ارشيف من :آراء وتحليلات

زحمة محطات سياسية إقليمية ودولية تحاصر لبنان... أي صيف سياسي بانتظارنا؟

زحمة محطات سياسية إقليمية ودولية تحاصر لبنان... أي صيف سياسي بانتظارنا؟

مصطفى الحاج علي

خطت الحكومة اللبنانية أولى خطواتها العملية بعد نيلها ثقة المجلس النيابي، مسبوقة ومتزامنة في الآن نفسه بتسجيل مجموعة من المواقف والتطورات، التي من شأنها، أن تحدد مواقع الأطراف، واتجاهاتهم المرحلية على الأقل، والحسابات التي يبنون عليها رهاناتهم، ما من شأنه أن يساعد على فهم ما ينتظر لبنان في المدى المنظور من أحداث وتطورات.

أولاً: لقد سبق عملية نقل الثقة اصدار القرار الاتهامي بتسمية عناصر من حزب الله، ما شكل صفارة الانطلاق لعمل المحكمة الدولية الناظرة في اغتيال الرئيس الحريري، ما يعني ان المحكمة لم تعد مجرد سلاح نظري، وإنما تحولت الى سلاح عملي يراد له الانخراط بكامل ذخيرته في الاشتباك السياسي الداخلي والاقليمي معاً، وبما يخدم مسار هذا الاشتباك، وامكانيات التأثير على توازناته ومعادلات القوة والضعف فيه. الإشارة المهمة أو الرسالة المهمة هنا أيضاً الى الأطراف، بأن المحكمة باتت خارج احتمالات التفاوض، وحده مسارها يمكن أن يضبط على ايقاع لعبة التفاوض، ومتطلبات الاشتباك السياسي وتوازناته الخارجية قبل الداخلية، ولا شك أن هذه الورقة باتت تشكل مرتكزاً لفريق الأقلية الجديدة في هجومه على فريق الأكثرية، وان كان لا يملك بالكامل امكانات التوظيف الشاملة لها، لأن من يمسك بتلابيبها هو الاميركي والفرنسي بالدرجة الأولى، واليهما يعود تحديد وجهة الاستعمال ودرجته وحتى توقيته.

ثانياً: بمعزل عن امكانيات النجاح أو الفشل، بدا واضحاً أن فريق الأقلية اختار المواجهة كسياسة محدداً لها هدفاً أساسياً هو اسقاط الحكومة الحالية، وبذل كل ما يمكن لمنعها من الوصول الى العام 2013 حيث الاستحقاق النيابي ومن ثم الرئاسي، وفي حال تعذر انجاز هذا الهدف، لا بد من العمل على تهشيم هذه الحكومة، واضعاف مكوناتها، ومنعها من النجاح من خلال حرب عصابات سياسية واعلامية، وحرب استنزاف متنوعة، وحرب ضغوط خارجية وداخلية، وحرب تشويه لصورتها وصور اعضائها، بحيث يقدم أحدهم بصورة القاتل، وآخر بصورة الغدار، وآخر بصورة المستهتر بحقوق هذه الطائفة أو تلك، مع الافساح في المجال للبعض بامكانيات التراجع والانسحاب تحت وابل هذه الحرب، ما يؤدي الى خلط الأوراق مجدداً، وفق حسابات هؤلاء. في هذا الإطار، يكمن بعض دلالات ومغازي اتهام افراد من حزب الله بقتل الحريري، واتهام الرئيس ميقاتي والوزير الصفدي بالغدر، وتحييد جنبلاط بنسب، والبعض برسائل شبه مشفرة للرئيس بري، وأخيراً الحط من صورة الرئيس ميشال عون، وتحويل مسألة تعيين مدير عام جديد للأمن العام الى فتنة تربك الحكومة مجتمعة، والى فتنة تربك عون مسيحياً، وتربك علاقته مع حزب الله وحركة أمل.

لم يغادر الحريري هذه السياسة في مقابلته الأخيرة، بل هو أكدها، ولولا حراجة أن يرفض مطلق الحوار، لأعلن رفضه صراحة، وإن جاء الرفض بطريقة غير مباشرة عندما قيده بشروط يعرف تماماً أنها مستحيلة، ولا يمكن للطرف الآخر أن يقبل بها. ومن جهة أخرى، هو أمضى ما سبق لحلفائه ان أعلنوه ليل نهار من أن هدفه هو اسقاط الحكومة مؤكداً عليه بلغة حاسمة وجازمة، راسماً في الوقت نفسه خريطة الطريق لمقاربة العلاقة مع مكونات الأكثرية الجديدة وفق ما أشرنا قبلاً.

والحريري كان واضحاً في تشخيص اعدائه: داخلياً الرئيس ميقاتي والوزير الصفدي، حزب الله بشخص السيد حسن نصر الله، وخارجياً النظام السوري بشخص رئيسه بشار، ولسان حال الحريري أنه هو الطائفة السنية ولا أحد غيره يمثلها، وكل من يتطاول على هذا المقام هو غدار وخائن وغير وطني والأخطر شريك في دم والده. باختصار، حدد الحريري أربع دوائر المطلوب استهدافها بقوة: الدائرة الشيعية حيث المطلوب التركيز على حزب الله لا سيما بشخص امينه العام، والدائرة السنية حيث المستهدف المركزي ميقاتي والصفدي، ما يجعل من منطقة الشمال أحد أهم جبهات المواجهة حيث المعقل السني الاستراتيجي، وحيث معقل رئيس الحكومة والوزير الصفدي، ولا نجانب الصواب ان يكون الشمال مجدداً في عملية الإطباق على الزعامة السنية، وإقفال باقي البيوتات السياسية الكبيرة، بعد أن جرى اقفالها في بيروت، وكسرها في الجنوب والبقاع، أو أن تثبت هذه البيوتات وجودها، وتنجح في كسر حرب الاحتكار الحريرية هذه.

ومن الواضح، أن جوهر المعركة هنا يتجاوز المعطى السياسي المباشر، والمصالح السياسية المباشرة ، الى المعطى الاستراتيجي المتصل بموقع السنة اليوم في معادلة الصراع الكبير الدائر في المنطقة مع الكيان الاسرائيلي ومشروع الهيمنة الاميركية، وهناك الدائرة المسيحية، التي تبقى مناطة على نحوٍ رئيسي بمسيحيي الرابع عشر من آذار، واللعب على وتر التقارب بين الرئيسين عون وسليمان.

ثالثاً: الأخطر الذي ظهر في مواقف الحريري اعلانه عداءه الصريح للنظام السوري ولرئيسه بشار، ومحاولة الادعاء او التظاهر أنه مع الشعب السوري، ومكمن الخطورة هنا يتمثل في الدمج بين ما يجري في لبنان، وما يجري في سوريا في لعبة بالغة الخطورة لا تتوخى الا الاستثمار والعزف على الوتر المذهبي الى الحد الأقصى، وبالتالي، تجيير تأثيرات ما يجري في سوريا على محيطها الأقرب أي الشمال، لأهداف تخدم معركته مع ميقاتي والصفدي من جهة، ومعركته مع حزب الله من جهة أخرى، ومن المنطلق عينه الى المنطلق المذهبي.

لكن الرسالة الأبلغ هنا، تتمثل في أخذ الحسابات السورية الى الحسابات اللبنانية بالاستناد الى الرهان على ما هي مقبلة عليه الأمور في سوريا من تطورات.
رابعاً: في المعطى الاقليمي الشامل الذي يشكل الإطار الاستراتيجي لتفاعلات ما يحدث في لبنان، يمكن ملاحظة التالي:

أ ـ ما زال التجاذب على أشده بين من يحاول احتواء الانتفاضات الشعبية وافراغها من مضمونها، لإعادة تشكيلها وصياغتها، بما يجعلها مجرد تحولات شكلية، أو مجرد تغييرات لا تلامس الأبعاد الاستراتيجية المتصلة بمواقع البلدان وأدوارها. ولا تبدو المواجهة محسومة حتى الآن بانتظار ما سترسو عليه الاستحقاقات الانتخابية من تشريعية ورئاسية، ما سيسمح بجلاء التوازنات المقبلة، ويحدد وجهة الأمور، وينقل السجال والخلاف في الشارع الى المؤسسات، وهذا دونه أشهر قليلة، أي من الآن وحتى شهر أيلول/سبتمبر أو تشرين الاول/اوكتوبر المقبلين.

ب ـ عاد التجاذب والاشتباك السياسي وغير السياسي الى البروز بقوة بين الولايات المتحدة وكل من ايران وسوريا تحديداً.

مجالات التعبير عن هذا الاشتباك تأخذ مداها في كل من العراق وسوريا معاً، ما يوجد حسابات الأطراف بما يمس ليس واقع كل منها على حدة، وإنما بوضعها إطاراً جغرافياً استراتيجياً موحداً، والأمر عينه ينطبق حتى على الخلاف الحالي مع تركيا، واذا اخذنا مدى تشابك وتضارب المصالح الاستراتيجية بين الأطراف الاقليمية الفاعلة والأطراف الدولية الفاعلة والمؤثرة، يصح القول عندها أننا أمام جبهة استراتيجية شاملة لكن بمواقع اشتباك متنوعة، ما يحتم في النهاية الوصول الى تفاهمات عامة تأخذ بالحسبان مصالح كل طرف ولا سيما أن حسم الأمور لا يبدو أن أحداً قادراً عليه حتى الآن، وصولاً الى انتاج "استاتيكو" ما، وهذا الاشتباك العام لا يبدو مفتوحاً في الزمان والمكان الى الحد الأقصى بل هو محكوم بأجندة داخلية تخص كل طرف، لا سيما الولايات المتحدة، فرنسا والسعودية، وكذلك سوريا. وفي هذا الإطار، يبرز التجاذب حول ملف الوجود العسكري الاميركي في العراق، وارتفاع العمليات ضد الاحتلال الاميركي، وعودة التصعيد الاميركي ـ الفرنسي ضد النظام في سوريا، والرسائل السعودية المرمزة الى ايران حول ضرورة الحوار... الخ.

ج ـ الكيان الاسرائيلي يبدو غارقاً ما بين الاستعداد للحرب المقبلة في الشمال، أو الحرب الاقليمية الشاملة، ومواجهة المسعى الفلسطيني لاعلان الدولة، والضغوط الدولية من أجل تحريك المفاوضات، وطبيعة حكومته ذات التوازن الدقيق لا سيما في ما يتعلق بالتوجهات السياسية الكبيرة.

خامساً: بالعودة الى الداخل لا بد من وقفة مع معطيين أساسيين: الأول، ويتصل بالمقابلة الأخيرة للنائب جنبلاط التي حاول من خلالها تحديد موقعه الحالي من خلال تحديد ثوابته ومنطلقاته الأساسية، ومن خلال تحديد هوامش تحركه، والتي من خلاصتها، يبقي موقفه النهائي مفتوحاً على المتغيرات والتوازنات، وترى دورها كضابط للتوازن من خلال الوقوف على خط الصدام بين المشاريع المتناحرة ان كان في لبنان أو المنطقة، واذا اعتبرنا الزعيم الدرزي راداراً لما يجري في لبنان والمنطقة، فيمكن اعتبار موقفه هذا مؤشراً لما هي عليه الأمور الآن بمخاوفها وتوقعاتها والأدوار الملائمة.

أما الثاني، فيتمثل بالتسخين اللافت للعدو الاسرائيلي لملف الحدود البحرية، وبمسعى واضح لتخيير لبنان بين أحد أمرين: الأول، تحويل هذا الملف الى خط توتر واشتباك جديد ضاغط على لبنان واللبنانيين، والثاني، استغلال هذا الملف لدفع لبنان الى طاولة المفاوضات المباشرة، استناداً الى توظيف الواقع الاقتصادي السيئ فيه. وربما هذا يعطينا اشارة ضمنية عن الأهداف المستبطنة لسياسة اغراق لبنان في الدين.

سادساً: خلاصة القول هنا، يبدو أن ساعة التصعيد أو عدمه في لبنان مربوطة بأجندة مواعيد سياسية اقليمية ودولية، لن تتحدد معالمها النهائية قبل شهرين على الأقل من الآن، ما يعني أن نهاية الصيف أو الخريف المقبل ستشكل المدى الزمني للمسار الذي ستسلكه الأمور، من دون أن يعني ذلك أن الفترة الحالية ستكون هادئة، بل سنشهد محاولات لإبقاء الساحة مفتوحة على كل الاحتمالات، وبما يشكل تهيئة للمسرح، اضافة لتلقي انعكاسات ما يجري.

2011-07-18