ارشيف من :آراء وتحليلات

"اسرائيل" مرتعبة من المجازفة مع المقاومة: ترسيم الحدود البحرية يكشفها باكراً

"اسرائيل" مرتعبة من المجازفة مع المقاومة: ترسيم الحدود البحرية يكشفها باكراً

عبد الحسين شبيب


يحتاج لبنان في صراعه مع العدو الاسرائيلي حول حقوقه الاقتصادية في البحر الابيض المتوسط الى ثنائية "قوة القانون" و"قانون القوة"، وهو في الأولى في حالة تفوق، وفي الثانية، على الاقل، في حالة توازن.

في "قوة القانون" يمتاز لبنان عن "اسرائيل" في انه دولة مؤسسة للامم المتحدة، في حين ان الاخيرة هي " الدولة" الوحيدة التي أنشئت بقرار من الأمم المتحدة التي وضعت ايضاً شروطاً للاعتراف بها في حينه. لبنان دولة لها دستور ومعروفة الحدود ومرسمة وموثقة بخرائط مودعة لدى الامم المتحدة، اما "اسرائيل" فهي "دولة" بلا دستور عن قصد، وجل ما لديها مجموعة قوانين اساسية، وهي ايضا عن قصد، تعتبر نفسها انه ليس لديها حدود نهائية، وان مآلات الصراع العربي ـ الاسرائيلي وقدرتها على التوسع والاستيطان بالقوة والاحتلال كفيلان برسم حدود نهائية لها تقضم فيها ما تستطيع أن تقضم من اراضٍ ومياه عربية مجاورة كما قضمت اراضي فلسطين وغيرها.

ولهذه الغاية تتجاهل "اسرائيل" عن وعي وعن عمد الحدود التي يجب ان تنزوي داخلها والتي رسمها قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 181 الصادر عام 1947، واشترط القرار الدولي الرقم 273 ان تلتزم (اسرائيل) بهذه الحدود كي يعترف بها ويقبل عضويتها في الامم المتحدة. لكن "اسرائيل" التي قبلت بالقرار تحايلاً لـ"تشريع وجودها" سرعان ما انقلبت عليه ريثما تنجز آلتها العسكرية ترسيم الحدود النهائية بحسب التعريف "التلمودي" لحدود " الدولة العبرية الصهيونية"، واخضاع ذلك لمفاوضات تُخضع فيها العرب لـ"قانون القوة" المستمد فعاليته من "تفوقها" العسكري والأمني على ما عداها من دول في الشرق الاوسط، وعلى التوظيف الميداني لهذا التفوق، وهذا ما يجري الان في ثنايا الصراع مع الفلسطينيين حول دولتهم التي تنوي السلطة الفلسطينية طلب الاعتراف الدولي بها في ايلول/ سبتمبر القادم، لكن امر المجازفة الاسرائيلية مع لبنان مختلف.

فالحكومة اللبنانية تتكئ على اساس قانوني دولي متين في المطالبة بحقوقها كاملة في البر والبحر والجو، فآليات الترسيم الدولية المعتمدة للحدود البحرية تعطي لبنان حقوقا كاملة في المنطقة التي يفتعل الاسرائيلي نزاعا عليها لكي يستحوذ على ما في باطنها من كميات ضخمة من النفط والغاز مقدرة حالياً بمليارات الدولارات، وهي من شأنها ان تسعف "اسرائيل" في اي استحقاقات نفطية وغازية، لا سيما في ضوء الاستهداف المتكرر لأنبوب الغاز المصري الذي يمر عبر سيناء لتزويدها بغاز مصري بخس الثمن يرجح ان لا يطول عمر التبخيس به طويلاً بعيد استكمال الثورة المصرية عملية التحول في هوية النظام المصري الجديد.

وهذه الآليات الدولية في الترسيم بقدر ما تنطلق عموديا من آخر نقطة بحرية لبنانية على الحدود الفلسطينية ـ خلافا لما ذهب اليه البعض من كيفية في الترسيم تضمر نيات قذرة في حرمان لبنان من ثروة كبيرة يحتاجها الان اكثر من اي زمان ـ وتعطي نقطة قوة للحقوق اللبنانية، فانها تضاف الى نقطة القوة اللبنانية الاخرى والاهم، وهي انه بموجب القرار الدولي رقم 181 والذي لا يزال ساري المفعول ـ ولا تستطيع "اسرائيل" انكاره لانها اذ ذاك تنكر اساس وجودها المشتق من هذا القرار حصراً ـ فان المنطقة البحرية الحدودية المتاخمة للبنان تتبع للدولة العربية الفلسطينية التي رسم ايضا القرار 181 حدودها بالتفصيل، وبالتالي بموجب هذا القرار، الذي لا مفر لمحكمة العدل الدولية التابعة للامم المتحدة، وهي الجهة الحصرية الوحيدة المناط بها البت بالنزاعات الحدودية بين الدول، من ان تنطلق من قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لتحديد حدود "الدولة العبرية" كما عرفها القرار، لتجزم بانه لا يوجد مناطق متاخمة في البحر لبنانية ـ اسرائيلية، بل مناطق بحرية متاخمة لبنانية ـ فلسطينية، بما يعني ان وجود " اسرائيل" في هذه المنطقة هو وجود احتلال لا يكسبها اي حق ولا يلزم الدولة اللبنانية بأي ترسيم معها، وان الاستثمار الاسرائيلي في مياه المنطقة الفلسطينية هو اعتداء وسرقة لحقوق الدولة الفلسطينية، كما هي محاولة التمدد الى المنطقة الاقتصادية البحرية اللبنانية.

طبعا "اسرائيل" تعرف بخبرائها القانونيين هذه الاشكالية الكبرى التي ستواجهها في حال تم اللجوء الى محكمة العدل الدولية، وتعرف ان اصرارها على "ملكيتها" للمنطقة البحرية المتاخمة للبنان لا اساس قانونيا له، ولذا تلجأ هنا الى "قانون القوة" وتفوقها في البحر، واحتلالها لاجزاء الدولة الفلسطينية تلك، وهي تريد ان توظف تهويلها بالحرب في اي لحظة لثني اي طرف عربي عن المطالبة بحقوقه بمن فيهم لبنان، لا سيما في نزاع لو قيض للبنان ان يربح فيه المعركة فانه سيحوله الى دولة نفطية غنية سترتد آثارها على مجمل المناطق اللبنانية انطلاقا من منطقة الجنوب المتاخمة، ليصبح بذلك قوة اقتصادية مهمة بجانب قوته العسكرية المتمثلة بثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، وهذا ما لا تريد "اسرائيل" ان تراه، ولا سيما انها تقنع نفسها يوما بعد آخر وتسوّق لمقولة ان كل ما يحصل عليه لبنان يذهب في النهاية الى حزب الله.

وعليه فانه بجانب تفوق لبنان في الشق القانوني الدولي فانه في معركة استرجاع حقوقه البحرية لاستخراج نفطه وغازه المقدر بمليارات الدولارات، يتوقع ويفترض تفعيل "قانون القوة" الذي لا تفهم "اسرائيل" الا به، وهي على اي حال تعترف بذلك وتقر يومياً بتقليص الفجوة في ميزان القوة والردع بينها وبين حزب الله الذي بات اليوم وبعد خمس سنوات على حرب تموز اقوى من اي زمان مضى. وهو على اي حال قانون قوة لبنانية متكئة على حق لا غبار محليا او دوليا عليه، وبالتالي فان ما يرعب "اسرائيل" هو تظهير جانب جديد من جوانب عجزها في مواجهة خصمها اللدود، المقاومة في لبنان، من خلال اختبار قوة حزب الله في البحر بعدما اختبرتها في البر عام ألفين اثناء ترسيم خط الانسحاب الازرق. وفي هذا السياق يروي دائما العميد المتقاعد امين حطيط الذي كان يرأس فريق الجيش اللبناني في ترسيم الخط الازرق ويقول: كنا كلما حاول الاسرائيلي ان يتجاوز على الحقوق اللبنانية ويحاول ان يفرض بالقوة بقاءه في بعض النقاط الحدودية، كنا نبلغه عبر الفريق الدولي المرافق انه اذا لم يتراجع خارج الحق اللبناني فان المقاومة ستتكفل هي بارجاعه، وكان الاسرائيلي سريعاً ما يذعن ويتراجع، وهذا ما مكننا من استعادة ملايين الامتار المربعة التي كان يعتزم ابقاء احتلاله لها".

هذه الوقائع يعرفها الاسرائيليون جيدا، وهذا ما يثير قلقهم في النزاع البحري. فحزب الله وعبر أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله حدد منذ مدة في خطاب علني قواعد الصراع على الجبهة البحرية، المرفأ بالمرفأ والسفينة بالسفينة، وتوعد بفرض حصار بحري كامل على الدولة الصهيونية في حال فكرت بحصار لبنان بحرياً، وهذا يعني في الترجمة العسكرية ان حزب الله بات يملك الاسلحة المناسبة لتنفيذ تهديدات كهذه، ما يفيد بان زمن التفوق الاسرائيلي في البحر قد انتهى كما انتهى زمن التفوق الاسرائيلي في البر، وانه كما استعادت الدولة اللبنانية عام ألفين بقوة المقاومة ملايين الامتار المربعة من الاراضي اللبنانية، فانها قادرة اليوم على استعادة كل الاميال المربعة التي يسيطر عليها الاسرائيلي بقوة المقاومة ايضاً.

ومن غير المعروف اذا كانت "اسرائيل" تنوي المجازفة هذه المرة لتقوض سمعتها العسكرية المتراجعة في ظل اصرار الحكومة اللبنانية على تحصيل جميع حقوقها في البحر دون اي نقصان، مع احتفاظها بحقها في استخدام كل الوسائل لاستعادة هذه الحقوق. وهذا يعني ان المقاومة معنية بأن تؤازر ميدانياً عملية الترسيم البحري ويتكئ المفاوض اللبناني على قوتها في ارغام الاسرائيلي على التراجع، والرد عليه باللغة التهديدية نفسها، مع فارق ان لبنان محقّ في مطلبه و"اسرائيل" معتدية، وهذا اختبار تتمنى "اسرائيل" ان لا تخوضه حتى لا يكشفها باكراً ويجردها من احدى الادوات التي تلوّح باستخدامها في الحرب المقبلة، أي سلاح البحر.



2011-07-17