ارشيف من :آراء وتحليلات

المبادرة الروسية حيال البرنامج النووي الايراني: أرباح طهران وخسائر واشنطن

المبادرة الروسية حيال البرنامج النووي الايراني: أرباح طهران وخسائر واشنطن
عبد الحسين شبيب

بعيد بدء موجة الثورات العربية سارعت واشنطن الى تعديل جدول اعمالها الخارجي في محاولة لاستيعاب عمليات اسقاط انظمة رئيسة حليفة لها في الشرق الاوسط، بعدما كان سقوط النظامين التونسي والمصري باكورة نتائج التحركات الشعبية العربية. بدا واضحا ان واشنطن ازاحت عن رأس اولوياتها ملف البرنامج النووي الايراني بعدما كان يتصدر الاهتمام الاميركي المنفرد او الثنائي مع اسرائيل او المتعدد الاطراف مع الاتحاد الاوروبي، وبات اهتمامها منصبا على وقف تدحرج كرة الثلج حتى لا تكبر وتطال قواعد السياسة الاميركية في المنطقة.

من الواضح ان ايران التي بدت الرابح الاكبر من مسار الثورات العربية عملت جاهدة على الافادة القصوى من الوقت الضائع الذي وفره الغرق الاميركي ـ الاوروبي في وحول الثورات، وباتت بمنأى عن الضغوط اليومية التي تستدعيها طبيعة المواجهة التي فتحها الغرب معها على خلفية برنامجها النووي بزعم ان له ابعادا عسكرية، وايضا على خلفية نمو دورها الاقليمي وتعاظمه. وقد عدّ من مؤشرات هذا التعاظم توسع نشاط البحرية الايرانية الى المياه الدولية، والاعلان عن ارسال دورية الى المحيط الاطلسي بعدما بلغت الدوريات البحرية العسكرية الايرانية باب المندب وخليج عدن وقناة السويس، فضلا عن البحر الأبيض المتوسط والبحر الاحمر وبحر عمان ومياه الخليج، في وقت بدأ الحديث في واشنطن عن نقل مقر اسطولها البحري الخامس من البحرين على خلفية الثورة التي انطلقت في هذا البلد.

صحيح ان واشنطن قلصت من تركيزها الظاهري على البرنامج النووي الايراني مؤخراً لاولوية مخاطر الثورات العربية، لكن وقبل ذلك فان معضلة الفريق الغربي الاسرائيلي كانت ولا تزال تكمن في انعدام الخيارات الفعلية التي تمكنهم من وضع حد لنمو القوة النووية الايرانية، وهم يعانون مأزقا جوهرياً في هذا المجال يتم التعبير عنه دائما في وسائل الاعلام من خلال تسريبات مقصودة بشأن كيفية مواجهة ما يسمونه الخطر الايراني المتزايد: هل باللجوء الى الحرب التي يتم دائما التهويل بها، بأساس وبلا اساس، او بالاستمرار بنظام العقوبات، رغم ان كل التقديرات الموجودة لدى اجهزة الاستخبارات الاميركية والاسرائيلية ومعهما شركاء امنيون اوروبيون، فضلاً عن الخبراء الدوليين في الشأن النووي الايراني، وكلها تفيد بتأثير محدود لنظام العقوبات سواء التي فرضها مجلس الامن الدولي او الولايات المتحدة او الاتحاد الاوروبي، مع الاشارة الى ان هذه العقوبات تمحورت مؤخراً حول ما اسموه سد المنافذ المالية التي تسمح لطهران باستيراد مواد واجهزة يمكن ان تستخدم في برنامجها النووي.

لكن التقديرات الغربية تفيد بنجاح ايران في سعيها لتجنب الحظر الدولي من خلال شراء مواد من السوق السوداء، حيث تحولت في تعاملاتها التجارية بشكل متزايد إلى دول أخرى، مثل تركيا، التي تلقت في الآونة الأخيرة تحذيراً على نحو خاص من فريق العمل المعني بالعمليات المالية حول مخاطر الانتشار النووي من جراء هذا العمل التجاري. لكن الخلاصة التنفيذية الموجودة لدى البيت الابيض تفيد بأن نجاح اي رزمة عقوبات وفرض اجراءات اكثر شدة يحتاج الى توافق عالمي.

اما الدليل الحسي على انعدام فعالية العقوبات فهي تقارير الخبراء الدوليين الذين يجزمون بأن البرنامج الايراني يتقدم إلى الأمام، وان وتيرة تقدمه تسارعت في الآونة الأخيرة، وعزز ذلك اعلان طهران رسميا انها تنتج اليوم كميات من اليورانيوم المخصب أكثر مما كان عليه الوضع في العام المنصرم، ووفقاً للدكتور فريدون عباسي دواني، رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، فان بلاده تستعد لمضاعفة إنتاجها من اليورانيوم العالي التخصيب ثلاثة أضعاف. ولتحقيق هذا الهدف، تعمل إيران على تركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً في منشأة لتخصيب اليورانيوم في مدينة "قم" الإيرانية مقامة تحت الأرض. كما ان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية كشف مؤخرا أن عملية "تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة بجودة وسرعة أفضل تجري على قدم وساق".

وبحسب تقديرات أدلى بها الخبير في شؤون الانتشار النووي والباحث في معهد الأبحاث الإستراتيجية الفرنسي (FRS) الدكتور برونو تيرتريه في شهر تموز/ يوليو الماضي، فان معدل إنتاج إيران الشهري لليورانيوم المنخفض التخصيب البالغة حالياً 156 كلغ هو أكبر معدل تسجله الوكالة الدولية للطاقة الذرية من قبل. وتمتلك طهران في الوقت الحاضر مخزوناً يزيد عن 4000 كلغ من اليورانيوم المنخفض التخصيب، ما يسمح لها بإنتاج قنبلتين نوويتين إذا ما تم تخصيبه بنسبة عالية، بحسب تشخيص تيرتريه.

وعلاوة على ذلك، يقول الباحث الفرنسي ان "إيران انتجت نحو 60 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% في منشأة "نتانز لإمداد مفاعل أبحاث طهران بالوقود، وهذا يجعل إيران قريبة للغاية من عتبة التسلح النووي، والسبب هو أنه حالما يتم الحصول على يورانيوم مخصب بنسبة 20%، فإن الحصول على 90% قريب جدا"، لاسيما مع الاعلان عن التركيب الوشيك للجيل التالي من اجهزة الطرد المركزي.

ورغم ان طهران تتمسك بسلمية برنامجها النووي وحقها في امتلاك التكنولوجيا النووية وعلى الرغم من أن التخصيب غير محرم في معاهدة حظر الانتشار النووي، ولا يوجد حظر على الصواريخ البالستية في أية معاهدة، فان التقارير الغربية عادت لتسلط الضوء على ما تسميه الابعاد العسكرية لهذا البرنامج، زاعمة ان "طهران كثفت في الآونة الأخيرة من جهودها على ثلاثة محاور ضرورية من أجل تطوير برنامج نووي عسكري هي: تخصيب اليورانيوم، الخبرة العملية في التسلح، وبرنامج الصواريخ"، وأن إيران تعمل على تطوير صواريخ بالستية بأبعاد متزايدة قد تستخدم في حمل رؤوس حربية نووية. وتشير هذه التقارير في هذا السياق الى "اجراء ايران في شهر تموز/ يوليو المنصرم مناورات حربية قامت خلالها بإطلاق عدة أنواع من الصواريخ وكشفت النقاب عن وجود صوامع للصواريخ البالستية تحت الأرض". ووفقاً للباحث الفرنسي تيرتريه "تعمل إيران منذ سنوات طويلة على تكنولوجيا تمكن من تركيب رأس حربي نووي على مثل هذه الصواريخ".

وفوق ذلك اعتبر بعض الخبراء تعيين د. فريدون عباسي دواني رئيساً جديداً لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية بمثابة رسالة واضحة إلى الغرب حول إصرار إيران على السعي وراء طموحاتها النووية. فوفقاً لتقرير لمعهد العلوم والأمن الدولي (ISIS)، بالاستناد إلى خبير وثيق الصلة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، "كان فريدون عباسي دواني أحد العلماء الرئيسيين في برنامج إيران النووي العسكري السري، وانه على خلفية هذا الامر فرض قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1747 حظراً على سفر د. عباسي دواني إلى الخارج، وفيما بعد فرضت عقوبات عليه ايضاً من طرف الاتحاد الأوروبي"، مع الاشارة الى انه جرت محاولة فاشلة لاغتياله في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010 خلال هجوم عليه بقنبلة في طهران.

وبناءً على ما تقدم قدم موقع "تيك دبكا" الاسرائيلي على شبكة الانترنت في تقرير تحليلي نشره الثلاثاء الماضي (2 آب/ اغسطس 2011)، تفسيراً للمبادرة التي اطلقتها موسكو لانهاء تدريجي للعقوبات على ايران بموافقة اميركية، مشيرة ضمنا الى اقتناع ادارة باراك اوباما استنادا الى "تقارير خبراء كثر في الغرب بأن عقوبات الأمم المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، على إيران فشلت، وليس لها أي تأثير على وتيرة تقدم البرنامج العسكري النووي الإيراني".

وبحسب مصادر "تيك دبكا" في موسكو وواشنطن فإن مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى ألمحوا الى مسؤولين روس أنه إذ ما نجحت موسكو في الحصول على موافقة طهران على خطوة كهذه، فواشنطن لن تعارض وتعيق عمل الروس وستنتظر نتائجها .

وتقوم الخطة التي عرضها وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" في منتصف شهر تموز/ يوليو المنصرم على الصيغة التالية: "كل مرة ستقدم فيها طهران أجوبة مقنعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن أسئلة أو قلق لها حيال الشبهات بان إيران تعمل على تطوير سلاح نووي عسكري، فانه يتم تشجيعها على الاستمرار بسياسة التعاون هذه، على أن يشمل قسم من التشجيع تجميد بعض العقوبات على إيران".

وبحسب المعلومات التي ينقلها الموقع الاسرائيلي فان موسكو تلقت موافقة ايرانية مشروطة للجلوس مع الروس والتباحث في هذه الاقتراحات، مع حفظ حق طهران بتقديم اقتراحات سيناقشها الطرفان، وقد وافقت القيادة الروسية على قبول هذا الموقف الإيراني كنقطة بداية للتباحث في اقتراحات "لافروف"، حيث سيصل في الخامس عشر من آب/ اغسطس الجاري الى طهران مستشار الأمن القومي الروسي "نيكولاي بتروشيف"، وبعد يومين من ذلك في 17 آب سيصل الى موسكو وزير الخارجية الإيراني علي اكبر صالحي لمتابعة المباحثات.

وفي مقابل الاستجابة الايرانية للعرض الروسي فان موسكو ستواصل ممارسة معارضتها في مجلس الامن الدولي بواسطة الفيتو لمنع ادانة القيادة السورية والحؤول دون اية اجراءات عسكرية ضد سوريا على غرار النموذج الليبي. اما واشنطن التي لا تنتظر الكثير من هذه المبادرة لمعرفتها بصلابة الموقف الايراني وعناصر القوة التي تحتفظ بها طهران من الناحيتين القانونية والمادية، فانها على الاقل توحي لمن يطالبها باللجوء الى الحرب، في الداخل والخارج (اسرائيل)، بان الملف النووي الايراني لا يزال قيد المتابعة، وانه مع الفرصة الروسية الجديدة لم يتم استنفاد الخيارات الديبلوماسية بعد، وهي العبارة الاكثر تعبيرا عن العجز الاميركي والتي لا تستطيع واشنطن ان تفعل شيئا غير تكرارها، قبل ان تضطر للاعتراف بايران دولة نووية بامتياز لم تستطع ان تفعل معها شيئاً عندما كانت القوة الاميركية في اوجها، فكيف اليوم وهي تعيش زمن التراجعات واالخسائر.
2011-08-06