ارشيف من :أخبار لبنانية
صناعة الفتوى في إسرائيل(*)
سلطت الفتوى التي أصدرها الحاخام إسحاق شابيرا مدير إحدى المدارس الدينية اليهودية في الضفة الغربية والتي تتضمن " مسوغات فقهية " وفق " تسمح بقتل غير اليهود سواءً كانوا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً وفق الشريعة " اليهودية، الأضواء على صناعة الفتاوى ومكانتها في إسرائيل، في ظل المؤشرات الواضحة على الدور الذي تلعبه هذه الفتاوى ليس فقط في إضفاء شرعية دينية على ذبح الفلسطينيين والمس بكرامتهم، بل أيضاً وتأثيرها على المجتمع الإسرائيلي ومساهمتها في دفعه نحو مزيد من التطرف الديني و السياسي، علاوة على أن المكانة التي تحظى بها هذه الفتاوى باتت تهدد طابع إسرائيل العلماني، وتكشف زيف إدعاء نخبها الحاكمة وجود فصل بين الدين والدولة. ومن نافلة القول أن هذه الفتاوى تدلل بشكل لا يقبل التأويل على نفاق العالم الذي يكيل بمكيالين، فهو من جهة يغض الطرف عن هذه الفتاوى ومروجيها، وفي ذات الوقت فإن كل من يتعرض لليهود يوسم بمعاداة السامية والعنصرية.
فتاوى قاتلة
كانت الفتوى التي أصدرها الحاخام شابيرا حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من الفتاوى التي أصدرها كبار الحاخامات والمرجعيات الدينية اليهودية في العقد الأخيرين والتي توفر المسوغات الدينية للمس بالمدنيين الفلسطينيين فقط لكونهم فلسطينيين وعرباً ومسلمين. ولعل أخطر الفتاوى كانت تلك التي صدرت بتاريخ 6-3-2008، ووقع عليها عدد من كبار الحاخامات اليهود الذين يشكلون ما يعرف بـ " رابطة حاخامات أرض إسرائيل " برئاسة الحاخام دوف ليئور والتي أباحت للجيش الاسرائيلي قصف التجمعات السكانية الفلسطينية بدون تمييز، والتي استند إليها عدد من الوزراء المتدينين في حكومة أولمرت السابقة لإبداء حماسهم إزاء تعمد المس بالمدنيين الفلسطينيين أثناء الحرب الإجرامية الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة. وجاء في هذه الفتوى أن " الشريعة اليهودية تبيح قصف التجمعات السكانية المدنية الفلسطينية، والتوراة تجيز اطلاق قذائف على مصدر النيران حتى لو كان يتواجد فيه سكان مدنيون ". ولم يفت الموقعون على الفتوى التأكيد على أنه لا يتوجب على الجيش تحذير المدنيين قبل عملية القصف. وفي هذا السياق لا يمكن أيضاً إغفال الفتوى التي أصدرها الحاخام مردخاي إلياهو زعيم التيار الديني الصهيوني، أهم مرجعيات الإفتاء في إسرائيل على الإطلاق والتي لا تبيح فقط المس بالرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين، بل أيضاً تدعو إلى قتل " بهائمهم " . وتنص الفتوى على وجوب قتل حتى الأطفال الرضع. وقام إلياهو بـ " التأصيل الفقهي " لفتواه عبر المقارنة بين الفلسطينيين الحاليين والعمالقة الذين كانوا يقطنون فلسطين عندما دخل يوشع بن نون أريحا عام 1190 ق.م، حيث يدعي إلياهو أن الرب أنزل على يوشع بن نون حكماً يقضي بوجوب قتل العمالقة رجالاً ونساءً وأطفالاً رضع، وحتى البهائم. واعتبر إلياهو أن الفلسطينيين هم " عمالقة هذا العصر "، وبالتالي يتوجب معاملتهم مثلما تمت معاملة العمالقة القدماء. وحرص إلياهو على تضمين الفتوى نص الحكم الذي يزعم أنه نزل على يوشع بن نون، حيث جاء في هذا الحكم المزعوم " اقضوا على عملاق من البداية حتى النهاية..اقتلوهم وجردوهم من ممتلكاتهم، لا تأخذكم بهم رأفه، فليكن القتل متواصلاً، شخص يتبعه شخص، لا تتركوا طفلاً، لا تتركوا زرعاً أو شجراً، اقتلوا بهائمهم من الجمل حتى الحمار ". وأفتى الحاخام منيس فريدمان مدير " مركز حنا لدراسة التاريخ اليهودي " بوجوب تدمير الأماكن المقدسة للفلسطينيين، علاوة على قتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم. علاوة على ذلك فقد أفتى حاخامات آخرين بجواز تسميم آبار المياه التي يشرب بمنها القريون الفلسطينيون الذين يقطنون في محيط المستوطنات وحثوا على نهب محاصيلهم الزراعية، لدفعهم للفرار.
تشريع الانتقام
وحثت بعض الفتاوى الشباب اليهودي على المبادرة للانتقام من المدنيين الفلسطينيين بعد كل عملية تنفذها حركات المقاومة. وفي بتاريخ 13-6-2008 أصدر خمسة عشر حاخاماً برئاسة الحاخام يعكوف يوسيف نجل الحاخام عفوديا يوسيف الرئيس الروحي لحركة " شاس " فتوى صريحة تدعو للمس بالمدنيين الفلسطينيين بعد كل عمل مقاوم يستهدف يهوداً، حيث أجازت الفتوى أيضاً تدمير ممتلكات المدنيين الفلسطينيين، على اعتبار أن هذا السلوك يمثل عملاً " رادعاً يوضح للفلسطينيين الثمن الباهظ الذي تنطوي عليه محاولة المس باليهود ". وحسب هذه الفتوى فإنه ليس شرطاً أن يقوم الفلسطينيون بتنفيذ عمل مقاوم ضد اليهود حتى يتوجب القيام بعمليات انتقامية ضدهم، بل يكفي أن تكون هناك دلائل على وجود نية لديهم للقيام بهذا العمل. وفي السابع من أيلول عام 2005 أصدرت مجموعة أخرى من الحاخامات فتوى ضمنتها رسالة وجهت الى رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أرييل شارون، حثته فيها على عدم التردد في المس بالمدنيين الفلسطينيين خلال المواجهات التي كانت مندلعة في الأراضي المحتلة، وجاء في الفتوى: " نحن الموقعون أدناه، ندعو الحكومة الإسرائيلية والجيش الاسرائيلي إلى العمل حسب مبدأ، من يقم لقتلك ، سارع و اقتله". وأضافت الفتوى : " لا وجود في العالم لحرب يمكن فيها التمييز بشكل مطلق، بين المدنيين والجيش، لم يحدث ذلك في الحربين العالميتين، ولا في حرب الولايات المتحدة في العراق، وحرب روسيا في الشيشان، ولا في حروب إسرائيل ضد اعدائها ، ففي الحرب قومية تحارب قومية ، قومية تنتصر على قومية "، على حد تعبير الموقعين على الفتوى . وأردف الحاخامات "والسؤال المطروح أمامنا هو هل نحارب العدو من خلال هجوم يقتل خلاله مدنيون من صفوفه، أو نمتنع عن الحرب بسبب المدنيين فنخاطر بذلك بالمدنيين لدينا؟ الجواب على السؤال نجده ببساطة لدى الحاخام عكيفا ( أحد مرجعيات الافتاء لليهود في العصور الغابرة )، الذي قال : حياتنا أولى". ولم يفت الحاخام مردخاي إلياهو أن يوضح أنه في الوقت الذي يطالب الحاخامات بالإنتقام من العرب فإنهم يدركون أن " ألف عربي لا يساوون يهودياً واحداً ".
تسويغ التمييز العنصري
ولا تقتصر أغراض الفتاوى على الحث على قتل غير اليهود وتسويغه، بل يتعداه إلى تشريع التمييز العنصري ضد غير اليهود بشكل صارخ. ففي تاريخ 24-4-2005 أفتى الحاخام شاؤول جولشميت الحاخام الأكبر لمدينة " كفار سابا " بعدم جواز أن يتبرع اليهودي بدمه لغير اليهودي. ورداً على استفسار أحد الأطباء اليهود المتدينين قال جولشميت أنه لا يتوجب بحال من الأحوال الموافقة على حصول الفلسطينيين الذين يعالجون في المستشفيات الإسرائيلية على الدم من اليهود على اعتبار أنه " لا يجوز المساواة بين الدم اليهودي وغير اليهودي بحال من الأحوال ". وأفتى الحاخام دوف ليئور بعدم جواز تقديم الإسعاف الطبي لغير اليهود حتى لو كان من حلفاء اليهود. وقد استند بعض الأطباء والممرضون المتدينون في الجيش الإسرائيلي على هذه الفتوى ورفضوا اسعاف جنود دروز يخدمون في الجيش الإسرائيلي بعد إصابتهم خلال المواجهات مع حزب الله في جنوب لبنان والمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية. وقد أصدر الحاخام شلومو أفنير مدير مدرسة " مركاز هراب "، أكبر المدارس الدينية التابعة للتيار الديني الصهيوني في إسرائيل فتوى قاطعة تدعو لعدم السماح بتمثيل فلسطينيي 48 في الكنيست الإسرائيلي على اعتبار أنهم " ألذ أعداء إسرائيل ". وأصدر 15 من كبار الحاخامات اليهود فتوى تدعو الى عدم السماح بتشغيل العرب في إسرائيل على اعتبار أن تشغيلهم بات يمثل " خطراً وجودياً " على مستقبل الدولة. وجاء في الفتوى " مرة تلو مرة يتبين بالدليل القاطع أن المجتمع الإسرائيلي يدفع ثمناً دموياً كبيراً بسبب سماحه بالعمالة العربية الرخيصة ". وأضافت الفتوى " لقد تحولت هذه المشكلة إلى خطر يتهدد وجود الدولة والشعب اليهودي، حيث أنها تؤدي إلى سيطرة العرب على فرص العمل وإبعاد اليهود عن كل مكان ". ويذكر أن الفلسطينيين يقومون بالأعمال التي يرفض اليهود القيام بها أصلاُ مثل البناء والزراعة وجميع المهن التي تتطلب مجهوداً بدنياً.
فتاوى تتناقض مع صريح التوراة
وقد دفع الحقد والعنصرية عدد من كبار المرجعيات الافتاء إلى إصدار فتاوى تتناقض مع صريح التوارة. وإن كان لا خلاف على حرمة العمل في يوم السبت وفق الشريعة اليهودية وباتفاق كل المرجعيات الدينية على مر العصور، فقد أصدر الحاخام ابي جيسير الحاخام الأكبر لمستوطنة " عوفرا "، أحد أكبر المستوطنات في الضفة الغربية والتي تقع بجوار مدينة رام الله فتوى قبل عدة أشهر تبيح لشركات البناء العمل والبناء في المستوطنة أيام السبت من أجل تكريس حقائق على الأرض، ومنع الفلسطينيين من استعادة أراضي سيطر عليها المستوطنون في المنطقة بالقوة لإقامة حي سكني جديد. وبخلاف ما تنص عليه التوارة التي تحرم الخنزير، فقد أفتى عدد من كبار الحاخامات في الضفة الغربية للمستوطنين بتربية قطعان الخنازير من أجل استخدامها في إتلاف المحاصيل الزراعية للقرويين الفلسطينيين الذين يقطنون في محيط المستوطنات. وبالفعل فقد تحولت قطعان الخنازير التي يربيها المستوطنون، تحديداً في شمال الضفة الغربية إلى كابوس يقض مضاجع القرويين الفلسطينيين.
فتاوى لخدمة المصالح الحزبية
وتستخدم الفتاوى أيضاً من قبل الأحزاب الدينية لضمان تحقيق أكبر مكاسب انتخابية عشية الانتخابات عبر توظيف الدين بشكل رخيص ومبتذل ومثير للسخرية. فعشية الانتخابات الأخيرة أصدر الحاخام عفوديا يوسيف زعيم حركة شاس فتوى تنص على أن " كل من يصوت لحركة شاس سيحصل على مكان في الدرجة الخامسة من جنة عدن "، مع العلم أن هذه " الدرجة " تعتبر أعلى درجات الجنة حسب النصوص الدينية اليهودية. كما أن يوسيف توعد كل من يصوت لخصم شاس حزب " إسرائيل بيتنا " بـ " اللعنة والهلاك ". وتنشط المرجعيات الدينية الأرثوذكسية في إصدار صكوك " الحرمان " ضد خصومهم السياسيين.
تطور صناعة الفتاوي
تعتبر " الحاخامية الكبرى "، هي أهم مؤسسة دينية رسمية تختص – ضمن مهام أخرى - بإصدار الفتاوى في القضايا الخلافية والتي تتعلق على وجه التحديد بالعلاقة بين الدين والدولة، ناهيك عن القضايا ذات طبيعة اجتماعية وقضايا الأحوال شخصية،. ومنذ عام 1948 وحتى أواخر السبعينات لم تبد الحاخامية الكبرى ميلاً للتدخل في الشؤون السياسية مثار الخلاف، وذلك لأنه في هذه الفترة سادت حالة من الجمود السياسي، حيث لم تقدم أي من حكومات إسرائيل على خوض أي مسار تفاوضي كان يمكن أن يؤدي إلى اتخاذ قرارات تتعلق بمستقبل سيطرة الكيان الصهيوني على الأرض التي احتلت في حروبه المختلفة، وتحديداً حرب العام 1967. وفي نفس الوقت فإن معظم الحاخامات الذين تعاقبوا على شغل منصب الحاخام الأكبر سواءً كانوا غربيين أو شرقيين كانوا ينتمون بشكل أساسي للتيار الديني الأرثوذكسي ( الحريدي )، الذي كان لا يظهر ميلاً للتدخل في القضايا السياسية الخلافية، وكان الحاخامات يحرصون بشكل خاص على عدم المس بحالة " الوضع القائم " ( status quo )، سيما ضمان مواصلة احترام حرمة السبت، وأن تكون التوراة مرجعاً للبت في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية، وغيرها. ومع التوقيع على اتفاقية " كامب ديفيد " بين مصر وإسرائيل والتي وافقت تل أبيب بموجبها على الانسحاب من صحراء سيناء، أبدى بعض الحاخامات الهامشيين ميلاً للتدخل في القضايا السياسية، عبر إصدار بعض الفتاوى التي تحظر الانسحاب من سيناء. ونظراً لأن الذي وقعت على " كامب ديفيد " كانت حكومة يمينية برئاسة قائد تاريخي بحجم مناحيم بيغن، فإنه سرعان ما تم تطويق تأثير هذه الفتاوى. لكن مما لا شك فيه أن التوقيع على اتفاقية " أوسلو "، واندلاع انتفاضة الأقصى مثلا في الواقع نقطة تحول فارقة فيما يتعلق بالفتاوى ودورها. فعلى الرغم من أن الجانب الفلسطيني قدم تنازلات مفرطة في هذه الاتفاقيات إلا أن الأوساط الدينية نظرت إلى هذه الاتفاقيات كمقدمة للتنازل عن الضفة الغربية، التي تعتبر حسب هذه الأوساط بمثابة قلب " أرض إسرائيل الكاملة "، التي يحظر على أي حكومة إسرائيلية التنازل عنها والانسحاب منها. في نفس الوقت تم تصوير انتفاضة الأقصى التي تميزت بتنفيذ عدد كبير من العمليات الاستشهادية في عمق الكيان الصهيوني على أنها خطر وجودي يهدد مجرد بقاء إسرائيل. من هنا هدفت الفتاوى بشكل أساسي إلى نزع الشرعية عن أي قيادة إسرائيلية تتجه إلى التوصل لتسوية سياسية للصراع تسفر عن انسحاب إسرائيل ولو من أجزاء بسيطة من الضفة الغربية، إلى جانب تسويغ أقصى درجات القمع ضد الفلسطينيين.
مكانة الفتاوى
من ناحية نظرية تدعي إسرائيل أن نظامها السياسي علماني، يقوم على فصل الدين عن الدولة، وبالتالي يفترض ألا تتمتع الفتاوى بمكانة قانونية. لكن الفتاوى تحظى بمكانة قانونية في كل ما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية، حيث يقوم قضاة المحاكم التوراتية التي فوضها القانون حسم الخلافات بشأن هذه القضايا إصدار الأحكام وفق الفتاوى التي أصدرتها المرجعيات الدينية التي عاشت في الزمن الغابر والمعاصر. ومن ناحية عملية تؤثر الفتاوى على الكثير من مناحي الحياة التي يفترض ألا يكون لرأي الدين فيها وزن في الأنظمة العلمانية. فمثلاً يتم احباط الكثير من مشاريع القوانين في الكنيست التي تتناقض بشكل صريح مع تعاليم التوارة، حيث تصر الكتل البرلمانية للأحزاب الدينية على افشال أي قانون يتعارض مع نصوص، الأمر الذي يضطر معه أصحاب مشاريع القوانين إلى اللهث خلف المرجعيات الدينية لاقناعها بضرورة تأييد هذه المشاريع. فعلى سبيل المثال لم يحدث في إسرائيل اختراق في قضية التبرع بأعضاء الموتى إلا بعد أن أصدرت المرجعيات الدينية في إسرائيل فتوى تعتبر فيه أن الموت الدماغي يعتبر موت، وأسهمت هذه الفتوى في زيادة عمليات التبرع بالأعضاء، بعد أن كانت هذه المرجعيات ترفض ذلك. وفي كثير من الأحيان يتم تضمين الاتفاقيات الإئتلافية التي على أساسها يتم تشكيل الحكومات في إسرائيل نصوصاً واضحة تقضي العمل بموجب الكثير من الفتاوى الدينية. فعلى سبيل المثال نص الإتفاق الإئتلافي بين حزب الليكود وحركة شاس على ضرورة أن تحترم حكومة بنيامين نتنياهو الحالية الفتوى التي أصدرها زعيم الحركة الروحي الحاخام عفوديا يوسيف بشأن ضرورة الإلتزام بشروط التهود التي وضعتها المرجعيات الأرثوذكسية، والتي تعني اعتبار الكثير من المهاجرين الذين هاجروا من روسيا والدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي غير يهود.
أما الفتاوى المتعلقة بالتسوية السياسية للصراع مع الفلسطينيين والعرب فتكتسب احترامها من حقيقة أن جميع الأحزاب الدينية وبعض الأحزاب العلمانية اليمينية تعتبرها المصدر الأساسي الذي تستند إليه هذه الأحزاب في تحديد مواقفها من الصراع. وإن كان من الطبيعي أن تستند الأحزاب الدينية لفتاوى كبار الحاخامات في تحديد مواقفها السياسية والأيدلوجية، فإنه - لأول وهلة -يبدو غريباً أن يعير حزب الليكود العلماني هذه الفتاوى أهمية ما. لكن كل من يمعن النظر في تركيبة حزب الليكود الحاكم يدرك أن إيلاء أهمية لفتاوى الحاخامات ينسجم مع التطورات التي حدثت على هذا الحزب. فأكثر المعسكرات أهمية ونشاطاً داخل هذا الحزب هو معسكر " القيادة اليهودية " برئاسة موشيه فايغلين، وهي مجموعة تضم المئات من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، جميعهم من أتباع التيار الديني الصهيوني الذين يتباهون باستنداهم إلى فتاوى الحاخامات في تحديد مواقفهم الأيدلوجية من الصراع.
مرجعيات الإفتاء
حتى أواخر السبعينات من القرن الماضي كان إصدار الفتاوى مقصوراً على الحاخامين الأكبرين وعلى عدد محدود جداً من كبار المرجعيات الدينية للتيار الديني الأرثوذكسي. ولما كان أتباع التيار الديني الصهيوني هم أكثر القطاعات التي يمكن أن تتضرر بسبب توقيع الإتفاقيات مع الفلسطينيين، على اعتبار أن الأغلبية الساحقة من المستوطنين الذين يقطنون مستوطنات الضفة الغربية هم من أتباع هذا التيار، فقد دفع هذا الأمر المرجعيات الدينية لهذا التيار لإصدار عدد كبير من الفتاوى التي تحظر الانسحاب من الأراضي المحتلة، فضلاً عن أن هذه المرجعيات كانت المسؤولة عن اصدار معظم الفتاوى التي تدعو لقتل الفلسطينيين والمس بهم. واكتسبت فتاوى هذه المرجعيات أهمية كبيرة نظراً للنفوذ الكبير الذي بات يحظى به التيار الديني الصهيوني بسبب اندفاع أتباعه لتبوؤ المراكز القيادية في الجيش والأجهزة الأمنية.
والذي فاقم خطورة الفتاوى التي تصدر عن مرجعيات هذا التيار هو حقيقة عدم وجود شروط واضحة تحدد الحاخامات المؤهلين لإصدار الفتاوى، وذلك بخلاف التيار الديني الأرثوذكسي الذي حصر مهمة إصدار الفتاوى في كبار الحاخامات الذين يطلق عليهم " كبار الجيل " أو بالعبرية " جدولي هدور". أما بالنسبة للتيار الديني الصهيوني، فيكفي أن يكون الحاخام مديراً لمدرسة دينية حتى يكون له الحق في إصدار الفتاوى. وتعتبر هذه الفتاوى خطرة جداً التي لأن أتباع هذه المرجعيات هم في الغالب من الأشخاص الذين يتبوؤون مواقع قيادية في الجيش.
تهديد النظام السياسي
ولا يقتصر تأثير الفتاوى على تشريع المس بالفلسطينيين والاعتداء عليهم، بل أنها تسهم بشكل واضح في المس بالنظام السياسي الإسرائيلي. فقد اعترف يغآل عامير الذي اغتال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحاق رابين أنه أقدم على ما قام به بناءً على عدة فتاوى أصدرها الحاخامات وأباحت قتل رابين. وبعد 14 عاماً على اغتيال رابين، فإنه يبدو بشكل واضح أن فتاوى الحاخامات التي تحرض على الاغتيالات السياسية قد ازدادت فقط. ففي 5-1-2008 عرض الحاخام شالوم دوف فولفا فتوى أمام مؤتمر للحاخامات عقد في تل أبيب تبيح قتل كلاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود أولمرت، ونائبه حاييم رامون ووزيرة خارجيته تسيفي ليفني ووزير حربه ايهود براك لأنهم " يفكرون بالتنازل عن أراضي " للفلسطينيين في اطار اتفاق للتسوية مع السلطة الفلسطينية ". وأفتى الحاخام هيرشل شيختر رئيس معهد تخريج الحاخامات في نيويورك فتوى تبيح إطلاق النار بقصد القتل على أي رئيس وزراء إسرائيلي يبدي استعداداً " للتنازل " عن القدس.
خلاصة
من المضحك المبكي أنه في الوقت الذي يواصل الحاخامات إصدار فتاويهم العنصرية القاتلة، يعكف المجلس الأمن القومي الإسرائيلي التابع مباشرة لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي حالياً على إعداد حملة دبلوماسية وإعلامية ضد عدد من علماء الدين المسلمين بدعوى " التحريض على القتل ومعاداة السامية ". وتهدف الخطة المتبلورة إلى إشراك مجلسي النواب والشيوخ في تفعيل هذه الحملة والضغط على حكومات العالم وتحديداً الدول العربية والإسلامية للتضييق على هؤلاء العلماء وتقييد قدرتهم على الحركة، علاوة على حرمانهم من أي منابر إعلامية تضمن لهم التواصل مع الجمهور العربي والإسلامي.
أن الذي يثير الاحباط في نفس كل عربي ومسلم هو حقيقة أن دوائر صنع القرار في العالم العربي لا تحرك ساكناً ولو من أجل تسجيل موقف ضد التحريض على القتل الذي يعبر عنه هذا السيل من الفتاوى، بل على العكس تماماً فقد سبق للرئيس المصري حسني مبارك إن استقبل الحاخام عفوديا يوسيف الذي يصف العرب بـ " الصراصير والثعابين "، في حين أن أبواب الرئيس توصد أمام الكثير من العلماء الإجلاء.
(*) رابط الدراسة: http://www.aljazeera.net/NR/exeres/598F6BA2-4D23-48EF-A32B-6F6064370DEA.htm