ارشيف من :آراء وتحليلات

جعجع يتحالف مع حزب الله: انعزالية الخطاب وذهنية الكانتونات

جعجع يتحالف مع حزب الله: انعزالية الخطاب وذهنية الكانتونات

محمد الحسيني

يبدو أن زعيم "القوات اللبنانية" سمير جعجع يستعجل الأيام والساعات وربما الدقائق واللحظات ليخرج إلى الإعلام، ويصدح بموقف تارة ويدردش مع الإعلاميين تارة أخرى، ويعقد مؤتمراً صحافياً هنا، ويسرّب "معلومات خطيرة" هناك، لعلّه يُشغل حيّزاً من صفحات الجرائد وأثير الإذاعات وشاشات التلفزة والمواقع الالكترونية، سعياً لاستعادة غياب شغله بجولات "زعائمية" التقى فيها الجماهير اللبنانية التي كانت تتوق إلى مصافحة "حكيم" السياسة الحالم بكرسي ينتظره في بعبدا، لا سيما أنه ضجّ بكرسيّه في معراب الذي لم يُرضِ طموحه يوماً، فبدا كمن ينظر في المرآة ويقنع نفسه بواقع اختلقه هو ويخرج واهماً نفسه بأن كل الناس ستراه كما يرى نفسه، فيُفاجأ بأن الناس لا تلتفت إلى وجوده... ولا إلى نفسه.

ويهدف استعجال المتنبي الجديد سمير جعجع (مع الاعتذار من نابغة الشعر العربي) إلى استباق ما حكي عن عودة الزعيم سعد الحريري إلى بيروت لاستئناف طلاته الشعبية التي اعتادها المواطنون في إفطارات شهر رمضان المبارك، فحاول أن يرسم سقفاً مرتفعاً لكي تبقى مواقف الزعيم الشاب دون هذا السقف، فلم يجد جعجع أمامه سوى المزايدة بالتصويب على ملفات أكبر منه، فسقط ـ كعادته ـ في مطب التناقض، وبدل أن يصيب هدفه وجد نفسه ينكر الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وبدا كأنه يدعو حزب الله إلى عقد تحالف للعودة إلى انعزالية الخطاب وتكريس ذهنية الكانتونات والتقسيم والفدرلة.

في الدعوة الأولى، حاول جعجع استدراج حزب الله للانضمام إلى مشروعه القديم ـ الجديد والمستمر في ضرب البنى الأساسية للنظام في لبنان، من خلال اعتبار أن "لبنان قد تراجع خطوة على ‏الأقل من خلال ‏تشكيل الحكومة ‏‏الحالية"، وأنها حكومة "قديمة جداً، بالفعل ‏‏والعقلية والأهداف"‏، مع ما في هذا الاعتبار من إنكار لمجلس نواب الشعب الذي أعطى الثقة لهذه الحكومة، وإنكار لرئيس الجمهورية الذي وقّع على تشكيلة هذه الحكومة، والتي يعتبرها جعجع والأبطال الآذاريون من روّاد السيادة والحرية أنها حكومة حزب الله.

وفي الدعوة الثانية، يعتبر "المفكّر" الاستراتيجي داخل حدود معراب "أن المشروع ‏السياسي والعقائدي لحزب الله هو ‏تعزيز النفوذ الإيراني في الشرق ‏الأوسط وصولاً إلى ‏جعل إيران القوة ‏‏الإقليمية الأولى في الشرق الأوسط ‏ وآسيا ‏‏الوسطى وشمال أفريقيا...". مع ما في هذا الاعتبار من استدراج لحزب الله للانضمام إلى طروح جعجع القديمة ـ الجديدة المستمرة في تكريس واقع التقسيم والفدرلة تحقيقاً لحلم تاريخي بإرساء نظام حكم وإقامة دولة ولو جاءت على مساحة تمتد من نهر الكلب إلى المدفون.

أما في الدعوة الثالثة، فقد تعملق "ناسك" معراب في الفكر الاستراتيجي، بحيث اجتهد كثيرون في البحث والتمحيص ليدركوا عمق ما قصده في كلماته، ولكن من دون جدوى. ولو أن في مواقفه الجديدة ـ القديمة المستمرة محاولة استدراج جديدة لحزب الله، إلا أنه توقّد في بذل عصارة فكره، ليستنكر على الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله تحذيره "إسرائيل" من عدم المساس بمنشآت النفط العائدة للبنان، وقال مخاطباً السيد نصر الله: "من كلّفك بالمطالبة بحقوقنا، والمدافعة عن مصالحنا، فيما يتعلق بالنفط والغاز؟ لماذا انتخبنا نواباً؟ ولماذا النواب انتخبوا رئيساً للجمهورية؟ ما هو عمل الحكومة؟".

وهنا لا بد من الاعتراف بالعجز أمام فك عبارات البلاغة لدى جعجع، حيث اعتبر في الدعوة الأولى الحكومة أنها قديمة وأنها حكومة حزب الله، وأنكر فيها رئيس الجمهورية وأصوات النوّاب، وها هو اليوم يستنكر على السيد نصر الله المطالبة بحقوق لبنان في النفط والغاز!! ويطالب الرئيس والحكومة والنواب بتولّي هذه المهمة. ولكن في استلحاق قد يكون ذكياً لقراءة فكر جعجع، من الممكن أن نقف عند كلمة "حقوقنا" و"مصالحنا" التي وردت في موقفه، وهنا بيت القصيد.

وبيت القصيد يبرز في الدعوتين الثانية والثالثة لجعجع حيث يعتبر أن مشروع حزب الله يهدف إلى تمكين إيران من السيطرة على المنطقة، وعليه فإن مطالبة السيد نصر الله بالنفط والغاز التي هي من حقوق جعجع، غير صائبة، وبالتالي أطلق جعجع تحذيراً بضرورة الانتباه إلى أن حزب الله يسعى لمصادرة "حقوقنا" و"مصالحنا" النفطية والغازية لمصلحة إيران، وما أدراك ما إيران من قوة نفطية جبّارة في العالم. ولكن إذا استطعنا منع السيد نصر الله وإيران من الهيمنة على "حقوقنا" الجعجعية، فماذا نفعل بـ"إسرائيل" التي كانت ولا تزال وستبقى تنتهك سيادتنا وتمدّ يدها على حقوق لبنان كله، وتضرب مصالح لبنان كله؟! هذا ما لم يقله "الحكيم" لأنه ما زال في طور التأمل ولم يفده الوحي في الوصول إلى خلاصة في هذا الأمر.

ولكن أين دعوة جعجع لحزب الله في التحالف؟ لا شك في أن "الزعيم" يمضي أيامه ولياليه في رسم المستقبل الجيوسياسي للمنطقة، وها هو ينتهز اللحظة المناسبة ليطلق دعواته للتحالف مع حزب الله من باب التكافؤ والتوازن والندّية في الحجم السياسي والشعبي، ويبدو أنه بدأ بتنفيذ مخططه الواعد لإسقاط الحكومة أولاً وضرب مجلس النواب ثانياً وتبوؤ سدة الرئاسة ثالثاً، وبالتالي يُفقِد حزب الله مكامن قوته، فلا يعود أمام حزب الله والسيد نصر الله إلا الجلوس إلى مائدة التقسيم والتفاوض مع "الحكيم" من منطلق الفاقد لأوراق قوّته، وعندها يفرض جعجع منطقه في إدارة البلاد، ولكن "الحاكم العادل" لن يصادر وجود حزب الله بل سيجعله ضمن التركيبة الداخلية اللبنانية، وبذلك يسقط المشروع الإيراني ويكرّس مشروعه... ولكن أي مشروع يريد له جعجع أن يحصّل ويحمي ويحافظ على "حقوقنا" و"مصالحنا"؟!!

الخلاصة التي أوردناها ليست استنتاجاً لما سبق في سياق الكلام، بل هي محاولة لترجمة حروف عبقرية " ناسك" معراب المتوقّدة، ولتجسيد حلم لا يزال يراود "الحكيم". ولكن يبدو أن أحلامه التي نمت على وقع تصفيق حاشيته فاضت على يقظته، حتى أصبحت نظرياته "من كل وادٍ عصا".

ويبقى أن ننصف الرجل فـ "لا يمكن لشجرة العوسج أن ‏تُعطي ‏تيناً، ولا للزؤان أن ينبت ‏قمحاً‏"‏.



2011-08-02