصي، وبذا فإنّ ترشيحه لولاية أخرى في مقابل نتنياهو (رئيس الليكود) وإيهود باراك (رئيس حزب العمل) قد يبدو جادًا ولديه احتمال النجاح (36).
أمّا الباحث ميرون بنفينستي فقد أشار إلى وجود تفسيرات عديدة لانطلاق هذه الطاقات السياسية كلها بشكل فجائي خلال تلك الفترة. ومن بين تلك التفسيرات حاجة الرئيس جورج بوش إلى عرض خطة تنقذ ما بقي له من هيبة في المنطقة مع انتهاء ولايته الفاشلة، وحاجة إيهود أولمرت إلى عرض إنجاز سياسي عشية نشر التقرير الكامل للجنة فينوغراد، والحاجة إلى تلبية الطلب الصادر من جميع الاتجاهات بشأن "تعزيز قوة محمود عباس". كما أن هناك حاجة عميقة لإخراج معسكر السلام الإسرائيلي من دائرة اليأس وتزويده بوجبة إيجابية تمكنه من مواصلة الاعتقاد بأن غالبية الجمهور الإسرائيلي تؤيد حلّ الدولتين وبأن أيديولوجيا أرض إسرائيل الكاملة لفظت أنفاسها الأخيرة حتى لدى معسكر اليمين. وتشكل العملية السياسية التي يديرها أولمرت وبوش وتدًا يمكن ربط هذا التفاؤل به. غير أن المشكلة كامنة في أن الواقع الحقيقي لا يظهر إشارات إلى خضوعه للنظريات والتمنيات، فالاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية مستمر بوتائر سريعة، ونظام فصل وتدمير المجتمع الفلسطيني يزداد رسوخًا، وعملية إقامة الجدار الفاصل متواصلة، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة يكاد يتخذ طابع الفصل الجيو- سياسي شبه الثابت، واحتمال أن ينجح عباس في ترسيخ سلطة مستقرة في الضفة الغربية يبدو بعيدًا. وبرأيه يمكن لهذه العملية السياسية أن تعيد مسار أوسلو المدمر، أي أن تخلق الوهم بأن هناك تقدمًا يتغذى من الحاجة الطبيعية إلى تطوير الأمل، غير أن النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني لم يعد في وسعه أن يتحمل وهمًا آخر (37). إجمالا تعاملت الصحافة الإسرائيلية، في معظمها، مع موضوع الانقسام الفلسطيني من خلال إبراز محصلات ترتبط بكيفية ما مع ما سبقها من أحداث وسيرورات، وكان في مقدمها ما يلي:
- تنمية قناعة إسرائيلية بعدم وجود شريك فلسطيني، وبعدم جدوى التفاوض مع السلطة الفلسطينية التي أمست أكثر وهنًا عقب الانقسام، وباستحالة التوصل إلى اتفاق دائم وفقًا للشروط الإسرائيلية؛
- العودة إلى البحث عن الحلول الغابرة، ومن ضمنها الحديث عن الحل الأردني للضفة الغربية والحل المصري لغزة، وذلك في سياق أعمّ هو التشكيك في إمكان "حل الدولتين" باعتباره الصيغة المبدئية الوحيدة المدرجة في جدول الأعمال منذ اتفاق أوسلو؛
- تجيير الانقسام بواسطة اعتباره "فرصة" للتفاوض مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي "تحرّر" من التحالف مع حماس وأصبح بحاجة أكثر من ذي قبل إلى دعم إسرائيل من أجل البقاء، وفي المقابل فإن هذا التفاوض اعتبر "فرصة شخصية" لتحقيق إنجازات ملموسة، أولاً لرئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت، الذي كان واقعًا تحت وطأة تحقيقات سياسية جراء إخفاقه في حرب لبنان الثانية وتحقيقات جنائية بشبهات تتعلق بالفساد وتلقي رشى مالية واعتبر نتيجة ذلك فاقدًا الشرعية أو بمثابة "حصان خاسر"، وثانيًا للرئيس الأميركي جورج بوش، الذي كان على وشك إنهاء ولاية رئاسية مليئة بالإخفاقات؛
- أدى اجتماع هذه الفرص كلها إلى عقد مؤتمر أنابوليس في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، والذي انطلقت منه المفاوضات على قضايا الحل الدائم بين الجانبين. وتمثلت طريقة العمل التي اختيرت في إطار مسار أنابوليس في إقامة عملية متوازية: من جهة إجراء مفاوضات حول الاتفاق الدائم ومحاولة التوصل إلى إجمال ناجح لهذه العملية حتى نهاية العام 2008، ومن جهة أخرى الشروع بتنفيذ المرحلة الأولى من "خريطة الطريق"، التي تتمحور أساسًا حول المجال الأمني. وفيما بعد جرى تطوير فكرة التوصل إلى "اتفاق رفّ" (مؤجل)، أي اتفاق لا ينفذ مباشرة بعد التوصل إليه وإنما يجري تنفيذه ضمن عملية متدرجة تتحدد وتيرتها بناء على النجاح في بناء قدرات السلطة الفلسطينية ولا سيما القدرات الأمنية. ومع أن الحرب الإسرائيلية على غزة في نهاية 2008 ومطلع 2009 تسببت على نحو مباشر بإيقاف هذا المسار، إلا إنه لم يكن قد حقق أي نجاح سياسي يُذكر قبل تلك الحرب، الأمر الذي فسح المجال أمام حملة كبيرة من التشكيك فيما إذا كان بالإمكان الاستمرار في العملية وفق رؤية أنابوليس، وأعطى المبرّر لتواتر الدعوات الإسرائيلية إلى التفكير برؤية أو برؤى أخرى بديلة منه، في وقت كانت إسرائيل فيه متجهة نحو انتخابات عامة جديدة أجريت في شباط/ فبراير 2009 وأسفرت عن فوز اليمين وتشكيل حكومة برئاسة بنيامين نتنياهو تستند أساسًا إلى أحزاب اليمين.
ــــــــــــــــ
الهوامش:
23. شلومو بروم، خيارات لسياسة إسرائيلية في أعقاب سيطرة حماس على غزة، ميكود إستراتيجي، عدد 7، 19/6/2007
24. المصدر نفسه.
25. هآرتس، 5/7/2007
26. هآرتس، 1/7/2007
27. يديعوت أحرونوت، 18/7/2007
28. عوزي بنزيمان، هآرتس، 20/6/2007
29. هآرتس، 20/6/2007
30. يديعوت أحرونوت، 20/6/2007
31. يديعوت أحرونوت، 17/7/2007
32. المصدر نفسه.
33. هآرتس، 17/7/2007
34. هآرتس، 30/7/2007
35. في تلك الفترة بدأ الحديث عن شبهة تورط أولمرت بمجموعة من قضايا الفساد، وفي فترة لاحقة، في ربيع 2008، كشفت الشرطة الإسرائيلية عن أنها تجري تحقيقا معه بشبهة حصوله على رشى مالية من المليونير الأميركي اليهودي موريس تالانسكي. وأوصت الشرطة الإسرائيلية النيابة العامة بتقديم لائحة اتهام ضده بشبهة ارتكابه سلسلة أعمال فساد.
36. هآرتس، 26/7/2007
37. هآرتس، 19/7/2007