ارشيف من :خاص

يـوم أرادت "اسرائيل" اقتلاعنا(1)

يـوم أرادت "اسرائيل" اقتلاعنا(1)
يوميات الصمود في مارون وبنت جبيل وعيانثا وعيترون
منهال الأمين

خط النار مملوء بالقتال. ولكنه أيضاً لم يخل من الصامدين الذين تعودوا ألا يغادروا. مهما اشتد القصف والتدمير. يطلب منهم أعزاؤهم ان يرحلوا، ولكنهم يرفضون. تعني لهم أرضهم ومنازلهم الكثير. كذلك يتمنون الموت تحت ركام منازلهم، على ألا "يذلهم أحد".

تدمير المنازل على الرؤوس يعد في اللغة الجنوبية فعلاً ناقصاً، يقدم عليه عدو يائس من النيل من عزيمة مقاوم. كان هذا عامل الاطمئنان الوحيد. تقول أم حسين من عيترون :" الشعور بانك في حماية الشباب لا يضاهيه شعور". في عيترون أحصي في إحدى الأمسيات سقوط حوالي ألفي قذيفة. ارتكب العدو فيها مجزرتين. حتى أن النازحين منها كانت تلاحقهم الطائرات إلى طريق الساحل. يروي أحد أبناء البلدة أن الشهيد محمد حجازي (20 عاماً) الذي استشهد أثناء التصدي للعدو داخل البلدة، اتصلت به أمه في اليوم السابع للحرب لتطمئن إلى أموره، فأخبرها أن كل شي‏ء على ما يرام. فقالت له: «لا تدعوهم يمرون يا بني.. دوسوا عليهم بأرجلكم.. فإذا دخلوا الضيعة لن تبقى لنا كرامة بعد اليوم».‏

في منزل بعيد عن وسط البلدة. سيدة بعباءة سوداء "وقلب أبيض ولكن جريء" تضيف: "لا يحكمن أحد على مناظرنا. نحن شعب طيب نحب الحياة، ولكننا نكره العدوان والخيانة".

غادة حجازي عواضة وبناتها الثلاث، بقين 33 يوماً ، في حارة «كرحبون»، في الجهة الشمالية من عيترون، من دون اتصال بالعالم الخارجي. تقول غادة إنها في بداية الحرب، تموّنت بشكل بسيط: 4 علب طون فقط. "لم نكن نعلم انها ستطول". صارت تقسمها بمعدل علبة يومياً. ولكن بعد أن وجدت أن القصة طالت، سعت لتأمين قوت إضافي لها ولعيالها. أحضرت من غرفة المونة كيساً من الطحين وصارت تخبز على صاج الغاز خبزاً مرقوقًا بشكل شبه يومي، معوضة النقص في المواد الغذائية، التي توفر منها قليل من الجبنة وقليل من عسل، إضافة إلى بعض الخضار والفواكه، ومصدرها الحقول والكروم القريبة من منزلها.‏
يـوم أرادت "اسرائيل" اقتلاعنا(1)

رفيق العائلة كان جهاز راديو بست بطاريات، بدأت تضعف شيئًا فشيئًا، فابتكرت غادة تقنية لتشغيله ببطاريتين فقط. وكانت تضع الراديو على كتفها لتلتقط الإذاعة، التي لم يكن يصفو إرسالها إلا هكذا. المهم عندهم أن يظلوا على" معرفة بما يجري في الدنيا حولنا". لم يخرجوا من المنزل طيلة 17 يوماً. انقطعت أخبارهم عن زوجها في العاصمة، والذي كان قد بدأ يستوعب فكرة انهم قضوا شهداء.‏ بعد ذلك تمكن شقيقها من الوصول الى منزلها. وهنا كانت المفاجأة. أخبرها أن الجنود الصهاينة يتمركزون على بعد 50 متراً من المنزل. ولكنها حرصت على ان تبقى متماسكة من أجل بناتها، ينتظرون إطلالة لسيد المقاومة بفارغ الصبر، «لأنه كان يرفع معنوياتنا بشكل كبير».‏

صعوداً الى مارون الراس. أعلى نقطة في ذاك المحور. منها اراد الاسرائيليون أن يسجلوا تقدماً عسكرياً، ومنها بدات هزائمهم. والى جانب مقاومين قاتلوا حتى الاستشهاد، صمد مجموعة من كبار السن. سمعوا وشاهدوا جنود العدو يصرخون، وشباب المقاومة يبلغون على الاجهزة، مقتل جندي هنا، وتدمير دبابة هناك. عند أطراف البلدة، اجتمع الحاج موسى الشيخ علي وزوجته وخاله الحاج محمد علي حسيب ذيب، في منزل الأول. كان هذا الثالوث الثمانيني، شاهداً على كل طلقة، حتى ملامسة أجساد الشهداء.‏

يقول الحاج موسى إن الدبابة الإسرائيلية حاولت أن تغير اتجاهها في مدخل المنزل، فتهيأ هو وخاله الحاج محمد ذيب لإطلاق النار في حال أطل أحد الجنود، أو أحسا أن أحداً سيدخل المنزل. إلا أن الدبابة غيرت مسارها بعد أن هدمت جزءًا من حائط الغرفة وغادرت المكان. ومن الغريب أن أحدًا من الصهاينة لم يشعر بوجودهم داخل المنزل.‏

كان الليل عالماً آخر في مارون الراس. يروي الحاج محمد ديب أنه كان دائماً يحتضن سلاحه ليلاً تحسبًا لأي طارئ. يروي أن مواجهات عنيفة دارت في أطراف القرية بين المقاومين ـ وهم قلة ـ وعشرات الجنود الصهاينة، الذين كانوا يسمعون صراخهم، وكانت الطائرات تحط حصراً أثناء الليل لإجلاء الجرحى والقتلى، مستغلة الضباب الكثيف الذي يلف البلدة المرتفعة.‏

يستهزئ الحاج موسى وكذا الحاج محمد بالجنود الصهاينة، ويؤكدان أنهما لا يقيمان أي وزن للجيش الإسرائيلي كله، لأنه بعد كل هذه السنين من الخوف والرعب الذي كان يسيطر على النفوس من مجرد ذكر إسم الإسرائيلي، جاء نفر من المجاهدين المؤمنين ليقلبوا المعادلة رأساً على عقب، وليسقطوا مقولة الجيش الذي لا يقهر، «وهذا ما رأيناه بأم العين، ولم يخبرنا به أحد». في مارون كان القتال عنيفاً وشديداً بين ثلة قليلة، وجيش جرار، لا ينقصه شي‏ء من العتاد والسلاح والتكنولوجيا... ولكن "الإرادة، من أين تشتريها لكم أمريكا أيها الجنود الصهاينة؟" يسأل الحاج موسى متسهزئًا.

 تنحدر شمالاً إلى حاضرة الجبل الأشم، جبل عامل، بنت جبيل الصامدة حجراً على حجر، حياة تنبض تحت الركام. تغيرت معالمها بشكل كامل، فصح فيها قول القائل: إنها «ستالين غراد» جنوب لبنان 2006، ولكنها اليوم تغيرت من جديد، بعد ان ارتفعت معظم منازلها، وأعيد بناء السوق، ولكن خسرت كثيرًا من بيوتها الأثرية.
يـوم أرادت "اسرائيل" اقتلاعنا(1)

تعود الى ذاكرة بعض الصامدين لكي تعرف ما جرى. واحد منهم كان الحاج محمد علي أيوب. لم يكن وحيداً ولكنه كان الأكثر تحركاً ما بين البيوت، وما بين الحارات. خادم مسجد الزهراء (ع) في بنت جبيل. أبى أن يترك مسجده وأرضه ومرتع الصبا. أربعة وسبعون من الصبر والقهر والعراك مع الدهر، هي خلاصة تجربة الرجل الذي عاصر الكثير من الحروب وعاش مرارة التهجير (أيام الدكوانة وتل الزعتر...)، لذا فقد مل الترحال قسراً، فلم يستجب لأي دعوة إلى الخروج من مدينته بدايةَ العدوان. بقي يروح ويجي‏ء في بنت جبيل، يقصد منزل ابنته في الحارة الجنوبية قريباً من يارون، قاطعاً كل هذه المسافة تحت القصف والطيران، ليسقي «الزريعة» في الدار المتطرفة في آخر البلدة. كذلك فإنه تولى نقل الخبز والكعك والحلويات من أحد أفران المدينة (في الفترة الأولى من الحرب)، وكان يوزعها على الصامدين من جيرانه. وذات ليلة ، لم يستطع النوم فيها لشدة القصف، شعر بالملل، ولكونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فإنه غالباً ما كان يتسلى بالراديو، وما يمكن أن يسمعه فيه من أخبار أو دعاء أو قراءة قرآن. وبعد أن هدأت كل الموجات في الراديو، قريباً من وقت السحر، فكر بالذهاب إلى المسجد. وهكذا كان. وصل المسجد البعيد نسبياً عن منزله. وجد البطارية وقد بقي فيها رمق، فأطلق العنان لآيات القرآن عبر مكبر الصوت. وما هي إلا لحظات حتى كانت الأجواء تشتعل بعشرات القنابل المضيئة، ولكن لم ترف له عين، «انتظرت طلوع الفجر، أذنت للصلاة صليت الفريضة وقفلت عائداً إلى الحارة». إنها حارة «الحجّارة»، التي سويت بيوتها بالأرض، إلا بيت الحاج محمد، تضرر جزئياً.

لم ينج الحاج محمد أيوب من الموت مرة أو مرتين، بل كل يوم كان له مع الموت صولات وجولات. وفي إحدى المرات سقطت قذيفة بالقرب منه، فظن المحيطون به أنه استشهد، ولكنها  ـ  حسب ما يقول ـ استقرت في التراب فلم تصبه بأذى!.‏

يحفظ عن ظهر قلب سورة يس، يرددها باستمرار، "فهي كفيلة بدفع الأذى والخطر عنه". دائم الذكر، مطمئن القلب. شعاره ببساطة مطلقة «من ذكر علي وابن عمو زال الهم عنو». كان كلما أطل على مشهد المدينة وجد كأن الغيم يغطي سماءها، لشدة الغبار والدخان المنبعث من البيوت المدمرة والمحترقة. وكان يرى الفرش واللحف والوسائد والثياب منثورة في الطرقات. وبعد إحدى جولات القصف الشديد، خرج يتفقد الحارة، فلم يجد الشارع، حيث البيوت أزيحت من مكانها وتناثرت ركاماً غطى الطرقات وغير معالم الأحياء.‏

يـوم أرادت "اسرائيل" اقتلاعنا(1)

اشتد وطيس الحرب، وطال أمدها. صارت الأمور تضيق على أيوب، ولكن الخير لم ينقطع في تلك الديار، الطعام والشراب متوفران، حتى آخر يوم من الحرب، «بدل أن يجدوني ميتاً بعد الحرب، تفاجأوا بأنني ما زلت أحتفظ بكميات وفيرة من الطعام والحليب و...».. ولكن مشكلة المشاكل بالنسبة إليه كانت النوم، فيؤكد أنه خلال ما يزيد على العشرين يوماً، لم ينم إلا لماماً، إذ كانت القذائف تسهّره غصباً عنه، وهو المعتاد أن يأوي إلى فراشه بعد أن يصلي العشاء.‏ «تخذّر جسمي من شدة النعس. استلقيت، سندت راسي عالمخدة. غمض جفني دقيقة. سقطت قديفتان قربي، بيني وبينهما حائط. أحسست وكأن جسمي يشتعل، ولم أعد أقوى على النهوض». صارت القذائف تتساقط على المنزل الذي أوى إليه الحاج محمد علي، و"الناس تهرب من منزل إلى آخر ومن غرفة إلى أخرى". «انهار السقف فوق رأسي، الحائط الصخري رد عني الحجارة، أصابتني شظية في يدي وأخرى في رجلي، تحاملت على جرحي وزحفت إلى منزلي، وقبل أن يبرد الجرح، عالجته بالسبيرتو و«صبغة اليود».. في الليل اشتد الوجع عليّ، حتى أنني أدخلت أصبعي في الجرح من شدة الوجع». تمنى الحاج محمد علي أن يواجه اليهود، حتى يقاتلهم ولو بـ«البلطة». وهو يتأسف كثيراً لأن اللَّه لم يختره شهيداً.«اللي مكتبلو عمر ما بتقتلوا شدة».‏

اما في عيناتا المجاورة، فإن الحال لا يختلف كثيرًا. مشهد الدمار واحد. كذلك المواجهات والشهداء، واعادة البناء ولملمة الجراح. أزقة البلدة كانت مسرحاً لمواجهات حامية بين الجنود الصهاينة ومجاهدي المقاومة من البلدة ومن غيرها.‏

ومن هنا في «السدر» و«فريز» وغيرهما، كانت تسدد الضربات الموجعة للعدو: من إعطاب الدبابات عبر الصواريخ التي كانت تطلق من البلدة، إلى إصابة الطائرة المروحية فوق مارون، إلى مواجهات مدرسة الإشراق، التي كانت تدور من طابق إلى طابق ومن غرفة إلى أخرى.‏ ولعل قليل من المدنيين هم من بقوا في البلدة. وقد سقط عشرات الشهداء في عيناتا بين مقاوم ومدني، بينهم 12 مقاوماً استشهدوا في مواجهات المربّع خلال يومين، و19 مدنياً قضوا في منزل واحد دمرته الطائرات المعادية على رؤوسهم.‏

يـوم أرادت "اسرائيل" اقتلاعنا(1)

أبو شوقي، الحاج عبد النبي نصر اللَّه، بقي في البلدة إلى اليوم العشرين تقريباً، شهد خلالها مواجهة كرم الزيتون، حيث يقع منزله بمحاذاته. وقد أفردت لها صحيفة معاريف الصهيونية حيزاً واسعاً، نظراً لشراسة التصدي الذي أبداه المقاومون. كان أبو شوقي يسمع تكبيرات المجاهدين وصيحاتهم التي كان يخترقها صراخ الجنود الصهاينة واستغاثاتهم، حيث سقط لهم عدد كبير من القتلى والجرحى، في حين كان ولده «ناظم» يرتفع شهيداً على بعد أمتار من والديه، اللذين لم يكونا يعلمان أن المعركة الحامية الوطيس بطلها فلذة كبدهما. كان أبو شوقي كثيراً ما يلمح المجاهدين في تلك النواحي، وقد لجأ إلى منزله بعض الجرحى الذين استطاعوا أن يخرجوا من مارون الراس.‏

يروي فيصل خنافر، من أبناء عيناتا، كيف أن تلفونه الخاص ظل وحيداً يعمل في البلدة. وقد بدأت الأمور تزداد تعقيداً مع فقدان البنزين والمواد الغذائية، « الأمر الذي اضطرنا لاستعمال الدراجات الهوائية لتلبية متطلباتنا». ثم كان منزله القريب من كرم الزيتون المذكور عرضة للقصف مرات عدة، فأصيبت والدته وابنه، فسارع إلى إجلائهما، مصطحبًا معه "14 نفساً لجأوا إلى منزلي، من العائلة والأقارب والجيران".‏ يستذكر خنافر الأوضاع الحرجة التي مروا بها. ويتسذكر أيضًا انهم كانوا شهودًا على مواجهات المربع البطولية. «هؤلاء المقاومون هم السياج الذي يحرس سيادتنا، وكان يبعث فينا الأمل بالنصر. لم نشك لحظة بأننا عائدون».
2011-07-27