ارشيف من :خاص

جواد عيتا: المهمة الأخيرة

جواد عيتا: المهمة الأخيرة
منهال الأمين

جواد عيتا؟ فتى أشقر بعينين ملونتين. تميل الملامح إلى الهدوء وكذا الشخصية، ولكن بحسب التجربة، فإن الفتى العشريني، كان يختزن غضباً على مغتصبي الأرض ادخره ليوم أعد له نفسه طويلاً وغفل عنه كثيرون. محور بنت جبيل كله كان يستمع إلى بطولات الفتى، ينقلها مباشرة عبر أثير اللاسلكي، من قمة مارون الراس، حيث ظن الصهاينة ان الخاصرة رخوة، يسقط اصحابها بسهولة، ولكن محمد دمشق، كان قد أعد ـ بحسب أحد رفاقه ـ خطة محكمة للصمود والقتال وتكبيد العدو خسائر فادحة في حال أصر على التوغل. "بثّ الحماسة في النفوس" كما يقول احد قياديي المحور. كثيرون طلبوا الصعود إلى مارون كي يشاركوا في "حصادها" . لم يبق أحد الا وقاتل، حتى الشيوخ. كان هناك سامر نجم وعلي الوزواز وموسى فارس ووو... وكانت حربٌ وكان انكسارٌ غيّر مسار الحرب.

جواد عيتا: المهمة الأخيرة

ترك محمد كما آخرين كثر، بنتًا جنينًا. ليس خيار هؤلاء أن يفارقوا أغلى ما في الوجود، ولكن عقيدة الدفاع عن الوطن ترسخت في قلوبهم وعقولهم، حتى تركوا كل شيء أمانة في يد الله وفي رقاب رفاقهم. تتهادى اليوم فاطمة بين يدي جدتها، أم رياض. يفرحها أن محمد ترك لها شيئًا من أثره " فالشهيد رياض (الشقيق الأكبر لمحمد) رحل عن الدنيا، وبالواقع ترك لي محمدًا، ولكن الصغير لم يحد عن درب الكبير وسرعان ما وافاه". ويبقى اللقاء الأخير بمحمد غصة في نفس أم رياض، برغم أن قلبها «مرتاح شوي» لأنها «عزمت» محمد على «الفراكة» التي يحبها قبل الحرب بيومين. لبى الدعوة وأكل «فراكة» أمه المفضلة لديه وهمّ بمغادرة بلدته عيتا الجبل إلى عمله.

«لحظات ليست كأي لحظات» تستعيدها أم رياض لأنها لم تكن عادية أبداً في حياتها كما تقول «ودّعته مرتين، ولأول مرة شعرت بأنني أريد مرافقته إلى آخر الطريق. كان وجهه يشع نوراً».

بعد يومين، وقعت عملية «الوعد الصادق». يومها كانت أم رياض في تبنين تزور أختها (والدة شهيدين أيضاً). عندما سمعتا بالعملية فرحتا كثيراً ووزعتا الحلوى ابتهاجًا على الناس.

بعد الظهر بدأت أطراف عيتا الجبل (قضاء بنت جبيل) تتعرض للقصف. طلب الشباب من الناس ألا يناموا في المنازل البعيدة فتجمعت العائلات في البيوت الآمنة وسط البلدة. بقيت أم رياض في البلدة لمدة 18 يوماً. اتصل محمد في اليوم الثالث للحرب بأهله لكن أمه لم تكن موجودة فردّت عليه خالته وسألته عن مكانه فقال لها إنه في البيت بالضيعة «عم يتروق» وأسمعها صوت تحريك الملعقة في «كباية» الشاي دليلاً على ذلك. عندما عادت أم رياض أخبرتها أختها أن محمد في البيت «لكني كنت أعرف أنه ليس في القرية أصلاً لأنني أتردد يومياً على البيت...».
بعد هذا الاتصال لم تعد تسمع عنه شيئاً وصارت الأمور تزداد سوءًا «وعندما سمعت أن الاسرائيليين تقدّموا باتجاه مارون قلت لأختي «راح محمد» فقد شعرت بأنني لن أراه مجدداً».

جواد عيتا: المهمة الأخيرة

بالفعل كان محمد، وقلب الأم دليلها، يخوض مع مجموعة من رفاقه مواجهة فاصلة في مارون الراس. فقد اقتحم «جواد عيتا» مع رفاقه البيوت التي تحصن داخلها الصهاينة برغم أن التعليمات كانت بعدم بذل جهد كبير في مارون نظراً لوضعها الاستثنائي، "الساقط عسكريًا".
يروي صديقه كيف أبدع محمد في لحظاته الأخيرة، وكيف أدى تخطيطه في مارون إلى صمود القرية حتى بعد استشهاده «أخذ جواد يتحدث على الجهاز كما لو أنه في مباراة لكرة القدم (التي كان يُحسَب له فيها ألف حساب)، وكما في الملعب كذلك في الميدان. صار ينادي على الرفاق يطلب من هذا التقدم ومن ذاك إطلاق النار على الجندي على يمينه وذاك على يساره. علي الوزواز كان هناك، وسامر نجم وموسى فارس ومحمد عسيلي، كلّهم قاتلوا حتى الشهادة».

أعطى كلامه عبر الأثير زخماً للمعركة ما دفع الإسرائيليين إلى محاولة إسكاته من خلال التشويش على موجة اللاسلكي لأنه استطاع أن يربك إدارتهم للتقدم. بعد فترة غير قصيرة من المواجهات العنيفة انقطع صوت محمد بعد أن ألهب محور بنت جبيل بأسره. «كل من سمعه شعر بأن قائداً رفيع المستوى يتولى زمام الأمور». يتهدّج صوت الصديق مستعيداً تلك اللحظات «لم ندرك ماذا حدث... عادة ينقطع الاتصال في المعركة نتيجة خلل ما. استمرت المواجهات في مارون أيامًا عدة ، وصارت الإذاعة التي استحدثها العدو للتشويش تذيع أسماء من تسمّيهم « القتلى المخربين»، وورد اسم محمد دمشق بينهم فصرت أضحك لأن الإذاعة نفسها كانت تذيع أسماء مقاومين أحياء على أنهم شهداء».

لكن جواد عيتا كان قد استشهد فعلاً. صدّ القائد «حمودي» ألوية النخبة. فقد كبر محمد واشتد عوده وصار من ذوي البأس، ومع ذلك ظلّ قلبه مع من يحبهم يتناسب واسم الدلع هذا، يقول صديقه المقرب. أما في أوساط المقاومة فلازمه اسم «جواد عيتا»، جواد نسبة للاسم الحركي لشقيقه الأكبر رياض (استشهد العام 1994)، وعيتا نسبة إلى قريته العاملية «عيتا الجبل».

محمد دمشق ابن الـ27 عاماً، ذو الملامح الطفولية، غدا قائداً ميدانياً صعب المراس في فترة قياسية من عمله في المقاومة، لكنه لم يكن يُرى عابساً قط. يقول عنه أحد رفاقه «يستحيل أن تجالس محمد فتهمل وجوده مهما كان وضعك النفسي. يملك مقدرة غريبة على إخراجك من أحزانك. «مزّيح»، لا تفارق البسمة وجهه»... لكنه في الحرب «صلب شرس، قلبه قلب أسد».

جواد عيتا: المهمة الأخيرة

اليوم بعد 5 أعوام على الحرب، تصرّ أم رياض على أن تري زائريها "امانة محمد". فاطمة ابنة «جواد عيتا» التي حضرت إلى الدنيا بعد شهادة أبيها ببضعة أشهر. تحمل بين يديها الملاك، كما تسمّيها، وتتذكر كيف «أصيب محمد وهو ابن 7 أشهر في رجله عندما هجّرتهم إسرائيل من منزلهم في الضيعة أواخر السبعينيات». تداعب الطفلة، تترقرق الدموع في عينيها الحزينتين «صار لي 5 سنين ما شفت محمد، هلق صرت أقدر ألمحه بين عيني « فطومة» لأنها نسخة طبق الأصل عن أبيها».

تحاول أم رياض أن تعوّض حفيدتها حنان أب لن تعرفه «فاطمة». هي تعرف أن حفيدتها ستنشأ يتيمة، لكنها لا تخفي فخرها واعتزازها بمحمد ورياض اللذين «بيّضا وجهي عند سيدتي فاطمة الزهراء». متماسكة صلبة، هذه المرأة التي «تشاطرت» عليها الأيام «كنا نعيش في القرية، هجّرتنا إسرائيل إلى بيروت، وهجّرتنا الحرب الأهلية من كنيسة مار مخايل بالشياح إلى النبعة، وعدنا إلى الشياح. كان بيتنا مهدماً فاضطررنا للسكن في مدرسة مدة ثماني سنوات».

تجربتها مع الشهيد رياض، ولدها الأكبر الذي كان قد انخرط في المقاومة في أواسط الثمانينيات، كانت درساً لها استفاد محمد منه كثيراً: «... كنت أركض ورا رياض من بلد لبلد. عندما كنت أسمع بعملية للمقاومة قوم روح عالضيعة متل الطاير عقلها... وعندما التحق محمد بالمقاومة قررت أن لا تقِّل الطحشة عليه كما كانت الحال مع رياض».

بعد استشهاد رياض طرأ تغيير كبير على شخصية محمد «تأثر كثيراً بشهادة أخيه الذي كان يهابه ويحبه كثيراً» وكانت تستعين به عليه لضبط «الورشنة». تقول أم رياض إن «مثل هؤلاء الأولاد يعلّمون أهلهم. أنا تعلّمت من ابني رياض الثقة بالله عن جد. كان اليهود قاعدين بنفس البناية اللي تهجرنا عليها بالنبعة (ابان اجتياح 1982) وكنت أحذره من الخروج خوفاً عليه منهم. قال لي مرة وهو لما يتجاوز الـ14 عاماً بعد: هؤلاء لا شيء يا أمي بدنا ناكلهم بأسناننا... فقلت له ممازحة: يعني إلك نفس عليهم.. ظل على لهجته الجدية وقال: بقدرة الله رح يزولوا يا أمي.

جواد عيتا: المهمة الأخيرة

حاولت العائلة إقناع رياض بالسفر للعمل أو لطلب العلم فلم يقبل. تعهدنا له بأن نقسم معاش والده بيننا وبين المقاومة مناصفة، فكانت إجابته: والشباب.. منين نجيب شباب يا أمي. أو يردد جملته الشهيرة: «يمّي ابن 8 ما بيموت ابن 9». «يعني هو هيأني نفسياً لهذا اليوم. كنت أتوقع الخبر في أي لحظة، ولما قالوا لي إنه مصاب قلت لهم قولوا لي استشهد، أنا عارفة كل شي»!.

سرعان ما احتل محمد مكان أخيه: «شعرت بأنه كبر بسرعة... لا ولدنة ولا شيطنة... طلبت منه أن يكمل دراسته في المهنية وهكذا كان». خلال تلك الفترة كان محمد يذهب إلى عمله في المقاومة ويعود «لكننا لم نكن نعرف عنه شيئاً. فمحمد كتوم جداً ويتحدث عن كل شيء إلا عن عمله. لم أره يوماً مسلحًا أو حتى مرتديًا بذلة عسكرية، مثل رياض تمامًا».

بدأت رحلة «جواد عيتا» مع المقاومة العام 1998، فشارك في معظم العمليات النوعية والخاصة في محور بنت جبيل، وأثبت كفاءة عالية توّجت في ملحمة مارون الراس في الحادي والعشرين من تموز 2006.

استشهد محمد دمشق، واحتفظ الصهاينة بجسده. جعل ذلك قلب أمه يتعلق بأمل أن يكون حبيبها على قيد الحياة برغم أنها ذهبت إلى مارون وعاينت مكان استشهاده وتلمّست الأرض التي رويت من دمه، وظلت تمنّي النفس باليوم الذي تستطيع أن تلمس ولو صندوقًا يضم جسد ابنها أو.. «الله وحده يعلم عمق هذا الجرح اللي بيظل سخن حتى أقدر أدفن ابني وزور قبرو لما بدي». وكان لها ما أرادت، بعد حرب نفسية خاضتها مع "مقبرة الأرقام". فحين استعادت المقاومة بعد عام على الحرب جثماني شهيدين، تحرك الامل والوجع في قلب ام رياض، " كلهم اولادي" قالت يومها. ليتبين لاحقا انهما رفيقا محمد، إلى أن تمت عملية الرضوان، واستعادت ام رياض حلم محمد شهيدًا، فتحاملت على الاسى، وزغردت في عرس كبير، عاشه الوطن من اقصاه إلى أقصاه.

2011-08-04