ارشيف من :آراء وتحليلات
القرن الإفريقي: صناعة المجاعة لأغراض الاستثمار المربح!
عقيل الشيخ حسين
بنيران الفقر والمجاعات يكتوي القسم الأكبر من سكان العالم، ولا يكاد يمر يوم إلا ونسمع فيه عن مؤتمرات وندوات وحملات تنظمها الأمم المتحدة لمكافحة الفقر والمجاعة، وعن مليارات تخصص وتصرف في هذا السبيل، من دون أن تفعل المجاعات شيئاً غير المزيد من الاستفحال والتفاقم.
والأمر طبيعي جداً: المجاعات تحولت إلى مجال مربح من مجالات الاستثمار. ولضرورات التوسع في مجالات الاستثمار، فإن برامج وخططاً توضع وتنفذ بهدف التوسع في "صناعة" المجاعات... ليتمكن كهنة رأسمالية الغاب، بعد ذلك، من تدبيج أطروحاتهم حول "الإبداع البشري" عند حديثهم عن النجاحات الكبرى التي يحققها المستثمرون!
فنحن نسمع عن مساعدات تقدمها الدول الغنية إلى البلدان الفقيرة. بمئات الملايين والمليارات التي يفترض أن تحدث تغيراً أيجابياً ولو طفيفاً في مجال مكافحة الفقر. لكن الباحث المدقق المحقق ـ إن وجد ـ يكتشف أن كلمة " مساعدات" غالباً ما تكون غطاءً صفيقاً لكلمة "ديون". والديون هي من النوع الذي يستوفى سلفاً، وأضعافاً مضاعفة، من الحكومات التي تحصل على تلك المساعدات/الديون. واستيفاؤها يتم على شكل صفقات وامتيازات واحتكارات أول المتضررين منها هم الشعوب التي باسمها تعقد الاتفاقيات الخاصة بتلك المساعدات. بالمناسبة، نشرت الـ بي بي سي خبراً في 26 تموز/ يوليو الجاري مفاده أن القسم الأكبر من المساعدات التي جمعت لباكستان بعد الفيضانات التي ضربتها العام الماضي... لم يصل إلى باكستان.
أما مئات الملايين والمليارات التي نسمع عنها فهي أيضاً غطاء صفيق لـ "سلع" منها المواد الغذائية والأدوية الكاسدة أو المنتهية الصلاحية. ومنها ما يسمونه بالخبرات والتقنيات التي تقدمها الدول "المانحة" على شكل خبراء مختصين يتقاضون أجوراً دسمة تليق بمستوياتهم الرفيعة. ومنها "خدمات" أخرى كالنقل والمعاملات والعمولات. ومنها أخيراً بعض الأموال السائلة التي يحصل عليها الحكام للصرف على أجهزتهم الأمنية وطائراتهم الخاصة ووجباتهم الغذائية الفاخرة ومشروباتهم التي تصلهم من أرقى المطاعم في أوروبا وأميركا.
وعندما نسمع حالياً صراخ الأمم المتحدة ممثلة بأمينها العام وموظفيها الذين يزيد عددهم عن عدد الحصى والذين يتقاضون رواتب ضخمة يمكنها أن تحدث أثراً لو صرفت في مجال مكافحة المجاعة... عندما نسمعهم وهم يتكلمون عن المجاعة غير المسبوقة التي تجتاح القرن الإفريقي... لا يمكننا إلا نسيء الظن ونعتبر أن باباً جديداً للاستثمار المبدع والمسيس قد تم فتحه في القرن الإفريقي.
ولا يمكننا إلا أن نشير إلى مظلومية الجفاف المتهم بأنه سبب المجاعة: يؤكد الخبراء أن المجاعة لا تحدث بشكل فوري بعد حصول الجفاف. ما يعني أن للمجاعة الحالية ـ إن صح أن هنالك مجاعة بالحجم الذي يتكلمون عنه ـ أسباباً سابقة على الجفاف.
في طليعة الأسباب نجد الحروب التي ترسم لكي تدور رحاها في المناطق الزراعية الخصبة. ما يجبر الفلاحين والرعاة على الهرب بعيداً عن تلك المناطق، إلى معسكرات للاجئين أو إلى المدن.
وقد لاحظ موظفو الأمم المتحدة ما تنطوي عليه هجرة عشرات الألوف من السكان الجائعين إلى المدن من مخاطر، إن بالنسبة لهم أنفسهم وإن بالنسبة للمدن التي ينزحون إليها. لكنهم لم يلاحظوا كيف أن تدابير البنك الدولي وإملاءات صندوق النقد الدولي وتلاعبات السوق الدولية قد أجبرت مئات الملايين من سكان الأرياف في إفريقيا وغيرها على النزوح إلى المدن بعد أن قطعت أرزاقهم بفعل تلك التلاعبات.
أما التسييس فنلاحظه في الصومال: لماذا، إذا كان هنالك حرص على مكافحة المجاعة، تحرص الدول الغربية و"إسرائيل" على تغذية صراعات الصومال وغيره تحت سمع وبصر الأمم المتحدة، في ظل الإجماع على أن الحروب هي السبب الرئيسي للمجاعة؟ وخصوصاً أن الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحكم أكثر من مرة أثبتوا قدرتهم باعتراف الجميع على جعل الصومال أكثر بلدان العالم أمناً واستقراراً؟
كما نلاحظه في حرص الـ بي بي سي ومثيلاتها العربيات على توجيه التهم للشباب المجاهدين بعرقلة وصول المساعدات في وقت يؤكد فيه الشباب أن المناطق التي يسيطرون عليها لا تعاني من المجاعة، فضلاً عن أن منظمات الإغاثة تعج بالجواسيس وبذوي الأغراض الذين يستثمرون في الإغاثة لخدمة أغراض سياسية معروفة.
ولماذا مثلاً يتقاطر الأثرياء من بلدان الغرب والصين والخليج لشراء الأراضي الزراعية على ضفاف النيل والبحيرات بأبخس الأثمان ليقيموا فوقها منشآتهم الزراعية "النموذجية" المتخصصة بإنتاج سلع غير غذائية كالبن والكاكاو والزهور لتسويقها في أوروبا وأميركا، بينما لا يقيمون مؤسسات متخصصة بإنتاج المواد الغذائية الأساسية في تلك المناطق المعروفة بخصوبتها الشديدة؟
ولماذا تتسبب منشآت هؤلاء بكوارث من النوع المفتوح على المجاعة والموت بالتسمم نتيجة ما يستخدمونه من وسائل التخصيب والمبيدات التي سممت التربة والثروة المائية والأسماك والأنعام التي تعيش عليها شرائح واسعة من السكان. ولماذا لا تصدر قرارات دولية وتتشكل محاكم دولية لمحاكمة هؤلاء المسؤولين عن المجاعة؟
كل ما أمكن تشكيله في ظل صناعة المجاعة في القرن الإفريقي هو اجتماع دولي طارئ للأمم المتحدة في روما الاثنين، بهدف حشد دعم المجتمع الدولي لمساعدة الشعوب المتضررة من الجفاف في القرن الأفريقي. وطالب بان كي مون بمبلغ 1،6 مليار دولار. لكن الصوت الذي سمع هو صوت روبرت زوليك، مدير البنك الدولي الذي تعهد بتقديم مساعدة (أي باستثمار خلاق) بقيمة نصف مليار دولار بعيدة المنال شأن بقية المبلغ.
فمن يدفع للقرن الإفريقي اليوم؟ أميركا مهددة بعد أيام قليلة بالإفلاس أو على الأقل بتخفيض إنفاقها بنسبة 40 بالمئة. وأوروبا تشد أحزمة التقشف إلى مداها الأقصى، وفي الحالتين بات قريباً اليوم الذي تصبح فيه المجاعة شأناً يومياً.
أما أثرياء الخليج فإنهم يفضلون بدلاً من "الاستثمار" في مكافحة مجاعة القرن الإفريقي إنفاق ملياراتهم على صفقات التسلح وتقديم الدعم المالي للأنظمة المنهارة، العربية وغير العربية، في محاولات يائسة لوقف عملية الانهيار ومنعها من الوصول إليها.
مجاعة القرن الإفريقي وغيرها من المجاعات والكوارث التي ينوء بها عالم القرن الحادي والعشرين هي نتاج طبيعي لقرون من النهب الاستعماري وما بعد الاستعماري في ظل سياسات التخريب المنهجي الذي تقوده مؤسسات الأمم المتحدة بتوجيه من القوى الشيطانية وبتواطؤ من الحكام...