ارشيف من :خاص

القلق الروسي من الثورات العربية

القلق الروسي من الثورات العربية
بقلم ستيفن بلانك*
معهد أبحاث السياسة الخارجية
تموز، 2011

القلق الروسي من الثورات العربية
بحلول حزيران/يونيو 2011، تكون الثورات العربية قد تطورت الى سلسلة من الحروب الأهلية المنفصلة لكن المتزايدة ـ تحديداً في ليبيا وسوريا ـ. لم يوفر المجتمع الدولي بالتأكيد تأثيرات هذه الحروب. وبصفتها راعياً قديماً ـ ان لم يكن حليفاً ـ لهذه الدول، تنظر روسيا الى هذه التوجهات بمنظار القلق المتزايد. فهذه الثورات والحروب الأهلية تشكل تحديات خطيرة، أو حتى تهديدات، بالنسبة لروسيا.

الخوف من اضطرابات محلية

محلياً، يمكن لهذه الثورات أن توحي للمواطنين باتخاذ عمل سياسي مستقل بذاته ضد النظام. وبصورة بديلة، يمكن لهذه الثورات أن تشعل التمرد في شمال القوقاز بين سكان البلاد المسلمين الى حد كبير، المنطقة التي تخصص لها روسيا حالياً 250000 جندي نظامي ومن قوى الأمن الداخلي. في هذه الأثناء، ليس لدى روسيا، وهذا واضح، استراتيجية فعالة لاخماد هذا العنف او حل هذا التمرد بوسائل سياسية. فالغرور الروسي المحلي والخارجي المقصود منه، جزئياً، اخفاء مخاوف النظام من حصول اضطرابات محلية. ويعتقد المسؤولون الروس، ويفصحون عن ذلك علناً، بأن الولايات المتحدة كانت منذ العام 2003 تحاول اثارة الحملات الديمقراطية في روسيا ودول الكومنولث المستقلة (CIS) لتقويض الأنظمة الموجودة هناك. ووفقاً لذلك، فانهم مستمرون بالترويج لصورة روسيا كقلعة محاصرة ومحاطة بالأعداء المرتبطين بحكومات أجنبية واصلاحيين ديمقراطيين.

ولذلك، قال الرئيس ديمتري ميدفيديف في آذار/ مارس 2011:

"أنظروا الى الوضع الحالي في الشرق الأوسط والعالم العربي. انه صعب للغاية ولا تزال المشاكل العظيمة بانتظارنا في المستقبل. وقد تصل في بعض الحالات حتى الى تفكيك دول كبيرة مأهولة للغاية بالسكان، لتقسمها الى أجزاء أصغر حجماً. ان سمات هذه الدول أبعد ما تكون عن البساطة وعدم التعقيد. قد يصل الوضع الى أحداث معقدة جداً، بما في ذلك وصول متعصبين الى السلطة. هذا سيعني عقوداً من الحروب وانتشاراً أكبر للتطرف. علينا مواجهة الحقيقة. في الماضي كان سيناريو من هذا النوع مجرد فكرة مضمرة بالنسبة لنا، أما الآن فتبدو محاولة تنفيذها أكثر ترجيحاً. في كل الحالات، هذه المؤامرة لن تنجح. لكن كل شيء يحصل هناك سيكون له وقع مباشر على وضعنا المحلي على المدى الطويل، ولعقود طويلة".

وفي حين أن موسكو لا تنسب الثورات العربية لقوى خارجية، فانها تعتقد بأن بامكان تلك القوى استغلال هذا المثال لتحريض عامة الناس الناقمين أكثر فأكثر. ورداً على الثورات الملونة ما بين عامي 2003 ـ 2005، أنهت موسكو انتخابات حكام المناطق، مررت، وبشكل متزايد، قوانين شديدة القسوة تقمع بها حرية الصحافة، الاجتماع، الكلام وافشاء المعلومات، كما أنشأت آلاف الوحدات شبه العسكرية مهمتها الأساسية قمع أية ظاهرة اضطرابات عامة أو عمل سياسي مستقل بذاته. تم سجن منشقين وصحافيين وضربهم وأحياناً قتلهم. حتى إن فلاديمير بوتين أعاد احياء ممارسة ليونيد بريجنيف السيئة السمعة المتعلقة بوضع المنشقين في مصحات نفسية. وبحسب الصحافي أندريه سولداتوف، فان روسيا الآن تعمل على منع "ثورة الفايسبوك" عن طريق ايحائها بأن كل المالكين لوسائل الاعلام الالكتروني المباشر مسؤولون عن كل المحتويات التي تظهر على المدونات في شبكاتهم الالكترونية. بالرغم من الاختيال المألوف في مشية النظام، فان هذه السياسات تكشف عن خوف الحكومة العميق من شعبها. وقد حدد تقرير التهديد المتصور، في نيسان/ أبريل 2009 من قبل السلطات بشكل واضح تماماً. فقد صرح بالتحديد وبشكل خاص بالتالي:

ان مجتمع الاستخبارات الروسي قلق بشكل جدي من العمليات الاجتماعية الكامنة المستترة القادرة على القيادة وصولاً الى بداية حروب أهلية وصراعات حول الأرض الفيدرالية الروسية والتي يمكن أن تنتهي بفوضى لوحدة الأرض وظهور عدد كبير من القوى السيادية الجديدة. ان "تسرب" قاعدة بيانات المعلومات، الاحصائيات والعدد الضخم للأعمال المعادية للحكومة، والتصريحات الرسمية ومناشدات المعارضة شاهد على هذا الأمر.

وواصل التقرير يقول بأن هذه الأجهزة توقعت حصول تظاهرات ضخمة في منطقة موسكو، المناطق الصناعية في جنوب الأورال وغرب سيبيريا وفي الشرق الأقصى، في حين لم يكن التوتر الاثني في أوساط مسلمي شمال القوقاز ومنطقة الفولغا ـ الأورال مستثنىً أيضاً. ان انتشار "الفيروس" العربي سيكون أسوأ كوابيس الكرملين.

الخوف من انتشار الثورة الى آسيا الوسطى

ان مصدر القلق الثاني لروسيا هو في احتمال انتشار الثورات العربية الى آسيا الوسطى. اذ تعتبر النخب الروسية بأن هذه المنطقة عرضة للاستهداف، تحديداً للاضطرابات من الداخل والخارج، خاصة اذا ما انتصرت طالبان في أفغانستان. ففي 14 حزيران/يونيو، أوضح الرئيس ميدفيديف، الذي كان يتحدث في طشقند، بأن هذه الثورات تقلق روسيا وشركاءها في آسيا الوسطى. بالواقع، كان واضحاً لموسكو بحلول نيسان/ أبريل بأن ذلك الضغط الخطير يتزايد ويتطور تدريجياً في هذه الدول. وعندما عقد مجلس الدوما جلسات الاستماع حول امكانية انتشار هذه الثورات لتصل الى آسيا الوسطى، ألح علناً نائب وزير الخارجية غريغوري كارازين، في 13 نيسان/أبريل، على هذه الدول بالقيام باصلاحات في الوقت المناسب والا فسوف يتم كنسهم كما حصل في تونس ومصر.

تسعى روسيا الى الاستقرار لأنه سيمنع دولاً أخرى من التحرك عن قرب أكثر. لتحقيق هذا الأمر، أوصى كارازين بتشكيل مجتمع مدني بقصد ترسيخ سلام دولي وديني تبادلي مشترك، كما أوصى بمسؤولية القادة العالية في رفع مستوى عيش السكان، وتطوير التعليم والعمل مع الشباب. في كل الأحوال، لا يمكن لهذا البرنامج المحدود أن يتخطى نتائج سوء الحكم العميق، الفساد، والتطور الاقتصادي غير المكتمل النمو. اضافة الى ذلك، لم يكن هناك ذكر للتطور الاقتصادي، الحريات، أو الاصلاح السياسي الحقيقي. ان روسيا مستعدة فقط، وهذا واضح، للتساهل مع اصلاحات تجميلية، وهي متشككة حيال قادة آسيا الوسطى لجهة التوصل حتى الى تلك الحدود من الاصلاحات.

في الواقع، هؤلاء القادة غير مستعدين تماماً لتشجيع وتأييد اصلاحات حقيقية، وقد كانت ردودهم حيال الثورات العربية هي اللا مبالاة. فرئيس كازاخستان، نور سلطان نازارباييف، استهل القيام بانتخابات سريعة بدلاً من اجراء استفتاء منظم ومعالج بشكل ملموس ليعطيه ولاية حكم مدى الحياة لأن الأخير (الاستفتاء) سيكون فاضحاً للغاية في الأجواء الحاصلة اليوم. في هذه الأثناء نرى في أوزبكستان، الدولة الشديدة القسوة من جوانب عدة، اجراءات صارمة أكثر بما يتعلق بوسائل التواصل الاعلامي الالكتروني على الهواتف النقالة. لقد أصبح التعتيم الاخباري متكرر الحدوث في أوزبكستان وتركمنستان؛ فعبر آسيا الوسطى كلها، تستمر الأجهزة الحكومية بإنكار امكانية حصول ثورة. لاحقاً، صرَّح الرئيس الأوزبكي، اسلام كاريموف، بأن هذه الثورات قد تم التحريض عليها من الخارج من قبل دول تطمع بموارد دول آسيا الوسطى، رغم أنه لم يحدد تلك الدول بشكل معين. وقال رئيس طاجكستان، ايمومالي رحمون، لبرلمانه في 20 نيسان/ أبريل التالي:

لقد قيل وكُتب الكثير عن امكانية تكرار أحداث من هذا النوع في آسيا الوسطى،.... أريد أن أكرر وأعيد بأن شعب طاجكستان الحكيم، الذي كان ذات مرة ضحية أحداث كهذه، يعرف معنى السلم والاستقرار. انه واع ومدرك لأهمية السلم والاستقرار... لقد مر بحروب أهلية؛ لذا هو يرفض الحلول العسكرية لأية مشكلة من المشاكل.

وبشكل مشابه، قال الرئيس التركماني غوربانغولي برديموكهاميدوف مؤخراً بأن وفرة البضائع في السوق المحلية، خاصة الغذاء، والأسعار الرخيصة، هي مؤشرات على التقدم والاستقرار. وفي حين أن الحكومات في هذه المنطقة من العالم يفعلون ما بوسعهم كي لا يتركوا شيئاً للصدف، فانهم لا يقومون باصلاح أنفسهم. هذه الأنظمة تصفر في الريح ولديها سبب وجيه للقلق. هناك الآن تظاهرات كبيرة تحدث في آذربيجان، حيث الاضطرابات رداً على اجراءات النظام الصارمة على الانشقاق والهياج الاسلامي المتنامي منذ أواخر العام 2010.

القلق الروسي بشأن ليبيا

ان مصدر القلق الثالث لروسيا يتعلق بعملية الناتو لدعم متمردي ليبيا واحتمال تعميق التورط هناك ـ والأكثر من ذلك حتى، التورط في سوريا. فنشاط الناتو والصراع الأهلي الجاري يضعان المصالح الروسية في هذين البلدين بخطر. ان مبيعات الأسلحة تلك لا تفيد الصناعة الدفاعية فحسب، بل القادة الروس أيضاً الذين يضعون في جيوبهم، كالمعتاد، الأرباح من مبيعات الأسلحة لأجل "تمويل عواطفهم الخاصة"، أما بما يتجاوز ذلك، فقد قدمت ليبيا لروسيا، بحسب ما قيل، قاعدة بحرية في بنغازي في حين قدمت سوريا قاعدة بحرية في طرطوس. هذه الأحداث توحي بأنه في مقابل مبيعات الأسلحة كانت الدول المضيفة مضغوطاً عليها لتعطي روسيا امكانية الوصول والحصول على قواعد خارجية لها. لقد رأينا هذا في أميركا اللاتينية. علاوة على ذلك، قد تكون روسيا لا تزال تزود ليبيا بالسلاح سراً من خلال بيلاروسيا، وسيلة معتادة ومألوفة لنقل السلاح الى أماكن ترغبها روسيا للاحتفاظ بقدرتها على الانكار، بما أن ليبيا قد طلبت مؤخراً من بيلاروسيا امدادها بكميات أكبر من الأسلحة. أما أهمية سوريا كشارٍ للسلاح الروسي، المدفوع غالب الأحيان بواسطة مساعدات مالية سعودية أو ايرانية لسوريا، فمشابه من حيث الحجم والضخامة الاقتصادية والاستراتيجية.

ثانياً، ليبيا مهمة بالنسبة لاستراتيجية الطاقة لروسيا. فقبل الثورة الليبية تماماً، وقعت روسيا اتفاقية تبادل أصول مع ENI، شركة الطاقة التابعة للدولة الايطالية، للحصول على نصف الـ 66 بالمئة، حصة ENI من حقل نفط الفيل الليبي الذي يحوي ما يقدر بـ 700 مليون برميل من النفط القابل للتغطية. بالمقابل، سيُسمح لـ ENI بالمشاركة في تطوير الأصول شمال غرب سيبيريا المملوكة من قبل شركة غاز Arctic. وقد اتفقت ENI و Gazprom، بشكل خاص، على وضع الترتيبات النهائية لعقد بيع الغاز من هذه الحقول في سيبيريا الذي سيُنتج من قبل شركة روسية ـ ايطالية مشتركة تدعى SverEnergia (الطاقة الشمالية/ Northern Energy). هذه الصفقة تنسجم مع هدفَيْ روسيا:

1ـ اراحة نفسها في شبكات امدادات الغاز شمال أفريقيا للاحاطة بأوروبا ووضع ضغوط أكبر عليها للتعامل مع مزودي الغاز الروس.
2 ـ الحصول على استثمار ملكية أسهم وسندات أجنبية من دون اقحام شروط مفرطة كمعظم ملكيات الأسهم في مشاريع الطاقة السيبيرية والشرق الأقصى. في هذه الحالة، وبحسب ما هو مفترض، هناك مقايضة، فاذا ما أخفق المشروع الليبي بسبب نجاح الثورات، فان شركة ENI قد تنسحب من المشروع السيبيري. لذا، فان تعقيدات الحفاظ على رهان الغاز الروسي في ليبيا والمشهد الأوسع في شمال أفريقيا له أهمية اقتصادية وجيوسياسية لا بأس بها.

 بالاجمال، وبوضوح، لا يمكن لروسيا الحصول على رافعة حاسمة على حساب امدادات الغاز الأوروبي الا اذا حصلت على أسهم كبيرة في شمال أفريقيا، ما يعني، الحقول الليبية والجزائرية. لدى (لك اويل)Lukoil حصة الآن في مصر، وكذلك لـ Tatneft في ليبيا، و Gazprom في الجزائر في الوقت الذي تتحضر فيه شركة Gazprom للانتقال الى ليبيا أيضاً. وتريد موسكو أيضاً، وهذا واضح، أصول شركة BP في الجزائر وفي حوض بحر قزوين.

وقد أعلنت TKN-BP في تشرين الأول/ أكتوبر 2010 عن اهتمامها بسندات وأسهم BP الجزائرية التي تصل قيمتها الى 3 مليارات دولار. كما عرض الرئيس ميدفيديف أيضاً شراء هذه السندات والأسهم خلال زيارته الى الجزائر عام 2010. حتى إن TKN-BP عرضت أصولاً على Sonatrach، شركة الغاز الوطنية للجزائر، في مقابل أصول شركة BP. قد تكون شركة BP طلبت أيضاً من الجزائر و Sonatrach التعاون مع روسيا. أما بما يتخطى تلك الأصول لـ BP في الجزائر، تخطط Gazprom للمشاركة في عروض رسمية جديدة لتطوير حقول الغاز هناك. بالرغم من المصلحة المبدئية بالتعاون مع الشركات الروسية، فقد عكست الجزائر وSonatrach المسار وقررتا مقاومة روسيا. ان مصلحة روسيا بالحصول على أصول الطاقة الجزائرية واضحة وصريحة تماماً. فمهما كانت الرافعة التي تكسبها في النفط والغاز الجزائري فان بامكانها استخدام ذلك لتطويق أوروبا بما أن موسكو تتوقع بأن يعود الطلب الغربي على الغاز الى مستويات عامي 2007 و 2008. الا أن موسكو بحاجة أيضاً لأصول أجنبية كتلك التي في شمال أفريقيا لغايات اقتصادية محلية حاسمة لدعم Gaz prom في تحديد صافي الدخل والخسارة. ينبغي على موسكو أن تفكر ملياً الآن بالطلب الراكد، ان لم يكن المنحدر، في أوروبا الغربية ووصول الغاز الطبيعي المسال (LNG) وغاز الطفَل (طين صفحي: صخر قابل للانشطار يتكون من طبقات رسوبية شبيهة بالطين فيها حبيبات ناعمة) حيث لا يمكنها المنافسة. هذه التحديات تجعل موسكو تواصل استراتيجيتها السابقة بعناد واصرار. علاوة على ذلك، ان فرص وجود ضرائب أعلى على الطاقة المحلية تقود Gazprom للسعي وراء الحصول على أصول خارجية بدلاً من اصلاح عملياتها المحلية.

ان الشعور العام بالاضطرابات على امتداد الخليج الفارسي جعل أسعار النفط تقفز الى أكثر من 100 دولار للبرميل الواحد. هذا المكسب غير المتوقع يلعب، في نفس الوقت، دوراً أساسياً في الحياة السياسية المحلية الروسية. وكما صرَّح وزير المالية الروسي آليكسي كوردين:

"ان موازنة روسيا تعاني من العجز اذا ما هبطت أسعار النفط الى ما تحت الـ 120 دولار للبرميل". بالنتيجة هذا المكسب غير المتوقع يخفف الضغط عن الموازنة. الا أن الأهم، بالنسبة لكل أولئك الملتصقين بفكرة محطة توليد الطاقة، كـ"بوتين"، انما بنظام اقتصادي لا اصلاحي بأساسه (وكذلك النظام السياسي)، فان هذا المكسب غير المتوقع يجنب أي مطلب بالشروع بالاصلاحات الضرورية لتحديث النظامين السياسي والاقتصادي. لقد تحدث ميدفيديف لكنه فشل في ايصال الرسالة. فبما أن هذه المكاسب تقدم وهم الازدهار والاستقرار، فان الضغوط الشعبية وكذلك النخبوية لأجل الاصلاح ستهدأ وتسكن ما دام الذعر والتكهن يهيمنان على أسواق الطاقة العالمية.

ثالثاً، وفي موضوع السياسة الخارجية، يسمح عدم الاستقرار في الخليج وشمال أفريقيا، على ما يبدو، لقادة روس مثل رئيس الوزراء بوتين، بأن يقول للأوروبيين بأن عليهم القيام بصفقات مع روسيا لأن روسيا، بحسب ما هو مفترض، مزود ثابت يمكن التكهن به ومن دونه لا يمكن لأوروبا أن تدبر نفسها. لا حاجة للقول إن هذا هو جدل جيوسياسي في النهاية، رغم أنه يتضمن مسائل اقتصادية، لتعزيز الرمية الروسية على أوروبا. وبذلك، لا تهدف استراتيجية الطاقة الروسية فقط الى تخفيض الضغط لأجل احداث اصلاح محلي، انها أيضاً وسيلة حاسمة تسعى روسيا بواسطتها للهيمنة على دول الكومنولث (CIS) والحصول على رافعة قادرة على التحمل والصمود في أوروبا.ان الاخفاقات في أي من مسرحيّ السياسة الخارجية له ارتداداته المباشرة الفورية على الحياة السياسية والاقتصادية الروسية.

سبب آخر للمعارضة الروسية للتدخل موجود في الواقع بمحاولة روسيا دائماً تقييد استخدام الولايات المتحدة للقوة بحيث يكون على واشنطن الحصول على موافقة مجلس الأمن الدولي حيث لروسيا حق الفيتو. ان توسل الأمم المتحدة بصفتها الحكم الفصل الأعلى والحصري لاستخدام القوة بالنسبة للولايات المتحدة هو لوح النجاة المنهجي في السياسة الخارجية الروسية لأكثر من عقد من الزمن. فاذا أظهرت كل من أوروبا والولايات المتحدة بأنهما ليستا بحاجة الى موافقة الأمم المتحدة (الموافقة التي ستعترض عليها، في أي حال من الأحوال، موسكو وبيكين وتستعملان حق الفيتو)، فان هذا سيثبت تجاهل واشنطن المؤثر ـ وحتى الناجح ـ لروسيا أمام العالم، مع ضربة مماثلة لمكانة وهيبة روسيا ونفوذها الحقيقي في الشرق الأوسط وما بعده. لذا، فان استمرار العملية، أو ما هو أسوأ حتى، تمديد العملية وإطالتها، سيؤكد لروسيا مخاوفها، وبأن واشنطن والناتو هما فاعلان لا يمكن التنبؤ بتصرفهما، واللذان لا يلزمان أنفسهما باعتبارات المصالح الروسية، القانون الدولي، أو أي شيء عدا شعورهما بقيمتهما. هذه القيم، التي تظل قيماً لا يمكن تفسيرها تماماً بالنسبة للقادة الروس، غالباً ما تكون غير قابلة للتمييز وتركيبة غير ضرورية في ادارة العلاقات مع الغرب. علاوة على ذلك، بامكان القادة الغربيين الادعاء في يوم ما افتقار روسيا ودول الكومنولث واستخدام ذلك كعذر كاذب للتدخل. ان روسيا، كالصين، تريد ادارة سياسة خارجية " خالية من القيم" مع الولايات المتحدة وأوروبا بأسلوب ديبلوماسية وزراء القرن الثامن عشر أو التاسع عشر حيث يمكن للدول أن تفعل ما يسرها محلياً. وبذلك نشرت روسيا في نفس الوقت، على سبيل المثال، قصصاً وحشية فظيعة عن ادارة الناتو للعمليات في الوقت الذي تسعى فيه الى اقناع الناتو ومعمر القذافي بأن بامكانها أن تكون وسيطاً موثوقاً في هذه العملية. ان مناورات كهذه تمثل ذروة المرونة التكتيكية التي تفخر موسكو بامتلاكها.

أخيراً، تمثل العملية الليبية للناتو مخاطر جيوسياسية متعددة بالنسبة لروسيا. مرة أخرى، تعتقد روسيا بأن الناتو، بدعم من واشنطن، قد انتهك المعنى الواضح للقرار الدولي بالتدخل أحادياً في حرب أهلية لمصلحة قوى معارضة لوكيل أو شريك روسيا وفرض الديمقراطية بالقوة. كما إن روسيا قلقة من أن يؤدي هذا الأمر (وقد يحدث هذا) الى مأزق مطوَّل يمكن أن يثير ويلهب مشاعر المسلمين لديها اضافة الى مسلمي جيرانها الناقمين ومسلمي الشرق الأوسط بكامله.

ثانياً، ان النصر المحتمل لهذه القوى الثورية والناتو يمكن أن يقودهم الى زيادة ضغط مشابه على سوريا واستخدام ليبيا كسابقة للتدخل هناك.

ثالثاً، اذا ما ربحت الثورتان الليبية والسورية، فان نصراً كهذا سيقودهم للتطلع في المستقبل الى الناتو، وليس الى موسكو. هذا سينتهي بتعزيز الوجود الغربي في الشرق الأوسط والسماح للناتو بدعم وتوطيد المنطقة أحادياً. هذا الأمر سيشكل هزيمة واضحة لهدف موسكو الجيوسياسي القديم بعدم ترك الولايات المتحدة و/ أو الناتو بتنظيم الشرق الأوسط أحادياً. عندها ستواجه موسكو التهميش الاقليمي، بالاضافة الى سابقة أحادية أخرى ناجحة للناتو في ديبلوماسية الاكراه.

كل هذه الاعتبارات اجتمعت معاً عندما اجتمع وزير الخارجية سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني يانغ جيشي في موسكو في 6 أيار/مايو  2011. اذ أعلنا عن هاجسهما الخطير بشأن الأحداث الشرق أوسطية. علاوة على ذلك، سوف يقومان الآن بتنسيق أنشطتهما لجلب "استقرار سريع" للوضع ومنع النتائج السلبية التي لا يمكن التكهن بها. فهما يلتزمان، بشكل خاص، بالمبدأ القائل بأن على الشعوب أن تكون حرة في ترتيب شؤونها كما تراها مناسبة من دون تدخل خارجي. ويعتبر كلاهما بأن "مجموعة الاتصال الدولية" قد تخطت، بالاجمال، سلطتها وتفويضها، وبأنها تعمل الآن لمصلحة العملية البرية للناتو، مغتصبة بذلك الدور الرسمي لمجلس الأمن. وقد دعوَا الى تسوية سلمية وعدم التدخل الأجنبي، ما يعني بقاء القذافي في السلطة. هذا التنسيق سينشر تساؤلات من دون شك تتعلق بالاصلاح في آسيا الوسطى برغم أن موسكو، كما أشرنا آنفاً، تود رؤية اصلاحات حذرة.

مع ذلك، وفي غضون أسابيع، قدمت موسكو عرضاً للوساطة بين القذافي والمتمردين. وقد فعلت ذلك لأنها بقدر ما تتخوف من نزاع مطول في ليبيا، فانها تتخوف من التهميش ومن انتصار الناتو أكثر حتى. لذا، وبرغم الاتفاق مع الصين، فقد عكست روسيا المسار بسرعة خشية ان يتم عزلها في مقابل الناتو اقليمياً. ان مناورات موسكو تكشف عن ضعف بالرغم من موقفها ووضعيتها العامة العلنية. ان نصيحتها لليبيا، اليمن، سوريا وآسيا الوسطى، بالتأسيس لاصلاحات معتدلة قد أهملت تماماً. مع ذلك روسيا تدعم هذه الأنظمة التي تعتمد، بحسب ما قال وزير خارجية سوريا وليد المعلم، على روسيا. ان ميلهم لقتل مواطنيهم لم يوحِ لموسكو، بحسب الظاهر، بأنها تساند وتدعم الأحصنة الخطأ مرة أخرى. في هذه الأثناء، تكشف سياسات القمع المحلية لروسيا والترقب لما ستبلغه الأمور لمكافحة الثورة عن خوف، ضعف، وعجز عن تجاوز الوضع القائم وتخطّيه بقوة أكبر برغم دعوة ميدفيديف للتحديث. فاذا ما اختبرت روسيا أو جيرانها نسختهم الخاصة من الربيع العربي، فان التصميم النخبوي هذا على الاحتفاظ بالسلطة ومصادقة الطغاة على أنهم بمثابة حلفاء قد يقود موسكو الى العنف الخاص بها المشابه لما هو الآن عملية ثورية وعنفية حقاً في الشرق الأوسط.

ترجمة :ايمان سويد
* بروفسور في معهد الدراسات الاستراتيجية، الكلية الحربية للجيش الأميركي، ثكنة Carlisle، بنسلفانيا.
ان وجهات النظر المعبّر عنها هنا لا تمثل بالضرورة تلك التي للجيش الأميركي، وزارة الدفاع الأميركية أو الحكومة الأميركية.
2011-07-26