ارشيف من :آراء وتحليلات
ثورة 23 يوليو/ تموز: المصريون يصنعون التاريخ
"لا جديد في مصر فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة"
ـ برلسكوني (رئيس وزراء إيطاليا)
تأتي ذكرى ثورة 23 يوليو/ تموز وهي تختال زهواً هذه المرة، فقد أعطت ثماراً، بذارها تلك التي زرعتها خلال عمرها القصير (1952 وحتى 1970).
نهضت أجيال راكمت الخبرات والتجارب بوعي، لتستعيدها عبر ثورة 25 يناير/كانون الثاني، ولترد جمائلها. وهي التي ما فتئت دفق قلوب غالبية المصريين ومبعث فخرهم، بالرغم من سجنها الطويل الذي قبعت فيه زهاء اربعة عقود. تم خلالها قضم كل انجازاتها من الوجهة المادية. لكن يظل الأبلغ هو أنه مع اعتقال الثورة جرى اعتقال مصر الدور، والريادة.
غير ان أعداء الثورة في الخارج ـ وهم الأقوى والأخطر ـ اكتشفوا بأنهم لم يستطيعوا ان يقطعوا هذا الخيط الذي يشد الأجيال الى تلك الثورة، حتى عند أولئك ممن لم يعايشوها. جاء ذلك بالرغم من حملات التشكيك والتزوير الممنهج الذي استهدف انجازانها، بل وامتدت حتى طالت شخص قائدها جمال عبد الناصر.
بقيت ثورة يوليو/ تموز بمثابة "القوة الناعمة" المحركة في جدلية الفكر ـ التطور، وهو مكمن عبقريتها، والذي تجلى فيما تجلى بأداتها الفاعلة: المؤسسات التعليمية والتثقيفية.
هذه القوة الناعمة التي ظلت فاعلة هي سرّ نبض الثورة الى جانب انها شكلت في الوجدان النموذج الملموس لكل قيم التحرر والمساواة والتقدم. كلها مجتمعةً رسمت وعي اجيال مصرية ـ وعربية ـ. انه الوعي الذي كان بهدوء وصمت يسيّر دورة الحياة في تصاعد مطَّرد حتى في اللحظات التي بدت فيها ثورة يوليو/ تموز منكسرة، والشعب المصري مستكيناً هادئاً!.
وبالقدر الذي رسّخت الثورة وعياً متحفزاً فإنها بالوقت عينه أرست إطاراً قيمياً. اي ما هو مسموح به وما هو غير مسموح. وفي هذا تتمايز مصر عمن سواها. قد يصبر المصري على فقره ساعياً الى حله ربما بالخلاص الفردي: هجرةً، او سفراً. لكن ما ليس مقبولاً لديه بالقطع طعن كبريائه في تقزيم دور بلاده. فكيف بتكبيلها حيال التهديدات الخطيرة في مصدر هبتها: النيل. وبنفس الرتابة فقد كان حصار غزة تجاوزاً للحد الادنى الذي لا يمكن للمصري السكوت عليه. فضلاً عن عودة الملكية ـ بقالب جمهوري ـ فيما يسمى: "التوريث"!. لذلك فقد حُقَّ للصحافي الكبير محمد حسنين هيكل وصفه: "إن الشعب المصري أصبح أقوى من النظام نفسه".
لا شك بأن كل ما سبق يفسر هذه الحيوية المستمرة والمتصاعدة للشعب المصري في سعيه الدَّؤوب لاستكمال ما بدأه في 25 يناير. وقد كان أمراً عظيماً... بل ولعل إدراك شباب ثورة يناير للتحديات، وللأفخاخ المنصوبة لها هو بحد ذاته امتداد للوعي الذي زرعته ثورة يوليو/ تموز في الوعي الجمعي المصري.
والذي كان عبد الناصر يحث عليه، كمثل قوله: "ان النصر عمل، والعمل حركة، والحركة فكر، والفكر فهم وإيمان، وهكذا فكل شيء يبدأ بالإنسان".
ليس ما سبق شعراً، وللتدليل على ان لهذه الثورة نبضها الخاص نقارن الحال في بلدان أخرى. حيث إن صعود الجديد من الأجيال فيها كان في الغالب عبئاً على أنظمتها بالرغم من أن هذه الأخيرة لا تفتقر الى القوة، ولا الى المؤسسات التي حاولت تكييف وعي الأجيال وفقاً لإرادتها.
إلا ان ثورة يوليو/ تموز كانت وهي خارج السلطة، وفي معتقلها أكبر من سجانيها، ومصدر قلقهم. حتى كان دفع الجموع في ثورة 25 يناير/ كانون الثاني يلتهمها، طلباً للنموذج. نموذج دولة الحق والعدل... جموع كان فيها شيء من عبد الناصر وإن تفاوت الحجم بين قوميين، يساريين، وإسلاميين. لكنه بكل الأحوال موجود فيها. ولعل هذا مكمن عبقرية الثورة، كما هو سِرٍّ عظمة الرجل.
عاشت ثورة 23 يوليو/تموز تتجدد في نفوس العرب طاقة، ودافعاً للمزيد من النضال.
عاش فرسان ثورة 25 يناير/ كانون الثاني معقد الرجاء الى مصر جديدة، ومنها الى شرق جديد.