ارشيف من :أخبار لبنانية

نفقات الأمن الإسرائيلي في ظل الثورات العربية

نفقات الأمن الإسرائيلي في ظل الثورات العربية

صالح النعامي
1. السلام" وطفرة إسرائيل الاقتصادية
اعتبرت النخبة الأمنية الإسرائيلية أنّ تفجّر ثورات التحوّل الديمقراطي في العالم العربي، وإسقاطاتها المحتملة، تفرض على الكيان الصهيوني إعادة صياغة عقيدته الأمنيّة من جديد، والمبادرة لإحداث تغييرات جوهريّة في بنية الجيش الإسرائيلي وطابع استعداداته، ممّا يستدعي زيادة موازنة الأمن وإعادة صياغة مركباتها لتستجيب للتهديدات المتوقّعة.

تستعرض هذه الدراسة المسوغات التي يقدّمها قادة جهاز الأمن الإسرائيلي؛ لتبرير المطالبة بزيادة النفقات الأمنيّة في أعقاب تفجّر الثورات العربية، والأوجه المحتملة التي تستوعب هذه الزّيادة، علاوةً على تقييم الخبراء الاقتصاديّين وأرباب المرافق الاقتصاديّة الإسرائيلية لهذه المطالبات ولتأثيراتها المتوقّعة على منعة إسرائيل الاقتصادية وحصانتها الاجتماعيّة.

تدلّل المعطيات الرسمية الإسرائيلية على أنّ توقيع اتّفاقيّتيْ سلام مع مصر والأردن ("كامب ديفيد" مع مصر، و"وادي عربة" مع الأردن) قد مثّل نقطة تحوّل فارقة نحو تحقيق الكيان الصهيوني طفرة اقتصادية هائلة. ومكّن تراجعُ مستوى التهديدات الأمنية على الجبهتين الجنوبية والشرقية صنّاع القرار في تل أبيب من تقليص النّفقات الأمنيّة بشكلٍ كبير، بحيث تم توجيه الموارد التي كانت مخصّصة للأمن نحو الاستثمار في مجال البنى التحتيّة المدنيّة والتقنيات المتقدّمة، وغيرها من المجالات. وأدّى هذا الواقع إلى تراجع كبير في حجْم الحصّة التي تشغلها موازنة الأمن في كلٍّ من الموازنة العامّة للدولة والناتج المحلّي الإجمالي.

 فقد كان من استخلاصات حرب عام 1973، ومن أجل منع المزيد من الإخفاقات العسكرية في المستقبل، أنْ قرّرت حكومة غولدا مائير في العام 1974، وفي خطوة غير مسبوقة، مضاعفة حجم موازنة الأمن تقريباً، لتبلغ 47% من الموازنة العامّة للدولة، و37% من إجمالي الناتج المحلّي ؛ وذلك لتغطية حجم النفقات التي تطلّبتها عمليّة إعادة بناء الجيش وفرقه وألويته، لاسيّما في الجبهة الجنوبية في أعقاب الحرب[1].

 ولإدراك حجم التحوّل الذي طرأ على بنية موازنة الأمن في أعقاب هذه الخطوة؛ فإننا نشير إلى أنّ موازنة الأمن لعام 2011، والتي تبلغ 49.4 مليار شيكل (نحو 12 مليار دولار)، وتعتبر أكبر موازنة على الإطلاق في تاريخ إسرائيل، تمثّل فقط 15.1% من الموازنة العامّة للدولة، و6% من الناتج المحلّي الإجمالي الذي يبلغ 864 مليار شيكل (نحو 201 مليار دولار). وهذه هي أدنى نسبة تقتطعها موازنة الأمن من الناتج المحلّي في تاريخ إسرائيل على الإطلاق[2].

 ونظراً لحجم الكارثة الاقتصادية التي حلّت بإسرائيل في أعقاب حرب 1973، فقد أطلق خبراء الاقتصاد على العقد الذي تلا الحرب، مصطلح "العقد المفقود"، ذلك أنّ قيمة ما دفعته إسرائيل خلال هذا العقد من مستحقّات على فوائد ديونها، فاقت حجم ما خصّصته من موارد لموازنات التعليم، والصّحة، والرّفاه الاجتماعي، والإسكان، مجتمعة[3]. أي إنّ تعاظم قوّة إسرائيل العسكرية في أعقاب الحرب، جاء على حساب النموّ الاقتصادي، وكادت الدولة تعلن إفلاسها، لوْلا الخطّة الاقتصادية الشاملة التي وضعتها حكومة الوحدة الوطنيّة في العام 1985.

ولقد مكّن تقليص موازنة الأمن، في أعقاب توقيع معاهدة "كامب ديفيد"، إسرائيل من توجيه الموارد لسداد فوائد الديون، بالإضافة إلى أنّ جزءًا من التقليص وجّه إلى قطاعات الصحّة والتعليم والإسكان، أي إنّ "السّلام" والاستقرار ساهما في تمكين صنّاع القرار في تل أبيب، من اتّباع سياسة اقتصادية- اجتماعية ضمنت تكريس أسس دولة الرّفاه الاجتماعي، لتكون إسرائيل بيئةً جاذبة للهجرة اليهوديّة. وقد كان لهذا التطوّر دورٌ كبير في تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي، عبْر تمكين إسرائيل من استيعاب موْجات الهجرة اليهودية (من الدول التي كانت تشكّل الاتحاد السوفياتي) أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي.

ويرى الخبير الاقتصادي شلومو ماعوز، أنّ موجات الهجرة اليهودية هذه عزّزت الاقتصاد، بجلْب الكثير من أصحاب المؤهّلات والفنيّين والخبراء في مجال التقنيات المتقدّمة، وهو ما أدّى إلى تعاظم التصدير والنموّ الاقتصادي بشكل كبير. فقد قفزت نسبةُ أصحاب الكفاءات العلميّة من 10% إلى 20% من إجمالي عدد السكّان.

وكان لهذا دوره في إحداث طفرة في عوائد التّصدير للخارج؛ فارتفعت هذه العوائد من 50 مليار دولار سنوياً قبْل موجات الهجرة، إلى 80 مليار سنويًّا بعد هذه الموجات[4]. ويرى المحلّلون الإسرائيليون أنّ توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" قد مهّد لتوقيع منظّمة التحرير الفلسطينية اتّفاقيات أوسلو، وتوقيع الأردن معاهدة وادي عربة؛ وهو ما عزّز وتيرة النموّ الاقتصادي[5].

ويستثني الخبراء الاقتصاديون فترة انتفاضة الأقصى، التي أثّرت سلباً في الاقتصاد الإسرائيلي، حيث خسر هذا الاقتصاد، خلال سنوات الانتفاضة الأربع، نحو 12 مليار دولار، وقدّر التراجع في معدّل دخل الفرد بنحو 1800 دولار في العام[6]. وممّا لا شكّ فيه، أنّ هذه المعطيات تُضفي صدقيّةً على الاستنتاج القائل إنّ البيئة الأمنيّة تؤثّر بشكل مؤكّد في النّشاط الاقتصادي.

2. مصير معاهدات التسوية والنفقات الأمنية

نستعرض في هذا الجزء من الدراسة المخاطر الاستراتيجيّة التي تنطوي عليها الثورات العربية، وتداعياتها على صعيد نفقات الأمن، كما يراها المحلّلون والنّخب الأمنية والاقتصاديّة في إسرائيل. فقد أثارت الثورات التي يشهدها العالم العربي المخاوف - لدى كلٍّ من صنّاع القرار وأرباب المرافق - من أن تمثّل التحوّلات النّاجمة عن هذه الثورات، تهديداً لكلّ الإنجازات التي حقّقتها إسرائيل بفعل عوائد التّسوية. فقد اعتبرت النّخب الإسرائيلية أنّ ما حدث في العالم العربي، يمثّل تهديداً لاتّفاقيّة كامب ديفيد التي أتاحت للكيان الصّهيوني تقليص نفقات الأمن، ومضاعفة الاستثمار في المجالات المدنيّة التي تعزّز النموّ وتبعد شبح الرّكود الاقتصادي.

ويرى عوديد عيران، رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، أنّه منذ توقيع المعاهدة في العام 1979، وحتّى اندلاع المظاهرات المطالبة بالتغيير في ميدان التحرير في الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير الماضي، لم تطرح أيّ علامات استفهام حول مدى التزام مصر باتّفاقية "كامب ديفيد"، على الإطلاق.

 ويشير عيران إلى أن ّالنظام المصري فاجأ إسرائيل عندما صمدت اتّفاقية كامب ديفيد، في الوقت الذي قصفت إسرائيل المفاعل الذرّي العراقي في العام 1981، وغزت لبنان في العام 1982، وفي خضمّ انتفاضتيْ الحجر والأقصى في فلسطين، وكذلك حرب لبنان الثانية في العام 2006، وحرب غزّة في العام 2008. بل إنّ مصر، بدلاً من الاحتجاج الحقيقي على سلوك إسرائيل، حرصت على تهدئة الأطراف العربيّة عندما أثارت الممارسات الإسرائيلية أعصاب العالم العربي[7] ولا يستبعد عيران تخلِّي مصر عن اتفاقية كامب ديفيد، مستنداً في حكمه هذا إلى نتائج استطلاع للرّأي العام أجراه معهد ((The Pew Research Center التي أظهرت أنّ 54% من المصريّين يروْن وجوب إلغاء معاهدة كامب ديفيد، مقابل 36% رأوْا وجوب الحفاظ عليها[8].

ويذهب دان إلدار، الذي تولَّى في السابق مناصب قيادية في جهاز الموساد ويعمل حالياً محاضراً لدراسات الشّرق الأوسط في جامعة تل أبيب، إلى ما ذهب إليه عيران، مشيراً إلى أنّ غياب نظام الرئيس مبارك سيسمح بالتعبير عن عداوة إسرائيل الراسخة عميقاً في الوعي الجمعي للمصريّين. وهو لا يستبعد أن يؤدّي اندماج الإسلاميّين في الحياة السياسية المصريّة إلى تحالفهم مع قادة الجيش، متوقّعاً أن يساهم مثل هذا التّحالف في التعجيل بوضع حدٍّ لمعاهدة كامب ديفيد[9]. أمّا المستشرق ألكساندر بلي فيرى أنّ نظام الحكم المقبل في مصر لن يلجأ إلى إلغاء اتّفاقية كامب ديفيد حتّى لا يخسر الشّرعية الدولية، لكنه في المقابل سيعمل على إضعافها على نحوٍ تقع فيه مسؤوليّة إلغائها على إسرائيل[10].

"
ترى النّخبة العسكرية وعددٌ من الخبراء الاقتصاديّين وبعض أرباب المرافق الهامّة، أنّ التّهديدات التي تنطوي عليها الثّورات العربية ستفرض إدخال تغييرات جذريّة على حجم ميزانية الأمن وبنيتها،علاوة على إعادة صياغة سلّم الأولويّات الإسرائيلي بشكلٍ جذري.
"

وبسبب هذه المخاوف، ترى النّخبة العسكرية وعددٌ من الخبراء الاقتصاديّين وبعض أرباب المرافق الهامّة، أنّ التّهديدات التي تنطوي عليها الثّورات العربية ستفرض إدخال تغييرات جذريّة على حجم ميزانية الأمن وبنيتها،علاوة على إعادة صياغة سلّم الأولويّات الإسرائيلي بشكلٍ جذري.

وقد عبّر عن ذلك بشكلٍ واضح رئيس هيئة أركان الجيش بني جانز، الذي قال: إنّ التحوّلات التي يشهدها العالم العربي توجب تخصيص موازناتٍ إضافيّة للجيش، معتبراً أنّ هذه التحوّلات فاقمتْ من مستوى التهديدات وحجمها على كلّ الجبهات[11]. ويتحدّث رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق عاموس يادلين، عن "انقلاب" يجب أن تشهده موازنة الأمن في حال تحقّقت التنبّؤات السوداويّة بانهيار كامب ديفيد في أعقاب التحوّلات في العالم العربي. ويعتبر أنّ إسرائيل باتت مطالبة بالاستعداد لمراكمة الرّدع في مواجهة مصر، مع كلّ ما يعنيه ذلك من إدخال تغييرات جذريّة على بنية الجيش الإسرائيلي وانتشاره، وهذا يعني زيادة حجم ميزانية الأمن بشكل كبير[12].

ويتّفق وزير الدّفاع الإسرائيلي إيهود براك مع أولئك الذين يروْن أنّ التحوّلات في مصر تمثّل خطراً حقيقياً على مصير معاهدة كامب ديفيد، متوقّعاً أنْ تتنافس الأحزاب المصريّة بعد الثورة فيما بينها على إظهار عدائها لكلٍّ من إسرائيل والولايات المتّحدة. ويرى براك أنّ هذا السيناريو يعني زيادة النّفقات الأمنيّة بشكلٍ جذري؛ لكنه يرى أنّ إسرائيل ليس بإمكانها تأمين النّفقات الأمنيّة لوحدها، لذا لا يتردّد في مطالبة الولايات المتّحدة بدفع عشرين مليار دولار إضافيّة لموازنة الأمن، مساهمة منها في مساعدة إسرائيل على تحمّل تبعات الثّورات العربية على أمنها القومي، ولم يفتْ براك أن يذكّر الأميركيّين بأنّ استثمار هذا المبلغ سيعود بالنّفع على الولايات المتحدة " لأنّ ضمان تفوّق إسرائيل يمثّل أحد عوامل الاستقرار في منطقةٍ غير مستقرّة"[13].

وعلى الرغم من أنّ أرباب المرافق الاقتصادية الإسرائيلية، يرفضون بشكلٍ تقليدي المسوغات التي تقدّمها النّخبة الأمنيّة لتبرير زيادة موازنة الأمن، إلاّ أنّ بعضهم يرى أنّ التحوّلات التي يشهدها العالم العربي تبرّر بالفعل إدخال تغييراتٍ جذريّة على هذه الموازنة. ويرى أوري جلاي، مدير عام المجموعة الاستثمارية "سيجما"، أنّ حجم موازنة الأمن الإسرائيليّة اعتمد في العقود الثلاثة الماضية بشكلٍ أساسي، على حالة الهدوء التي تسود الحدود مع مصر والأردن وسوريا، وهو ما لن يستمرّ. لذا، يتوقّع جلاي أنْ يدفع تعاظم النفقاتِ الأمنيّة الحكومة الإسرائيلية إلى تجريد الوزارات المدنيّة المختلفة من مواردها الماليّة، ونقلها إلى وزارة الدّفاع لتغطية المصاريف الأمنيّة[14].

ويتوقّع ميشيل ستربتسنسكي، نائب رئيس قسم الأبحاث في بنك إسرائيل، أن يتمّ تجاوز إطار موازنة الأمن، بفعل التطوّرات في العالم العربي، التي ستترك تأثيرها في مصاريف الأمن[15]. وينطلق الإسرائيليون من افتراضٍ مفاده إنّ نجاح الثورة في مصر قد يدفع إلى إحداث تغييرات جوهريّة في العالم العربي تمثّل تحدّياتٍ أمنيّة ذات كلفة اقتصاديّة باهظة. فهناك شكوكٌ نحو مستقبل التزام الأردن بمعاهدة وادي عربة في ظلّ رأي عام أردني رافضٍ لها، كما أنّ الإسرائيليّين يتوقّعون حدوث "تسونامي" في أعقاب توجّه السلطة الفلسطينية للحصول على اعتراف الجمعية العامّة للأمم المتّحدة بدولة فلسطين، ويخشون من تداعيات حالة عدم اليقين التي تسود الأوضاع في سوريا.

ويرى داني روتشيلد، رئيس مركز "هرتسليا متعدّد الاتجاهات"، والذي شغل في الماضي منصب رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيلية، أنّ الذي يفاقم خطورة التداعيات الناجمة عن الثّورات العربية، حقيقة أنها اندلعت في ظلّ حالة الجمود التي تشهدها المفاوضات مع الفلسطينيين[16].

ويبرّر المطالبون بزيادة موازنة الأمن ذلك بالقول إنّ النّفقات الأمنيّة تمثّل في الواقع استثماراً ذا طابعٍ استراتيجي في النشاط الاقتصادي؛ لأنّ هذه النفقات توظّف في الجهد الهادف إلى تقليص المخاطر الأمنيّة التي تؤثّر بدورها في عجلة الاقتصاد.

يتّضح ممّا تقدّم أنّ الاتّجاه السّائد في تحليلات الإسرائيليّين يرى أنّ الثورات العربية تنذر بتغيير بيئة إسرائيل الاستراتيجيّة بشكلٍ عام، وهو ما يوجب القيام باحتياطات أمنيّة واسعة تتطلّب زيادة مستويات الإنفاق الأمني بشكلٍ كبير.

3- هاجس متلازمة 1973

يرى المحلّلون في إسرائيل أنّ إسقاطات ثورات التحوّل الديمقراطي في العالم العربي (إسرائيليًّا) لا تتمثّل فقط في زيادة نفقات الأمن بشكلٍ كبير، بل هناك مخاوف من مساهمة هذه الثورات في تقليص معدّلات النموّ وبروز مظاهر الرّكود الاقتصادي، ممّا سيجد ترجمته في تراجع النّاتج المحلّي الإجمالي الإسرائيلي بشكلٍ كبير. وهذا يعني مضاعفة الحيّز الذي تشغله موازنة الأمن في كلّ من الموازنة العامّة للدولة والناتج المحلّي الإجمالي، أي أنّ إسرائيل - وفق هذه التوقّعات - مهدّدةٌ بالعودة إلى نفس الظّروف التي مرّت بها بعد حرب عام 1973، مع كلّ ما يعنيه هذا من تحوّل النموّ إلى ركود واستفحال التضخّم[17].

 ويرى تسفي لبيا، المعلّق الاقتصادي لصحيفة "يديعوت أحرنوت"، أنّ تعاظم مستويات الإنفاق الأمني المتوقّع في أعقاب التحوّلات في العالم العربي سيدفع إسرائيل إلى انتهاج سياسة تقشّفٍ اقتصاديّة، وسيجبر مخطّطي السّياسة الاقتصاديّة الإسرائيليّة على التّراجع عن توجّهاتهم السابقة لتقليص الضّرائب، على اعتبار أنّ المبدأ السّائد في إسرائيل يقول إنّه عند المفاضلة بين المناعة الأمنيّة والمناعة الاجتماعيّة يتوجّب تفضيلُ الخيار الأوّل من دون تردّد[18].

ومن ضمن مظاهر السياسة التقشّفية التي يشير إليها لبيا التراجع عن التوجّه الذي كان سائداً حتّى اندلاع الثورات العربية، والمتمثّل في تقليص الضرائب.بل إنه بات يتوقّع حالياً، أن تلجأ إسرائيل إلى فرْض ضرائبَ جديدة للوفاء بمتطلّبات الأمن. ويتوقّع لبيا، أنْ يؤدّيَ تعاظم الإنفاق الأمني إلى تراجع في حجم فائض الدّخل القومي السّنوي بشكلٍ كبير، مع العلم أن ّهذا الفائض يُستخدم عادةً في تمويل مخصّصات الضّمان الاجتماعي للجمهور، لاسيّما للطّبقات الضّعيفة.

وهناك مؤشّرات على تحقّق بعض المحاذير التي تمّت الإشارة إليها، حيث اندلعت الثورات العربية في ظلّ مطالبة العديد من نوّاب الكنيست بتخفيض قيمة الوقود للجمهور، وجرت مداولات متقدّمة بهذا الشأن في الكنيست، وتحديداً في لجنة الماليّة التابعة لها. لكن،في ظلّ ما حدث في مصر وتفجير الأنبوب الذي ينقل الغاز من مصر إلى قطاع غزّة، والدّعوات داخل مصر إلى رفْع سعر الغاز الذي يُباع لإسرائيل؛ لم تُطرَح القضيّة، وأصبح جلّ اهتمام الإسرائيليّين موجّهاً نحو محاولة الاستثمار في البحث عن مصادر طاقة ذاتية[19].

و ما يقضّ مضاجع النّخبة السياسية والاقتصاديّة في إسرائيل أكثر هو المخاوف من أن تسفر الثورات العربيّة عن فرْضِ قيودٍ على تجارة إسرائيل الخارجيّة. ذلك أنّ 98% من هذه التجارة تُنقَل عبْر البحار، وثلث الاستيراد والتّصدير الإسرائيليّين يوجَّه نحو الشرق عبر البحر الأحمر، أيْ عبر قناة السويس[20]. ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يتخوّف فقط من إغلاق قناة السويس أمام السّفن التجارية الإسرائيلية، بل إنّه يخشى أنْ يقْدِم المصريون على إغلاق مضائق تيران وتهديد الملاحة البحرية عبر ميناء إيلات، ممّا يعني خنْق إسرائيل تماماً[21].

 ومن الأهميّة بمكان، الإشارة إلى أنّ إسرائيل اعتبرت إغلاق مضائق تيران مسوّغاً كافياً لشنّ حربيْ 1956 و1967. ويذهب المستشرق الإسرائيلي ألكساندر بلي إلى أبعد من ذلك، في رسم صورة قاتمة لمستقبل تجارة إسرائيل الخارجيّة، في أعقاب تفجّر الثورات العربية. وهو يرى أنّ كلّ الممرّات البحريّة الهامّة التي تمرّ عبْرها التجارة الخارجية باتت مهدَّدة، ولا يقتصر الأمر فقط على قناة السويس.

 ويشير بلي إلى أنّه في أعقاب الثورات العربية، فإنّ الخطر لا يتهدّد التجارة الإسرائيلية عبر قناة السويس فقط، بل يتعدّاها إلى مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، وإلى مضيق هرمز الذي يصل الخليج العربي بالمحيط الهندي، ومضيق البوسفور الذي يربط البحر الأبيض بالبحر الأسود[22].

وحسب منطق بلي، فإنّ ما يحدث في اليمن حالياً سيؤدّي إمّا إلى أن يتولّى الحكم نظامٌ مُعادٍ للغرب، أو أن تسود اليمن حالةٌ عارمة من الفوضى، وكلا السيناريوين يمثّل تهديداً للملاحة البحرية، ولاسيّما الملاحة الإسرائيلية. ويوضّح أنّ مضيق هرمز يقع تحت رحمة إيران، في حين أنّ حريّة الملاحة عبر البوسفور لم تعد مضمونةً مع صعود "الأردوغانية" في تركيا التي تشرف على المضيق. وينصح بلي صنّاعَ القرار في إسرائيل بضرورة إعداد خطّة لتأمين واردات النفط عبر ممرّاتٍ أخرى، أو التّفكير جدّيًّا في مضاعفة الاستثمار في البحث عن النّفط داخل إسرائيل وفي مجالها البحري[23].

يتّضح ممّا سبق أنّ هناك مخاوف حقيقيّة لدى الخبراء الإسرائيليّين، أن تسفر الثورات العربية عن بيئة استراتيجية جديدة تعيد الاقتصاد الإسرائيلي إلى نفس المربّع الذي وُجد فيه بعيْد حرب 1973، وهو ما بات يُطلَق عليه في إسرائيل متلازمة 73.

4. خطر شلل المرافق الاقتصادية

إنّ أحد أهمّ الاحتياطات التي يرى خبراءُ الأمن الإسرائيليون أنّ تل أبيب يجب أنْ تقْدم عليها في ظلّ التحوّلات في مصر، هو إحياء الجبهة الجنوبية وزيادة عدد القوّات البريّة لتحمّل الأعباء الأمنيّة النّاجمة عن الواقع الجديد[24]. لكن في حال تحقّق هذا السيناريو، فإنه لا يزيد حجم الإنفاق الأمني بشكل هائل فقط، بل إنه سيساهم، على المدى المتوسّط والبعيد، في إصابة المرافق الاقتصادية، ليكون ذلك سبباً آخر لتراجع إجمالي الناتج المحلّي بشكلٍ واضح. ففي ظلّ ازدياد الثّقل الديموغرافي للتيّار الديني الحريدي الذي يتمّ إعفاء معظم أتباعه من الخدمة العسكريّة، فإنه يفترض أن يتحمّل أعباءَ الجهد العسكري العلمانيون وأتباعُ الصهيونية الدينيّة.

 لكن المعطيات الرسمية تدلّل على تراجعٍ كبير في دافعيّة الشّباب العلماني، خلال العقد الأخير، للتطوّع في الوحدات القتالية التي يعتمد عليها في حسم المعارك والحروب. وحسب دراسةٍ أجراها الباحث الإسرائيلي يورام بيري، فقد أصبح الشّباب العلماني معنياًّ بتطوير مساراتٍ رياديّة اجتماعية بديلة عن مسار الخدمة العسكريّة، ممّا جعله يلهث خلف النّجاح الشخصي، ويُبدي ميْلاً نحو العزوف عن الخدمة في الوحدات القتاليّة، أو اختيار الحياة العسكريّة كمسار مهني من الناحية الشّخصية[25].

 وهذا يعني بشكلٍ واضح إطالة أمَد الخدمة العسكريّة على الضبّاط والجنود في قوّات الاحتياط التي تضطلع بنحو 70% من الجهد الحربي. ولمّا كان ضبّاط وجنود قوّات الاحتياط هم الذين يعملون في المرافق العامّة ويديرونها، وضمنها المرافق الاقتصاديّة المختلفة، فإنّ هذا يعْني أنّ تراجعاً كبيراً سيطْرأ على فاعليّة هذه المرافق، ممّا ينعكس سلباً على إجمالي الناتج المحلّي.

المسّ بسياسة الرفاه

لقد حرصت إسرائيل على إرساء دعائم سياسة رفاه اجتماعي، تقوم على التوسّع في تقديم مخصّصات الضّمان الاجتماعي المختلفة لطبقات المجتمع، على اعتبار أنّ هذه السياسة تمثّل أحد عوامل جذب الهجرة اليهودية، وتَحدُّ من مخاطر الهجرة العكسية. فقد انتهى عام 2010 بفائض عوائد بلغ 11 مليار شيكل، وجّه معظمه لدعم موازنة الرفاه الاجتماعي[26]. ومن مقوّمات سياسة الرّفاه، التوسّع في أوجه الصّرف المدنيّة (الصحّة، التعليم، الإسكان، الخ) على حساب الإنفاق العسكري.

 لذا، فإنّنا نجد أنه منذ منتصف الثمانينيات وحتى العام 2010، كانت نسبة المصاريف المدنيّة تقتطع 40% من الموازنة العامّة، بينما مثّلت المصاريف الأمنيّة 14% فقط من الموازنة[27]. ومن الواضح أنه في حال تعاظم مستوى الإنفاق الأمني، فإنه سيكون على حساب الإنفاق المدني، ممّا يمثّل أساساً لافتراض أنّ مبلوري السياسة الاقتصادية الإسرائيلية سيجدون أنفسهم مضطرّين لتقليص مخصّصات الضّمان الاجتماعي، وهو ما قد يؤثّر في موقع إسرائيل كبيئة جاذبة للهجرة، وقد يزيد من مظاهر الهجرة العكسية. وهذا بحدّ ذاته يمثّل مساً بأحد أهمّ مقوّميْن من مقوّمات الفكرة الصهيونية، وهو العمل على جلْب أكبر عددٍ من اليهود إلى أرض فلسطين التاريخية.

5. زيادة الارتباط بالولايات المتحدة

وهناك مِن المحلّلين الإسرائيليين مَن يحذّر من أنّ زيادة النفقات الأمنيّة في أعقاب تفجّر الثورات العربية، ستُفضي إلى تعميق ارتباط إسرائيل بالولايات المتحدة، ممّا يقلّص من استقلاليّة القرار السياسي الإسرائيلي.

ويرى الباحث في الشّؤون الاستراتيجية عومر جندلر أنّ إسرائيل لا يمكنها أن تزيد موازنة الأمن بشكل كبير، من دون مساعدةٍ خارجية، لاسيّما في ظلّ الأزمة الكبيرة التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي، حيث إنّ قدرة إسرائيل على تجنيد ضمانات ماليّة محدودة جداً، وهو ما يعني أنّ الخيار الوحيد المتاح أمام إسرائيل سيكون التوجّه إلى الولايات المتّحدة لمطالبتها بزيادة المساعدات الأمنيّة بشكلٍ كبير[28]. ويرى جيندلر أنّ طلب مساعداتٍ أميركية يعني زيادة ارتباط إسرائيل بالولايات المتّحدة بشكلٍ يقلّص من هامش المناورة السياسية لدى النّخب الحاكمة في تل أبيب، وهو ما جعل إسرائيل تسعى في الأعوام الماضية إلى تقليصه إلى حدٍّ كبير.

ويوضّح جيندلر أنّ تداعيات هذا الواقع ستكون أشدّ في ظلّ وجود رئيس أميركي يتّخذ موقفاً نقدياً من سياسات الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة، كما هي الحال مع الرئيس باراك أوباما. ويحذّر جندلر من أنه في الوقت الذي يزداد ارتباط إسرائيل بأميركا، فإنّ مكانتها في العالم العربي تتدهور، حيث ينظر العرب إليها بوصفها الطرف الذي ساعد أنظمة الاستبداد والديكتاتورية. وبالتالي، فهو يرى أنّ هناك أساساً لافتراض لجوء الولايات المتّحدة للضّغط على إسرائيل من أجل استعادة مكانتها في العالم العربي[29].

ويلفت جندلر إلى أنّ زيادة المساعدات الأمنيّة لإسرائيل سيفضي بحدّ ذاته إلى مخاطرَ اقتصادية، ويشير إلى أنّ هذه المساعدات مشروطة بوجوب التزام إسرائيل بشراء الصّادرات الحربيّة الأميركية، وتفضيلها على الصّادرات الحربيّة الإسرائيلية ذاتها؛ وهذا يمسّ بقدرة الصّناعات العسكريّة الإسرائيلية على التنافس، وبقدرتها على تحقيق أرباح.

وهناك من المحلّلين الإسرائيليّين من يرى أنّ زيادة النفقات الأمنيّة ستجعل إسرائيل عبْئًا على الغرب وعلى الولايات المتّحدة تحديداً، وذلك بخلاف الاستنتاج الذي وصل إليه رئيسُ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي زعم أنّ التحوّلات في العالم العربي تفرض على الغرب تقديم الدّعم المادّي لإسرائيل، على اعتبار أنّها تمثّل "واحةَ ديمقراطيةٍ واستقرارٍ في منطقة غير مستقرّة "، وهذا ما يمثّل خدمةً استراتيجيةً للولايات المتّحدة والغرب. لكن المعلّق العسكري رون بن يشاي يصل إلى استنتاجٍ معاكسٍ تماماً، حيث يرى أنّ الثورات في العالم العربي ستبرز إسرائيل كعبءٍ،وليس كذخر استراتيجي للغرب، وهو ما قد يؤدّي إلى تراجع في مستوى التزام دول الغرب، وتحديداً الولايات المتّحدة، بدعم إسرائيل اقتصادياً[30]. وجهة نظر أخرى

يدلّل الجدل الدّاخلي في إسرائيل، على أنه لا يوجد إجماعٌ على أنّ هناك مسوّغًا ملحًّا لزيادة موازنة الأمن في أعقاب الثورات العربية. يرى بعض المحلّلين أنّ الظروف الموضوعية تلزم مصر تحديداً بالحفاظ على معاهدة كامب ديفيد، بغضّ النظر عن طابع نظام الحكم القادم في مصر وخلفيته الأيديولوجية، وذلك استناداً للاعتبارات الاقتصاديّة المصرية المحْضة.

ويشير الباحث يتسحاك جال، من "مركز ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا"، إلى أنّ معظم حقول النّفط والغاز المصريّة تقع قريباً من إسرائيل، ممّا يعني أنّ تدهور العلاقات بين الجانبين إلى حدّ مواجهة عسكريّة سيهدّد مصادر الطاقة المصرية، ولاسيّما حقول النّفط والغاز الطبيعي، التي يساهم إنتاجها بنحو 50% من عوائد التصدير (25 مليار دولار)، وهي العوائد التي تمكّن الحكومة المصرية من دعم السّلع الرئيسة التي يشتريها الجمهور المصري[31].ويشير جال أيضاً إلى أنّ قرب قناة السويس والمرافق السياحية المصرية (والتي تساهم بـ 35-40% من مداخيل الدولة السنوية) من إسرائيل، يجعل مصر غير معنيّة بتأزيم العلاقات مع إسرائيل، والمخاطرة بتعرّض هذه الموارد للخطر.

وهناك من يرى أنّ الأوضاع الداخليّة في مصر ستمنع الحكم القادم في مصر من وضع مواجهة إسرائيل ضمن أولويّاته. ويرى ديفيد بروديترئيس (بنك لئومي)، ومدير قسم الموازنات الأسبق في وزارة الماليّة، أنّه ليست هناك حاجة لزيادة ميزانيّة الأمن بسبب ما يجري في مصر، على اعتبار أنّ حكّام مصر الجدد سيكونون معنيّين بشكلٍ أساسي بالعمل على تلبية حاجات الجمهور المصري الاقتصادية، ولن يكونوا معنيّين بالاستعداد للمواجهة العسكريّة مع إسرائيل؛ ويحذّر من أنّ زيادة النفقات الأمنية ستدفع المنطقة نحو سباق تسلّح[32].

6. الخاتمة

على الرغم من تحفّظات أرباب المرافق الاقتصادية وبعض الخبراء على الاتّجاه الرّسمي العام بشأن زيادة موازنة الأمن، ومع أنه من السّابق لأوانه الحكم على مآل الثّورات العربية وتداعياتها على إسرائيل، فإنه يمكن القول إنّ حالة الضبابيّة وانعدام اليقين التي أسفرت عنها الثورات العربية، ستدفع إسرائيل للقيام باحتياطات أمنيّة كبيرة تُرْهق خزانة الكيان الصهيوني.

 من هنا، فإنّ إسرائيل ستحاول الاعتماد على المساعدات الأميركية الإضافيّة لتغطية النّفقات العاجلة حتى لا تتأثّر السياسات الاقتصادية- الاجتماعية التي تضمن مستوى رفاهٍ عالٍ للإسرائيليّين. لكن في حال تحقّقت التوقّعات السوْداوية بشأن مآل الثورات العربية، وتحوّلت الجبهات الحدوديّة في الجنوب والشّرق والشّمال، إلى ساحات مواجهة؛ فإنّ النّفقات الأمنيّة ستكون كبيرة إلى الحدّ الذي لن يجديَ معه الاكتفاء بالمساعدات الأميركية الإضافيّة. وعليه، فإنّ تعاظم النفقات الأمنيّة في هذه الحالة سيُفضي إلى:

1. تقليص الخدمات المدنيّة والمسّ بركائز سياسة الرّفاه الاجتماعي؛ ممّا يعني تقليص مخصّصات الضمان الاجتماعي.

2. استنفاد موارد الدولة الماديّة والبشريّة في الوفاء بالمتطلّبات الأمنيّة، سيصيب المرافق الاقتصادية بالشّلل.

3. تراجع معدّلات النموّ وتعاظم مظاهر الرّكود الاقتصادي.

4. تراجع إجمالي النّاتج المحلّي.
---------------------------
* [1] ميراف أورلزروف، "انهيار العقيدة الأمنية يؤدي في الغالب إلى انهيار اقتصادي"، صحيفة ذي ماركر، 31-1-2011. http://www.themarker.com/markets/1.599447
* [2] موطي بوسك، "من يكشف حقيقة الأرقام في موازنة الأمن "، ذي ماركر،12-4-2011.http://www.themarker.com/news/1.624815
* [3] ميراف أورلزروف، مرجع سابق.
* [4] تاني جولدشتاين، "لولا الروس لكنا عشرين سنة في الخلف "، واي نت، 12-5-2010.http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-3842545,00.html
* [5] انظر مثلاً: عومر جندلر، "موازنة الأمن ستتعاظم، وسيقوى ارتباط إسرائيل بالولايات المتحدة "، الموقع الشخصي للباحث في الشؤون الاستراتيجية عومور جندلر، 28-2-2011.http://omergendler.blogspot.com/2011/02/defense-budget-will-increase.html.
* [6] شموئيل ايفن، " نفقات الأمن في "إسرائيل": معطيات ومعان " ترجمة مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، عن معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، 6-5-2010. http://www.alzaytouna.net/arabic/?c=201&a=114136.
(*) المصدر: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات
2011-07-18